صفحة الكاتب : رائد عبد الحسين السوداني

أمريكا ،والغرب ،وسلاح الثقافة
رائد عبد الحسين السوداني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 أظهر المسؤولون الأمريكان أنفسهم ،إثر الاحتجاجات العارمة التي شهدها العالم الإسلامي ،وحتى العالم الغربي على انتاج فيلم سينمائي يسيء إلى الرسول (محمد صلوات الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ) ،على إنهم بمنأى عن مثل هذه الممارسات التي تحدث في بلادهم ،وإنهم لا يتدخلون في أمور تخص حرية التعبير .والحقيقة إن العالم الغربي عموما وأمريكا على وجه الخصوص لا يمكنمها (وهنا أركز على الطبقة الحاكمة) أن يتجردا في ممارستهما للسياسة المتعلقة بالعالم الخارجي عن النوابع الثقافية لهما وحتى في الداخل ولأسباب عديدة ندرج بعضها هنا وقد اقتبسناها من مقال كنا قد نشرناه في 13/5/2010يقول " اقول ان الدين والثقافة مفهومان قد تداخلا فيما بينهما، فمن الصعب ان لم يكن من المستحيل ايجاد صيغة تفكك بها مفاهيم ثقافية لبلد ما وتجردها عن المفاهيم والموروثات الدينية، وبذلك تكون المؤثرات على الباحث والمفكر هي ثقافية ممزوجة بتعاليم دينية مهما حاول ان يتجرد عنها وقد اصبحت هذه المؤثرات محركات اساسية للسياسيين في الغرب على وجه الخصوص، وهنا للتذكير اقول عندما جاء اوباما صيف 2009 الى القاهرة ليوجه رسالة الى المسلمين عبرها فهو لم يأت بجديد الاقوله ان العلاقة بين امريكا واسرائيل غير قابلة للكسر فالروابط بينهما هي روابط ثقافية وتاريخية، ولو عدنا الى الوراء نجد ان الطرفين لايمكن ان يوصفا بالبلدان التاريخية بكل المقاييس الزمنية والحضارية وغير ذلك، لكن مايربطهما هو شيء اعمق من هذه واعني الرابطة الدينية فكلاهما يرتبط بالتعاليم التوراتية، فاساس امريكا ديني يؤمن بالمذهب البروتستانتي  وحتى رحلة كريستوفر كولمبس (هي في واقع الامر رحلة دينية تبشيرية ففي الواقع التاريخي اذا رجعنا الى ماقبل ذلك، لوجدنا لرحلة كريستوفر كولمبس اساسا دينيا، فضلا عن الاسباب التجارية التي تتمثل في اقتصاد الذهب والفضة لمحاربة المسلمين وتخليص بيت المقدس من ايديهم مع نشر المسيحية الكاثوليكية في اسيا) وعن تبرير المهاجرين الاوائل لحربهم ضد السكان الاصليين في امريكا كان التبرير دينيا فـ (عندما قاتل المهاجرون الهنود الحمر اعتبروا انفسهم بني اسرائيل يقاتلون من حولهم من الاغيار) وحتى (عندما ثار الامريكيون على الحكومة البريطانية في سبعينات القرن الثامن عشر، اعتبروا انفسهم مجددا بني اسرائيل والحكومة البريطانية هي فرعون موسى). اذن التأسيس على اساس ديني وتحرير الارض على اساس ديني فكيف يكون