الراحل محمد اديب كاظم وهاجس القراءة
عادل علي عبيد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عادل علي عبيد

دائما ما استحضر الحادثة التي رواها لي نجل استاذنا الراحل الشيخ (ماجد) وهو يطلب من والده المحتضر ان يوفر له اي وسيلة تريحه في آخر سني عمره ، وكان التلفاز والفديو في حينه يؤلف واحدة من هذه ، الا ان الراحل نظر اليه بعمق قائلا : اذا اردت راحتي فعليك بالكتاب ! اذهب واشتر لي كتبا ، تلك هي راحتي وذاك هو دوائي وانيسي وصديقي . ويؤكد جناب الشيخ ماجد ان الراحل راح يتصفح هذه الكتب والمجلات بشوق وشغف وانتماء عجيب ، جعله يهيم في عالم آخر ومثابات ممتدة ، ويضيف : لطالما وجدته غافيا نائما والكتاب بجنبه ، وكيف لا ، وهو الذي اوصاني بالقراءة وكررها عليّ مرات ومرات .
هذه الحادثة استوقفتني يوم امس امام مثقف واع قال لي : الاحداث كثر ، والمشاهد متنوعة ، والاخبار سريعة متغيرة ، والاوراق مكتوبة بطرق واساليب مختلفة ، والصور تتقافز امامنا تقافز القطط الفزعة ، والفديوات لا عد لها ولا حصر ، والمواقع الفضية والبنفسجية والرمادية والوردية تملأ الدنيا وتشغل الانام ..ولكن نح هذه عن مستخدمها تجده متخبطا بكلامه ، ولا تستوي عباراته ، ولا تتماسك حروفه امام كلامه ، فيفتقر الى الرؤية والنشيد والهدف ، حتى يصيح كلامه شاردا مبعثرا غير مستقر ، يفتقر و يخلو من وحدة الموضوع ، ويبتعد عن ربط الاحداث وتماسك الغايات ..قلت لمحدثي المثقف ان في عالم الشبكة العنكبوتية آلاف العناوين من الكتب وهي حديقة فكرية غناء فاقطف ما شئت من العلوم والمعارف . فأجابني : لا اقدر على قراءة اربع صفحات منها لاسيما وهذا الضوء الفضي يصيبني بالعشو او غيره مما يحول دون الرؤية .
اذن الحل سادتي بالقراءة المجردة من هذه الاجهزة التي تضم الكتب ، لا بل ان الكتب هي التي تضم هذه المواقع والمنصات الالكترونية والانترنيتية .. نعم القراءة الحاجة والقراءة الانتماء والقراءة الرسالة ... ولا اخفيكم ان الراحل (رحمه الله ) لطالما اسمعني عبارات جميلة في هذا الصدد ، ومن الطرائف التي سمعتها منه شخصيا ان ذكر لي يوما اسماء ادباء وكتاب ومفكرين لهم مكتبات خاصة في مكان الخلاء (اجلكم الله ) وهم يجدون في هذا المكان طقسا خاصا وراحة واستمتاعا بالقراءة ، بل انهم يديمون بهذه العملية التي هي جزء من برنامج قراءاتهم اليومية ، ويقيمون لها طقسا خاصا بهم . وذكر لي اسماء ادباء وكتاب اجانب يحتفظون بمكتبات عامرة داخل مرافقهم الصحية ! وبعيدا عن هذا الامر يؤكد الراحل على ان القراءة لها تأثير سحري واستثنائي على القارئ ، كما ان القراءة الواعية لا تعادلها معاهد وجامعات الحياة برمتها ، بل هي من تفتح الآفاق على هذه الجامعات بأنواعها واصنافها الفكري والاكاديمي .
ولمناسبة القراءة التي نحن بضمن دائرتها ، اتذكر ان الراحل قال لي يوما : ان لكل كتاب حكاية خاصة به وعالما مستقلا عن الآخر ، وان بعض الكتب قراءتها لأكثر من خمس مرات ، وكنت امر بها واتصفحها بشغف المحب ولوعة المشتاق .. وهناك كتب تغوص بأعماقها لتجد عوالم وسوح ومضامير بعيدة خصبة تجعلك لا تتخلص منها ، ولا تتركها او تغادر مساحاتها ، بل ان كتابا يسايرك كظلك ويرافقك كالصديق الخلوص والانيس الحبيب . واضاف ان لي مع كل كتاب حكاية وذكرى لطالما ذيّلت بعض عبارات في آخر هذه الكتب التي انتهيت من قراءتها او اعدت قراءتها لأجدها تحمل نصوصا جديدة ، ومعلومات متحفة ، واثراءات لا عد لها ولا حصر ، وهذا يعود الى اسلوب الكاتب الذي يعتمده ، اذ يجعل من كتابه لا ينتهي مع انتهاء عملية القراءة .
كما ان للقراءة اسلوبها المقدس والوقفي والكهنوتي ، فهي تغنيك عن الآخرين ، وتسلخك عن عالمك ، وتقودك لتعيش عالما بعيدا مخصوصا بك لوحدك . واذا شغلتك القراءة عن عالمك صرت عاشقا لها ، وتخليت عن علاقاتك الاجتماعية وواجباتيك العرفية ، وتقاليد حياتك . بل هي تشغلك ، بان تنسيك اهم معارفك ، الامر الذي جعل العامة ينعتون صاحبها بالجنون ، حتى رحنا نسمع من الآخرين ان فلانا جننته القراءة ! وهو فول شائع ما زلنا نكرره ونسمعه وللأسف .
المهم هنا سادتي انني انبه الى ان القراءة تصنع مجتمعا واعيا وناضجا ومنتجا ، لأنها تقف على تجارب وممارسات الآخرين الايجابية ، هذا اذا ما عرفنا ان ابرز الرجالات الذين قادوا مجتمعاتهم الى مضامير الانتاج والعمل والتقدم كانوا قراء عاملين ، استفادوا من تجارب الشعوب ، واستنسخوا اعمالهم ومشاريعهم ، واضطلعوا بطاقاتهم المحلية بعيدا عن دوائر الانزواء والاقصاء والخواء الفكري والثقافي الذي دائما ما يقود الشعوب الى الافلاس والامية والتخلف .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat