صفحة الكاتب : صبري الناصري

تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان
صبري الناصري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 تمثّل العشر الأواخر من شهر رمضان المبارك روح الشهر وخلاصته، وفيها يحصد العبد ثمرة أعماله الصالحة ويستشعر نتائجها بفضل الله تبارك وتعالى، ويهب الله تبارك وتعالى فيها من الألطاف والمنن لعباده، والبركات على موائده ما يزيد على ما قدّمه في سائر أيام الشهر ولياليه.
 
ويكفي في شرفها وعظمتها أن فيها ليلة القدر التي هي خير من ألف شهر، وفيها الليلة الأخيرة التي ورد أن الله تعالى يعتق فيها رقاباً من النار كمثل ما أعتق في جميع الشهر([2]).
 
ولذا حظيت هذه العشرة باهتمام كبير من لدن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والأئمة الطاهرين (عليهم السلام)، ففي رواية صحيحة عن الحلبي عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال: (كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا كان العشر الأواخر اعتكف في المسجد، وضربت له قبة من شعر، وشمّر المئزر وطوى فراشه)([3]).
 
وروي عن الإمام الصادق (عليه السلام) عن آبائه قال: (قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اعتكاف عشر في شهر رمضان تعدل حجتين وعمرتين)(4).
 
ومن الواضح أن المراد من الاعتكاف: روحه وجوهره، وهو الانقطاع عن كل ما يشغل عن الله تبارك وتعالى فضلاً عن المعاصي، وهذا ما قد يستطيع المؤمن تحقيقه في غير المسجد، أي في داره أو محل عمله، لكن الاعتكاف في المسجد الجامع الذي أقلّهُ ثلاثة أيام هو الراجح شرعاً وفضلاً في الشكل والمضمون.
 
وعلى هذا سار السلف الصالح متأسّين بنبيهم الكريم (صلى الله عليه وآله وسلم) حيث كانوا يخففون كثيراً من علاقاتهم الاجتماعية ويغيّرون نمط حياتهم ويتركون غير الضروري من المباحات ليتفرّغوا لعبادة ربّهم ومناجاته والاشتغال بما يقرّبهم إلى الله تبارك وتعالى.
 
إن الألطاف الإلهية الإضافية التي يمن الله تعالى بها على عباده في العشر الأواخر ليستشعرها المؤمن من خلال الشحنة الإضافية التي تدبّ فيه فينشط لطاعة الله تبارك وتعالى أكثر من غيرها، وتزيد همته للإتيان بما عجز عنه في غيرها.
 
وقد تضمنت كتب السنن والمستحبات أعمالاً لهذه الليالي تشكل برنامجاً يأنس به المؤمنون، ويشتاق إليه طلاب القرب من الله سبحانه، وهي موزعة تحت عدة عناوين كالأعمال العامة لشهر رمضان، والأعمال المشتركة للعشر الأواخر، والأعمال الخاصة بكل ليلة منها، مضافاً إلى الأعمال المشتركة والخاصة لليالي القدر في الليالي التي تحتملها.
 
وينبغي التفات إلى أنواع أخرى من الطاعات المعنوية كمحاسبة النفس وتذكر ما صدر من معاصي والندم عليها والاستغفار منها، والتفكر في العلاقة مع الله تبارك وتعالى بكل جوانبها كحب الله تعالى أو الشعور بالتقصير أمام عظيم نعمه أو الخجل من عدم أداء وظائف العبودية، ومن الأعمال أيضاً سماع الموعظة وما يرقق القلب، ومطالعة وصايا المعصومين (عليهم السلام) وسير الصالحين للتأسّي بهم، وقضاء حوائج الناس وإدخال السرور عليهم.
 
إن أول شعور للإنسان المؤمن حينما يبلّغه الله تبارك وتعالى العشر الأواخر من شهر رمضان هو العجز عن أداء الشكر لله تعالى على بلوغ هذه الأيام الشريفة ولم يجعله من السواد المخترم قبلها، أي الذين جاءهم الموت واخترمهم الأجل فلم يدركوا هذه الليالي الشريفة، فإن هذه العشرة أولى بالفضل والشكر من العشرة الأولى من شهر ذي الحجة التي ورد في أدعيتها (اللهم هذه الأيام التي فضّلتها على الأيام وشرّفتها قد بلّغتَنيها بمنّك ورحمتك فأنزل علينا من بركاتك وأوسع علينا فيها من نعمائك).
 