الحراك الثقافي لو صح التعبير وهل يستطيع الباحث او المفكر ان يفكك المفاهيم الثقافية عن الدينية، وهناك مفاهيم يشترك فيها الامريكي المسيحي البروتستانتي مع اليهودي عموما واليهودي الصهيوني على الاخص وهي مفاهيم شعب الله المختار، وارض الميعاد وغير ذلك، فلما تكون الهجرة على اساس ديني واقامة الكيان السياسي على المباديء الدينية فهل نستطيع ان نجرد الثقافة عن الدين، وايضا سؤال هل يستطيع احد ان ينكر ان اسرائيل قامت بحجج دينية، وانها استولت على ارض فلسطين بدعاوى تاريخية دينية، وشردت ساكنيها بحجة ان هذه الارض هي لشعب الله المختار، وانها ارض الميعاد لهم، واستولت على بيت المقدس بحجة وجود هيكل سليمان هناك واجرت عدة تنقيبات وحفريات هناك مما عرض الحرم القدسي الشريف الى خطر الانهيار، وادعت ان حائط البراق الذي يقدسه المسلمون هو حائط المبكى، ان هذه الادعاءات ليس من حاخامات اليهود بل هي من رجال السياسة الاسرائيليين. هذا من الجانب الامريكي الاسرائيلي، اما الجانب الاوربي نجد ان فرنسا اخذت على عاتقها مع المانيا ولو بصورة اخف معارضة انضمام تركيا المسلمة الى الاتحاد الاوربي المسيحي وتركيا هي عضو فاعل في حلف شمال الاطلسي، كذلك ان في فرنسا جدل اصبح شبه دائم ومن سنين حول النقاب في المدارس من قبل الطالبات المسلمات ويجهد الرئيس الفرنسي نفسه في هذا الوقت من اجل استصدار تشريع من البرلمان يمنع بموجبه ارتداء النقاب في الاماكن العامة وايضا يجري في بلجيكا مايجري في فرنسا. والسؤال السياسة هل هي من صلب الحراك الثقافي الديني ام تنفصل عنهما، فاذا اخذنا بقول الباحث الغرباوي بان اطار البحث هو الاديان والثقافات، وقد يتعدى الى مساحات اخرى كالسياسة مثلا، اقرأ من هذا النص ان التأثير معدوم وحتى لو وجد فهو قليل، لكنني اجد من الصعب الفصل بينها واقرب الى المستحيل ان يتجرد الكاتب او الباحث عن مفاهيمه او حتى الموروث الثقافي الديني الجمعي لو صح التعبير، وكذلك السياسي، وان الكاتب يكتب للسياسي وكلاهما في منظومة متكاملة، فمثلا عندما كتب المستشرق بروكلمان كتابه تاريخ الشعوب الاسلامية ماذا اراد ؟ الجواب من نفس المستشرق حيث قال (لاتزال كتابة تاريخ الشعوب والدول الاسلامية منذ نشأتها حتى الوقت الحاضر ضربا من المحاولة الخطرة، لان مصادر مثل هذا التاريخ لم تصبح بعد متناول البحث، ولم تخضع بعد للتحليل النقدي. وليس يجرؤ فرد واحد على النهوض بهذا العبء. ومع ذلك فمن الخير، في ما يبدو. ان نقدم للمعنيين بمسائل السياسة الدولية نظرة طائر عن مصاير المسلمين التي تتشابك اليوم بأحداث العالم على العموم بأكثر مم تشابكت في وقت مضى) ويمضي بروكلمان