صفحة الكاتب : صالح الطائي

العراقيون والتاريخ المشترك وذكريات الماضي
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
 في داخل كل منا خزين ذكريات تمتد على مساحة العمر كله؛ بعضها حلو كالشهد والآخر مر كالعلقم، وهي بحلوها ومرها إذا استدعيت وعادت إلى الذاكرة تجدد فينا شعورا إما بالغبطة والفرح، وإما بالحزن والمرارة. والغريب أن الغبطة الأكبر تأتي غالبا من تلك الذكريات المرة التي نفتخر بأنا تجاوزنا عقدتها بالتوفيق أو بالجهاد والمقاومة والعناد حيث نشعر عندما نستعيدها بنشوة الانتصار مهما كان صغيرا وتافها وكأنه من محطات حياتنا التي نفتخر بها.
نحن الذين تجاوزنا الستين من العمر شاهدنا وعايشنا واشتركنا بوقائع ومواقف كثيرة ليست محرجة فحسب وإنما في منتهى الخطورة والرعب حيث كان الخوف يأكلنا والتوجس يرفع الادرينالين في دمنا، كان الخطر يترصدنا عند كل منعطف والهواجس تصور لنا خيالا يمر قربنا مصادفة وكأنه بعبع خرافي جاء يتوسد همومنا ليس لأننا جبناء رعاديد بل لكثرة ما مر بنا من رعب ومطاردة. 
نحن الذين تجاوزنا الستين من العمر عايشنا تنامي المد الشيوعي وأبصرنا سيارات (الزيل) مملوءة بالرجال والنساء من (المقاومة الشعبية) وهي تجول طرقات مدننا تستعرض قوتها أمامنا أو أمام غيرنا ـ هذا ما لم نكن نعرفه ـ ولكننا عرفنا أنها تبخرت بطرفة عين، وقرأنا قصاصات (البراءة) التي قدموها لينقذوا رقابهم من مقصلة جلاد لا يرحم. 
وعايشنا نزو البعث على عرش حكم العراق وأبصرنا ارتال (الحرس القومي) تستعرض في شوارع أحيائنا وأمام أبواب بيوتنا مدججة برشاشات (بور سعيد) التي قدمها جمال عبد الناصر كما تقدم قطر والسعودية اليوم السلاح للمعارضة السورية قدمها لتمتين أواصر الروح القومية والنزعة الوحدوية بعد أن أسهم في إزالة منافسه عبد الكريم قاسم وتخلص منه ختلا وغدرا. وعرفنا أنهم رموا تلك "الغدارات" في الشوارع وتبخروا بطرفة عين. وقرانا قصاصات (البراءة) التي نشروها في الصحف والمجلات ليبرئوا أنفسهم من جريمة الانتماء للبعث. 
وعايشنا حقبة حكم الأخوين عارف عبد السلام ثم عبد الرحمن حيث اشرأبت رقبة القومية والذيلية والطائفية مما دفع الشاعر الجنوبي للتغني بمرارة الواقع المتحيز:
مستاهل وحيل وياي ما عدلت جنسيتي
لو عندي ذرة من العقل جا سجلت تكريتي
لاوين ما ننطي الوجه نسمع بنغمة تكريت
عالعمل لو ردت انسئل من عانة أصلك لو هيت
شجابني بديرة علي يا ناس آني شسويت
بالحق أجيت وجلبت وتمزقت حدريتي
*    *    *
لا تظل تلف طول العمر محد يعينك تي تي
ثم عايشنا نزو البعث ثانية بحلته الجديدة التي زادتها تجربة الهزيمة ودروس الماضي وتجاربه وعبره إصرارا على المقاومة العنفية الدموية مهما غلت التضحيات، ومنذ عام 1968  فصاعدا كنا عالقين وسط دوامة الضياع بين الصدق والخديعة فظاهر الشعارات يتناغم مع مطالبنا وروحنا الوطنية، أما الواقع وترجمة الشعارات على الأرض فهي أبعد ما تكون عن قناعاتنا، ولكننا لم نكن نملك خيارا ولاسيما وان هناك أكثر من درس دموي وعبرة مؤلمة قدمها