إن مما يؤسف له أن الحالة العامة للناس هي التراخي والفتور في هذه الليالي على عكس ما هو مطلوب من زيادة الهمة ومضاعفة النشاط وتكريس الإنسان نفسه لطاعة الله تبارك تعالى، حتى أن البعض يتوقف عن تلاوة القرآن بعد أن يختمه في ليلة القدر، مع أن شهر رمضان كله هو ربيع القرآن، ولعل لهذا الفتور عدة أسباب :
 
1- الغفلة عن عظمة هذه الليالي وشرفها وما أعد الله تبارك وتعالى فيها للعاملين .
 
2- إرهاصات العيد والاستعداد له بشراء الملابس وتهيئة الأطعمة ووضع برامج الاحتفال .
 
3- التعب من فريضة الصوم واشتياق الإنسان للعودة إلى ممارسة المباحات.
 
4- انتهاء مجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه والتبليغ والشعائر الدينية حيث تختم هذه المجالس في ليلة (21) أو(23) ونادراً ما تتجاوز ليلة (25) .
 
5- تحول برامج التلفزيون بشكل ملحوظ نحو المجون والفسق والفجور .
 
فتساهم هذه الأسباب وغيرها في عزوف الناس عن ارتياد المساجد وسماع الكلمات التي تشدهم إلى الطاعة .
 
لذا ينبغي لنا ونحن نستقبل هذه الليالي أن لا نفرط في استثمارها من خلال عدة نشاطات:
 
1- المواصلة على حضور المساجد وإقامة صلوات الجماعة والأدعية الجماعية الحاشدة .
 
2- الحث على القيام بعبادة الاعتكاف لمن يتيسّر له ذلك، فإنها من أعظم السنن وعقدها في المساجد الجامعة لأهل المدينة مع الالتفات إلى الاعتكاف المعنوي الذي ذكرناه، ومراقبة النفس بشدة خشية وقوعها في العجب والرياء والتباهي أمام الناس؛ لأن هذه الفعالية مظنة للوقوع في تلك الآثام فيفسد الإنسان على نفسه.
 
3- الاستمرار بمجالس الوعظ والإرشاد والتوجيه وإحياء الشعائر الدينية وإلقاء المحاضرات .
 
4- استثمار فترة إقبال النفس للقيام ببعض الأعمال التي اشرنا إليها .
 
5- الإكثار من الدعاء والتوسل إلى الله تبارك وتعالى وطلب الفوز بالجنة والعتق من النار والتعجيل لظهور بقية الله الأعظم وطلب قضاء حوائج الدنيا والآخرة له ولسائر المؤمنين .
 
6- اجتناب موارد الغفلة واللهو والعبث والصد عن ذكر الله تعالى كلعبة المحيبس ومتابعة التلفزيون وحضور مجالس البطالين.
 
فإذا علم الله تعالى منا الإخلاص ورأى حركة جماعية بهذا الاتجاه فسيرفع عنّا البلاء وسيعطينا فوق سؤلنا فإنه الكريم الرحيم الذي لا تنقص خزائنه ولا تزيده كثرة العطاء إلا جوداً وكرماً .
 
 من حديث سماحة آية الله العظمى الشيخ اليعقوبي استعداداً لدخول العشر الأواخر من شهر رمضان 1432 الموافق آب/2011."
 
 الكافي: 4/68، التهذيب: 4/193، من لا يحضره الفقيه: 2/60، ثواب الأعمال: 90، أمالي الصدوق: 56.
 
([3]) و (4) وسائل الشيعة: كتاب الاعتكاف، باب 1، ح1، 3.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صبري الناصري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/08/08



كتابة تعليق لموضوع : تذكرة في العشر الأواخر من شهر رمضان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net