بالقول (ولقد حاولت ان اقدم الى قراء هذا الكتاب، بالاضافة الى التاريخ السياسي، لمحة عن الحياة الثقافية والفكرية بقدر مايسمح مجال هذه الصفحات المحدودة). وهذا يؤكد القول انك عندما تدرس التاريخ السياسي او السياسة والحياة السياسية لابد لك ان تدرس الاسس والمنطلقات الثقافية والفكرية فلا استغناء مفهوم عن مفهوم، ويؤكد بروكلمان صعوبة ان يتحمل كاتب بمفرده او مستشرق يريد ان يدرس الشرق عبء هذا المشروع، وقد صدرت هذه الملاحظة عن بروكلمان فلأن المانيا لاتمتلك منظومة تتكون من السياسي والمستشرق والكنيسة للتحمل هذا العبء، (فالمانيا ساحة صراعها ليس البلاد العربية والاسلامية بل ساحة صراعها اوربا فهي مثلا لها اطماع في النمسا، وبعض اجزاء من يوغسلافيا السابقة وإن حدث تحالف في الحرب العالمية الاولى بين المانيا والدولة العثمانية إلا للإستفادة من العثمانيين ولتضييق الخناق على أوربا ، وفي الحرب العالمية الثانية لم يظهر هتلر اهتماما بالمنطقة العربية مثلما اهتم في وسط اوربا وشرقها وحتى الاتحاد السوفيتي) لكن بروكلمان يدعي انه من الخير ان يتقدم بخطوة تفيد المعنيين العاملين بالسياسة، وعندما يأتي بروكلمان على ذكر البعثة النبوية الشريفة فانه لايشكك بل ينفي اي وجود للوحي السماوي، كذلك انه يصر على ان الرسول الاكرم صلوات الله عليه وعلى اله وسلم انه يبدل الايات القرانية الكريمة حسب مقتضيات الحالة الراهنة التي تجر عليه بالفائدة في نشر دعوته، ويصر على وجود ايات لاوجود لها اصلا في القران الكريم مثل اية الغرانيق، وللايضاح اكثر نقتبس هذه النصوص من بروكلمان وكتابه تاريخ الشعوب الاسلامية، فمثلا يذكر بروكلمان عن حياة الرسول الاولى وشبابه ومن ثم بدء الرسالة بكلام يعبر عن كل مايريده عن نفيه للوحي الالهي فيقول (شعرت خديجة نحوه بتعلق شديد، على الرغم من انها كانت تكبره بخمس عشرة سنة تقريبا، فعرضت عليه الزواج منها فقبل. والذي يبدو ان هذا الزواج لم يضمن له حاجاته المادية فحسب. بل حمل اليه الارتياح من نواح اخرى ايضا. ولقد ولد لمحمد من خديجة اربع بنات، وصبيان لم يلبثا ان توفيا في سن الطفولة. وليس من شك في انه انصرف بعيد زواجه الى تحقيق مشروعات زوجه التجارية في حماسة وعزم، كما لم ينكر في مراحل حياته التالية، انه كان تاجرا. وكان مولعا في حديثه المجازي بالصور والاستعارات التجارية) واعتقد ان هذا علام خطير جاء به بركلمان في سياق فقرة تتحدث عن زواج الرسول من الصديقة خديجة الكبرى (عليها السلام) وعن رحلته التجارية في بضاعة للسيدة خديجة ليصور الرسول الاكرم بالتاجر ومارسالته السماوية الا تجارة مادية والدليل احاديثه المجازية.