البعث جهارا نهارا لكي نرعوي ولا نطالب بحق أو باطل، وبعد أن رسخ البعث قواعده وسيطر على مقاليد أمور البلد وقواته وشرطته ومؤسساته الأمنية أدخلنا قسرا في تجربة حرب (البوابة الشرقية) التي قاتلنا فيها بالنيابة عن رعاديد الخليج وباقي الأعراب الطائفيين، وكنا على مدى ثمان سنوات ننام ونصحو سوية، نجوع ونشبع سوية، نقف أمام الخطر والموت والرعب الذي يترصدنا سوية، ليلا ونهارا تتجدد الأيام ونحن عالقون في فخ (القادسية) لا تميز شيعينا من سنينا ولا عربينا من كردينا ولا مسلمنا من مسيحينا ولا مؤمننا من منافقنا، كلنا نلبس اللباس العسكري ونوجه فوهات أسلحتنا إلى عدو مصطنع يقف قبالتنا لا ندري لماذا نقاتله ويقاتلنا بدل أن نجتمع سوية لقتال أعدائنا الحقيقيين. 
ثمان سنوات عشنا فيها قصصا ومغامرات تحولت إلى تاريخ شخصي لكل منا نتذكرها، نتذكر الأسماء والوجوه والمواقف لنكتشف أنها ليست تاريخنا الشخصي لوحدنا بل هي تاريخ مشترك بين أبطالها الحقيقيين الذين صنعوها سوية بكل مللهم ونحلهم وهي جزء من تاريخ معايشة التقلبات السياسية وصعود الأحزاب لحكم العراق فهي الأخرى تاريخ مشترك. 
وأنا ما حييت لا يمكن أن أنسى ذكرياتي مع الشهيد عمر محمد فرج أبو سيف وتلك الأحلام الوردية التي كنا نحلم بها سوية إذا ما انتهت الحرب ونحن بخير، لكن ما أدراني أن سيف ابن عمر كان احد الذين اختطفوني وعذبونيّ بعد التغيير وبعد أن تغيرت النفوس أو غيرت بالقوة! فمنذ الأيام الأولى لعام 2003 استفز تاريخنا المشترك الكثير من الأعداء الحقيقيين والأخوان المزيفين والجيران الحاقدين فعملوا بكل ما أوتوا من قوة على مسخ ومسح هذا التاريخ وطمره تحت أنقاض الحقد والطائفية والمناطقية والمذهبية والقومية والاثنية، هذا انتقاما، وذاك حقدا، والآخر حسدا لأنه لا يملك تاريخا يشترك به مع أحد، ولقد كدنا أن نضيع بإتباعنا هذا وذاك، وكدنا أن ننسى ذلك التاريخ المشترك وان نضيعه ونحن لا ندري أن ضياعه يعني ضياعنا لأننا بدونه نتحول إلى مجرد شخوص ذوت عقولها الفارغة الخالية من الذكريات لا تملك من حطام التجارب شيئا، مقطوعة عن أصولها، مكسرة فروعها، باهتة ألوانها.
أما الآن بعد كل هذه السنين، بعد كل ذلك الجهد والخوف والمهانة والخطر والتوجس والأحلام، بعد كل تلك المواقف والمكاسب والخسائر، بعد كل ذلك العمر المفعم بالحقيقة والزيف، من العار أن يقف كل منا لينظر في وجه الآخر وهو يردد: "مستاهل وحيل وياي" فما من احد منا يستأهل أن يعيش مرارة الحياة بعد كل تلك المرارات والخيبات التي عشناها، ونحن نستحق حياة كريمة أفضل من هذه وتلك.  
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/08/04



كتابة تعليق لموضوع : العراقيون والتاريخ المشترك وذكريات الماضي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : محمد عادل عباس ، في 2023/04/16 .

تحياتي للكاتب الاستاذ عادل الطائي
الابيات الي استرشدت بها هيه للشاعر الشعبي عباس عبد الامير الناجي




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net