ويمضي بروكلمان في محاولته تفنيد الهية الشريعة الاسلامية وسماويتها فيقول (ولكنه على مايظهر اعترف في السنوات الاولى من بعثته بالهة الكعبة الثلاث اللواتي كان مواطنوه يعتبرونها بنات الله. ولقد اشار اليهن في احدى الايات الموحاة اليه بقوله (تلك الغرانيق العلى وان شفاعتهن ترضى). اما بعد ذلك حين قوي شعور الني بالوحدانية فلم يعترف بغير الملائكة شفعاء عند الله، وجاءت السورة الثالثة والخمسين وفيها انكار لان تكون الالهة الثلاث بنات الله. ولم يستطع التقليد المتاخر ان يعتبر ذلك التسليم الا تحولا اغرى به الشيطان، ولذلك ارجئت حوادثه الى اشد اوقات النبي ضيقا في مكة، ثم مالبث ان انكره وتبرأ منه في اليوم التالي) ، وقد يقول قائل انك هنا تحاجج بكتاب عنوانه تاريخي ولابد من ذكر هذه الاحداث، والجواب على هذا التساؤل هو ان بركلمان لا يذكر حوادث تاريخية فيما اقتبسناه، بل هي فقرات تفند وتحطم العقيدة فهو يتكلم صلب العقيدة ويضعها في اطار تاريخي، وكأنه يسرد واقعة وليس تفنيدا لعقيدة، ورسالة سماوية، وما محمد الا شخصا قد هيأ له انه يستمع الى الوحي جبرئيل حيث نقرأ (ولكن بينما كان بعض معاصري النبي، كأمية بن ابي الصلت شاعر الطائف، وهي بلدة بحذاء مكة، يكتفون بوحدانية عامة، كان محمد يأخذ بأسباب التحنث والتنسك، ويسترسل في تأملاته حول خلاصه الروحي، ليالي، ليالي بطولها في غار حراء، قرب مكة. لقد تحقق عنده ان عقيدة مواطنيه الوثنية فاسدة. فارغة، فكان يضج في اعماق نفسه هذا السؤال: لماذا يمدهم الله في ظلالهم، مادام هو عز وجل قد تجلى، اخر الامر، للشعوب الاخرى بواسطة انبيائه؟ وهكذا نضجت في نفسه الفكرة انه مدعو الى أداء هذه الرسالة، رسالة النبوة، ولكن حياءه الفطري حال بينه وبين اعلان نبوته فترة غير قصيرة، ولم تتبدد شكوكه ألا بعد أن خضع لأحدى الخبرات الخارقة في غار حراء. ذلك بأن طائفا تجلى له هناك يوما، هو الملك جبريل، على ماتمثله محمد في ما بعد، فاوحى اليه ان الله قد اختاره لهداية الامة. وامنت زوجه، في الحال، برسالته المقدسة، وتحرر هو نفسه من اخر شكوكه بعد ان تكررت الحالات التي ناداه فيها الصوت الالهي وتكاثرت. ولم تكد هذه الحالات تنقضي حتى اعلن ماظن انه قد سمعه، كوحي من عند الله) في هذا الكتاب يلاحظ القاريء العادي فضلا عن الباحث بأنه يمثل في متنه المنظومة الدينية – الثقافية – السياسية، وهذا مادرج عليه المستشرقون في ابحاثهم والسياسيون في تنفيذهم (لأجندتهم) وهذا يبين (ان السياسي والكاتب لا يستطيع ان يتجرد عن تراكماته الثقافية وهو ما يحصل للمستشرقين في دراستهم لنا، والامر الاخر هو الايمان بأن الدين محرك اساس في السياسة الدولية خصوصا لامريكا) وامامنا نموذج اخر يبين تلازم الثقافة مع العقيدة وهو المستشرق نيكلسون الذي ألف كتابا بعنوان (تاريخ الادب العباسي)، والحقيقة وقبل ان نسترسل مع نيكلسون اقول (أن المستشرقين اهتموا بالغا بدراسة الادب العربي، لا لدراسة انماطه الفنية، بل لدراسة التاريخ العربي من خلاله، وعلى وجه الخصوص دراسة العقائد التي وجدت في العصور الاولى في التاريخ الاسلامي، وكذلك دراسة الوضع الاجتماعي والحالة السياسية في ذلك الوقت ليبني عليها موقفا فكريا، ومن ثم سياسيا). وعليه فان رينولد نيكلسون يبدأ كتابه (وفي مدخل كتابه، في اول سطر نجد هذا القول (ان لاعتقاد المسلمين في ظهور مسيح منقذ خرق على تاريخهم الديني والسياسي، فلا عجب أن ينغمر الاف الناس المتذمرين تمام التذمر من الحياة كما في الفترة الشقية من حكم الامويين في احلام <زمان طيب مقبل > توقعوه مطابقا لنهاية القرن الاول للهجرة، وطافت التنبؤات الغامضة والاقوال المنسوبة الى محمد نفسه ونبؤات الحرب والخلاص جائية ذاهبة هنا وهناك، وعكف الناس على كتب الغيبيات وتساءلوا ما اذا لم تكن فترة التشويش والهرج التي تسبق –كما هو معلوم – ظهور المهدي قد بدأت فعلا) طبعا هو يعرف ان المسلمين وخصوصا الشيعة يعتقدون بظهور الامام المهدي، وان السيد المسيح سيصلي خلفه اعترافا بامامته، طبعا هو استخدم مفردة (مسيح) بدون الف ولام حتى لايقال انه يقصد المسيح لكن مجرد انه ذكرها اراد ان يهدم شيئا ويبني شيئا اخر، ثم انه يعزو استمرارية الظلم وعدم التغيير السياسي الى انتظار الناس الى الفرج دون فعل شيء، اي ان المسلمين شعب سلبي لايبادر بالقيام بعمل اي امر ضروري)، ثم ينتقل الى التاريخ ويصل الى حركة الشيعة قبل الاطاحة بالحكم الاموي وكذلك حركة العباسيين التي ترمي الاستئثار بالسلطة قبل ان تستولي عليها، وذلك باستمالة الشيعة الى حركتهم ومن ثم الانقلاب عليهم حيث يقول (بينما كان دعاة الشيعة مشغولين بصورة فعالة في كسب التأييد لحزبهم الذي في علي وذريته، كما رأينا، الخلفاء الشرعيين الوحيدين لمحمد (ص) فان فرعا اخر من النبي (ص)- وهم العباسيين – دخل الميدان وهو يضمر قلب اعمال العلويين لصالحه، وقد ورثوا من جدهم الاعلى، العباس عم النبي (ص)، صفات الحذر والظهور بمظهرين والحكمة الدنيوية، وهي الصفات التي تضمن النجاح في التامر السياسي) كذلك ان نكلسون كان لابد له وهو يتناول الادب العباسي والتاريخ السياسي، ان يدرس العقائد او الفرق التي وجدت بعد استلام العباسيين للحكم بعد ان قضى على حكومة بني امية ففي الفصل الثالث الذي اسماه (السنة والزندقة والتصوف) فانه درس فيه (المعتزلة) وافكارهم، وخصومهم، وكذلك نهايتهم وكيف (حولت اسلحتهم المنطقية والديالكتيكية ضدهم بنجاح ظافر) لكنه يقول ان افكار المعتزلة ومبادئهم قد (مهدت الطريق لحركات حرة اخرى كحركة اخوان الصفا التي حولت ان توفق بين السلطة والعقل وبناء نظام عام لفلسفة دينية). وكزميله سعى نكلسن الى ان يجعل كل فعل تقوم بها اي فرقة اسلامية مهما كان النظر اليها من قبل الشريعة نفسها فانه سعى ان يجعلها مستوحاة من تعاليم المسيحية، هنا يقتبس نكلسن عن دي غويه مايلي (اعتقد قبل كل شيء ان من الصواب التاكيد على ان المباديء الفلسفية للاسماعيلية متضمنة برمتها في رسائل اخوان الصفا ؛ وهذا مايفسر الاغراء الخارق الذي مارسه المبدأ بين صفوف الجديين من الرجال وباضافتها عقيدة (الامام المستور) الذي يجب ان يظهر يوما ما ليملأ الارض عدلا <كما ملئت جورا> حققت انصهار كافة المباديء المثالية للمسيحية والافلاطونية) اما عن التصوف يقول نكلسن (لقد تتبعنا تاريخ التصوف في الاسلام من حركة التنسك في القرن الاول، تلك التي انبثقت معها الاجتياز الى خارج نطاق التاثير الاسلامي وتدخل طريقا غريبا لم يحلم به النبي) بطبيعة الحال هو يبغي من هذه الفقرة نتيجة مؤداها ان التصوف ليس مبدئا محض اسلاميا وانما دخلت عليه المؤثرات الخارجية من الاديان الاخرى او كما ينقل عن فون كريمر الى تطفل عنصر اجنبي غير اسلامي،  ويلخص نكلسن مايراه البروفسور براون عن الصوفية مايلي، أ-التصوف مدين بوحيه الى الفلسفة الهندية ولاسيما الفيدانتا.

ب-ان اكثر الافكار المميزة للصوفية ذات اصل فارسي.

ج-ان هذه الافكار مستنبطة من الافلاطونية الجديدة.

وفي الصفحات التالية يحاول نكلسن ان يبين انه لايؤمن بان التصوف من هذه الاصول، لكنه يخلص الى النتيجة ذاتها وقوله هو (ليس من شك في ان اصل التصوف ونموه في الاسلام يعتمد في النهاية كما في سائر الاديان على اسباب وشروط عامة وليس على ظروف خارجية، فمثلا ان الفوضى السياسية في العصر الاموي، واتجاه الشك لصدر الدولة العباسية ولاسيما المراسيم الجافة للفقه الاسلامي لم تخفق في اثارة حركات مضادة تجاه المسكنة والسلطة الروحانية والايمان العاطفي ؛ولكن رغم ان التصوف لم يخلقه اي دافع خارجي (وهذا اوضح من ان يحتاج الى نقاش) فان التاثيرات التي انا على وشك التحدث عنها قد اسهمت اسهاما كبيرا في جعله على ما هو عليه وتلوينه تلوينا عميقا بحيث لايسع اي دارس لتاريخ التصوف اهمالها) ، لم يستطع نكلسن الا ان يكون هو فعاد وقرن التصوف بمؤثرات خارجية من خلال اشارته الى ائمة هذا المذهب مثل معروف الكرخي وذلك بقوله (لقد ولد في اطراف واسط احدى مدن بلاد الرافدين العظيمة ويدلنا اسم والده (فيروز) او (فيروزان) على ان فيه دما فارسيا وكان معروف مولى لامام الشيعة عي بن موسى الرضا وقد اسلم على يده لانه نشأ مسيحيا (هكذا تقول الروايات) او ربما صابئيا) ، مايهمني في هذا النص فقرة "على ان فيه دما فارسيا " ان نكلسن يريد ان يحاكي المشاعر القومية، وانه يعرف ان الاسلام مبدأه الاساس هو "لافرق بين عربي واعحمي الا بالتقوى " فالتقوى والعمل الصالح هي التي ترفع من شأن الفرد في الاسلام دون لونه، او طائفته، او قوميته، وحتى ماله ووجاهته، وكم من فقير رفعه الاسلام الى درجات عليا من خلال علمه وتقواه، وكذلك يريد ان يبين ان التأثيرات الفارسية موجودة في تصوف معروف الكرخي. إن المفكرين في الغرب عموما لا يستطيعون إلا أن يرتبطوا بمؤسسة فكرية أو كنيسة ،أو ينتمون إلى مراكز قوى توجههم حسب سياستها وتقولب كتاباتهم إلى حيث تريد وتبغي ،وإن حدث وشذ أحدهم عن إرادات هذه المؤسسات فإنه يُحكم عليه بأن يكون منبوذا مهما علا شأنه العلمي كنعوم تشومسكي عالم اللغويات واللسانيات الأمريكي  الشهير ،لمجرد إنه ينتقد الطريقة الأمريكية في التعامل مع الحكومات والشعوب الأخرى ،مهما كان شكل هذه الحكومات حتى لو كانت هذه منفذة طيعة بيد الإدارات الأمريكية ،فالتعامل هنا يكون من الأعلى مع الأدنى (سأقتبس في السطور القادمة من كتاب ،الاستشراق والتبشير تأملات في دورهما السياسي لكاتب هذه السطور).وهنا يقول إدوارد سعيد في هذا النص (لم تكن الثقافة الامبريالية خفية لا مرئية كما أنها لم تخف وشائجها ومصالحها الدنيوية ) ويركز المفكر إدوارد سعيد على الثقافة الامبريالية لكل من بريطانيا وفرنسا وأمريكا ،أما لماذا فيقول في كتابه المهم والقيم الثقافة والامبريالية (لم تكن الثقافة الامبريالية خفية لا مرئية كما أنها لم تخف وشائجها ومصالحها الدنيوية) وهنا يقول سعيد عن سبب تركيزه على هذه القوى الثلاث (وعلاوة على ذلك فثمة عدد من الامبراطوريات التي لا أناقشها :النمساوية والهنغارية والروسية والألمانية والإسبانية والبرتغالية لكن هذا الحذف لا يقصد منه أبداً الإيحاء بأن السيطرة الروسية على آسيا الوسطى وأوربا الشرقية ،وحكم استانبول للعالم العربي ، والبرتغال لما هما اليوم أنغولا وموزنبيق ،وإسبانيا في كلا المحيط الهادي وأمريكا اللاتينية كان لطيفا وبالتالي موضع قبول أو أقل امبريالية .

      إن ما أقوله عن التجربة الامبريالية البريطانية والفرنسية والأمريكية هو إنما كانت تملك تناسقا وتماسكا فريدين ومركزية ثقافية متميزة ) وهنا يجب أن خطا عريضا تحت مفردة مركزية ثقافية متميزة.ويقول إدوارد سعيد في مكان آخر (إن طريقتي هي أن أركز بقدر المستطاع على أعمال فردية أن أقرأها أولا كنتاج عظيم للخيال الخلاق والتأويلي ثم أجلو كونها جزءا من العلاقة بين الثقافة والامبراطورية ،أنا لا أؤمن أن المؤلفين يتحدون بصورة آلية بالعقائدية [أيدلوجيا]     والطبقة أو التاريخ الاقتصادي بيد المؤلفين كما أؤمن إنهم كائنون إلى حد بعيد في تاريخ مجتمعاتهم يشكلون ويتشكلون بذلك التاريخ وبتجربتهم الاجتماعية ) ويركز إدوارد سعيد كما يذكر أيمن شرف على (المؤسسات التي تخدم إدارة الاستعمار الغربي للشرق ويرصد سعيد الارتباط بينها جميعا لتكون معا نظاما للحقيقة والسيطرة وهيمنة مركبة يمكن من خلالها نقل النصوص التي أصبحت أساس علم الاستشراق وترجمتها والتي استخدمت لإثبات بداوة الشرق واحداره وتعصبه ،ومن ثم ،ضرورة رسالة الغرب الحضارية له) .

هذا على مستوى الثقافة المكتوبة وفي جزء يسير منها ،أما على الجانب المهم الآخر ،الإعلام والسينما،ويتمثل الإعلام في جانبه الأهم وأعني به المرئي وهو التلفزيون الذي استغل لإيصال رسالة دينية سياسية وعلى النحو الآتي (ونصل الان الى صورة اندكاك الدين في السياسة والعكس هو الصحيح وخصوصا في مركز القرار الدولي واعني بها امريكا ويتمثل في الصورة كل من "بات روبنسون " و"جيري فالويل "و"فرانكلين بيل غراهام ".

اما بات رونسون وهو (من رجال الدين المسيحيين الذين استغلوا التلفزيون والذي يقدم عبر شاشته (نادي السبعمائة) ويبلغ عدد مشاهديه الى (16، 3) مليون شهريا، "وهوالمؤسس والزعيم التاريخي لمنظمة (التحالف المسيحي) اكثر الحركات القاعدية نفوذا وسطوة في السياسة الامريكية المعاصرة " ويعتبر هذا المبشر الوجه البارز او قل هو واجهة التحالف المسيحي مع الحزب الجمهوري الامريكي، كذلك يملك مع زميله (فالويل) سطوة على السياسيين الامريكان).

واما جيري فالويل فهو القس والمبشر الشهير او من اشهر الذين استخدموا التلفزيون وبشكل واسع جدا [29] (وهو الذي استخدم الاعلام منذ العام 1956حيث ابتدأ في الاذاعة ببث برنامجه الذي سرعان ما تحول الى برنامج تلفزيوني عنوانه (ساعة الانجيل القديم)بلغ عدد مشاهديه (5، 6) مليون مشاهد والبرنامج الثاني هو (جيري فالويل لايف) بلغ عدد مشاهديه (34) مليون مشاهد شهريا) ويعتبر فالويل مناصرا شديدا لاسرائيل وقد انتقد بشدة موقف بيل كلنتون لانه ضغط على اسرائيل من اجل توقيع معاهدات سلام مع الفلسطينين وهو (الذي يقول في موعظة من مواضعه التلفزيونية "ان كل من يشير بأصبعه اشارة الى اليهودي، فكأنما يضع اصبعه في عين الله ولان اليهودي هو بؤبؤ الله) وهو الذي يذكر ل(ميريل سايمون الذي الف كتابه الموسوم (جيري فالويل واليهود) يقول :اكدت مرارا ان وجود مجتمع يهودي عالمي مزدهر لايمكن تفسيره الا بالرجوع الى وعود ونبؤات العهد القديم بان الله سيحفظ اسرائيل الى الابد) ونستمر مع فالويل رجل الدين والمبشر المسيحي في اندكاكه كرجل له صفة روحية عند الملايين او قل عشرات الملايين في السياسة واتخاذه خطا يجعل من نصرته امرا مقدسا، فهو يقول (في نفس الكتاب :الشيطان عدو الله، والله قد اختار الشعب اليهودي وباركه لانه عائلته المختارة لذلك فان الشيطان يحاب الله في الشعب اليهودي) ، وهذا زخم روحي بطبيعة الحال واعطاء قدسية لكل ماتقوم به اسرائيل، وكذلك اشارة الى الامريكان الساسة منهم ودافعي الضرائب على حد سواء بأن اسرائيل ورعايتها بكافة المجالات واجب له قدسية في امريكا، وان عكس ذلك محرم لا بل غير مسموح به. ويعتقد فالويل ان الله يوكل لمخلوقاته ويستعملهم كوسائل لتحقيق برنامجه لهذا الكون ، ولهذا يقول (انا شخصيا اشعر بمسؤلية كبيرة في تثقيف الشعب الامريكي حول اهمية دعم اسرائيل والشعب اليهودي في كل مكان، وانا ادرب الاف الدعاة والوعاظ الدينيين لحمل المسؤلية نفسها ففي كلية ليبرتي المعمدانية وفي مدارسها نتولى تعليم (6ألاف)طالب على هذه القضية) وبطبيعة الحال ان هذا لايشمل مفصلا واحدا في المشهد السياسي الامريكي كالحزب الجمهوري واليمين المسيحي بل يشمل حتى قادة الحزب الديمقراطي.

اما العنصر الاخر في مشهد اندكاك الدين في السياسة الامريكية هو فرانكلين بيل غراهام وهو القس الذي يعتبر المرجعية الدينية بالنسبة الى الساسة الامريكان وخصوصا الرؤساء منهم، وهو (الذي جعله جورج دبليو بوش واعظا خاصا لوزارة الدفاع (البنتاغون)وكذلك له شخصيا) وهو رجل ينظر الى الدين الاسلامي مثلا باستعلاء وعنصرية شديدة ونظرة فوقانية حتى على الله ان صح التعبير  فهو يقول ان الله الذي يؤمن به هوليس الله الذي يؤمن به السلمون، بطبيعة الحال ان فرانكلين غراهام من أن يقال عنه قد جاء من فراغ سياسي اوديني حتى حط في اسرة الرئيس بوش، (فقد كان والده واعظا بل الواعظ الاول الخاص بالرؤساء الامريكان الجمهوريين) مثل ايزنهاور ونيكسون وفورد وريغان وبوش.

 

أما السينما فهي العبرة الحقيقية عن السياسة الأمريكية ،بعض من الذين انتموا إلى هذه المؤسسة وانطلقوا منها انتهت حياتهم كسياسيين في هذا البلد مثل رونالد ريغان الذي حكم معظم عقد الثمانينيات من القرن العشرين ،وهو جهموري محافظ وقد يعتبر المحللون أن انطلاق المحافظين واليمين المتطرف وسيطرتهم في الولايات المتحدة الأمريكية قد بدأت مع حكم رونالد ريغان القادم من هوليود .

      إن مراكز البحوث والدراسات لم تبتعد عن (هوليود ) فهي أيضا توجه صناعة السينما الأمريكية باتجاه البوصلة السياسية الأمريكية وهي تركز على أحقية أمريكا في عمل كل شيء،والقيام بسحق كل من يقف بوجه الإدارة الأمريكية .هذا وقد اتهم المخرج (اوليفر ستون هوليود بأنها تعمل على الترويج لفكرة أن الولايات المتحدة في حالة حرب ،وأبرز ستون فيلمي بيرل هاربر وبلاك هوك نموذجا حيا للأفلام التي عبدت آلة الحرب ) وقال ستون (إن العنف يشكل مشكلة ثقافية في الولايات المتحدة وقال إنه منذ عقد التسعينات ولاحقا شهدت السينما عودة الأفلام التي تمجد فكرة الحرب) ،علما إن هذا العقد هو العقد التي برزت فيه نظرية صراع الحضارات ،فهل يمكننا أن نفهم إن الفلم المسيء للرسول لا يحمل رسالة أريد منها جس نبض الشارع الإسلامي لقضية هي أبعد من فلم .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


رائد عبد الحسين السوداني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/09/18



كتابة تعليق لموضوع : أمريكا ،والغرب ،وسلاح الثقافة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 2)


• (1) - كتب : رائد عبد الحسين السوداني ، في 2012/09/21 .

اخي وصديقي الاستاذ ناصر عباس سلام من الله عليك ورحمته وبركاته.شكرا لتقييمك الذي يدفعني للمزيد

• (2) - كتب : ناصر عباس ، في 2012/09/19 .

صديقي الرائع الاستاذ رائد السوداني

اجدت في التحليل واصبت




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net