صفحة الكاتب : د . رافد علاء الخزاعي

رمضانيات عراقية (الحلقة الثانية)
د . رافد علاء الخزاعي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 إن تجربة الصوم الأولى تعطي للإنسان طعم مميز تبقى تلامس الذاكرة مع كل رمضان وتبقى راسخة بإحداثها في خزين ذاكرتنا التي تثقب في بعض الأحيان بعتمة التفكير والكبت  والنسيان لقد كانت تجربة الصوم الأول ونحن في عمر بداية التكليف أو البلوغ  يحملنا بعض أنواع التحدي الذي نفهمه ضمن منطوق تفكيرنا الطفو لي  الذي يميز بين العقوبة والواجب فلو مثلا حرمنا الأهل من وجبة طعام بصورة قسرية  او بالقوة المفرطة لكن تترك علينا بصمة حزينة وجرح نازف في مكبوتنا النفسي ولكن الاستعداد الجمعي مع العائلة والأصدقاء أعطى للصوم تجربة فريدة مبنية على التحدي في كسر نمطية الحياة الروتينية  اليومية.

 
إن الإنسان في أيامه العادية تعود الأكل بحرية والشرب بأي وقت وتعود في حياته المدنية على الأكل ثلاث وجبات وبمواقيت محددة فرضتها عليه المدنية الحديثة وهي الفطور والغذاء والعشاء وان تعوده عليها خضع للنظرية بافلوف ....ألشرطية من التعود على الوجبات وصارت ممارسة اعتيادية فحين يحين وقت الغذاء يشعر الإنسان بالجوع ورغبته بالأكل وكذلك العشاء وهلم جرة على هذا المنوال السلوكي .
 
ان الإنسان تحكمه عاداته، ويصل به الأمر إلى أن يصبح مجموعة من العادات، تتحكم فيه إلى درجة فيعدو معها، كأنه آلة من الآلات فيبتعد عن المرونة التي تفرق بينه وبين الآلات. والإنسان الذي تحكمه عاداته : يصبح عبدا لها وفرض الله الصيام لتحرير الإنسان من هذه العبودية، فإن الصيام يعلم الإنسان نوعا من المرونة، حتى لا يتصرف تصرف الآلة.
 
هكذا برزت تجربتنا الأولى في الصوم عام 1973 كانت تحمل ذكريات عديدة من شهر أيلول وتشرين الأول  لازلت أتذكر ونحن صيام جاء عمي بسيارته مسرعا ليأخذنا لنودع الجيش العراقي وهو يغادر على سرفة الدبابات إلى سوريا للدفاع عن دمشق ونحن نحمل أغصان الأس  نحي بها الجنود وهم يشيرون بعلامة النصر بالإصبعين المفرجين كعلامة سبعة  وبها نحتمي من حرارة شمس تشرين والسؤال الذي يراودانا  هل يصوم الجنود ام يفطرون وهنا اجاب عمي عن رخصة الصائم المريض والسفر ولكن الجهاد مع الصوم احلي ليحكي لنا قصة القائد خالد بن الوليد كيف عبر الصحراء بجيشه مع الإبل ليلتحق بمعركة اليرموك وكيف استفاد من معدة الإبل في حفظ الماء وان الصوم هو جهاد النفس وتدريبها على الصعاب وفي العاشر من هذا الشهر الرمضاني ونحن نسمع أغاني الحرب من ام كلثوم وعبد الحليم من إذاعة صوت العرب سمعنا صوت السادات وهو يبشر العرب بالنصر في عبور قناة السويس وهنا بدانا نرسم أحلام الجنود ودعاء الأمهات والمسلمين بالنصر ليرتبط رمضان بالحرب عبر التاريخ في معركة بدر الكبرى ومعارك إسلامية كثيرة وفتوحات ليرتبط في تاريخنا الحديث مع حرب أكتوبر أو حرب رمضان وهنا وفي احد النهارات قبل الفطور بساعة او ساعتين سمعنا صوت موسيقى عسكرية من منطقة قريبة من بيتنا فهرعنا بفضولنا الطفولي لنتعرف على الصوت ونحن نرى سيارة عسكرية تحمل تابوت ملفوف بالعلم العراقي انها للشهيد عباس الجندي الرامي في احدى الدبابات في الفرقة الثالثة المدرعة هكذا نقش الاسم في ذاكرتي والنساء بين البكاء والفرح وصديقي عبود يسال هل سيفطر الجندي الشهيد في القبر ليجيبه حجي عباس ابو الدكان الواقف انه في جنة عليين وهكذا ترسخت في أذهاننا الموت والشهادة وفرح الناس بالموت وليس حزنهم كما في الموت العادي فكم من عباس استشهدوا وظلوا في كنف النسيان واستمر صيامنا في هذا الشهر الذي غير الكثير من مفاهيمنا في الحياة لنعرف ان في رمضان مدرسة تغيير نمطية الحياة وترسيخ الأفكار في عقولنا الغضة لتبقى كالنقش على الحجر ولنهزم نظرية بافلوف الشرطية في نمطيتها المتكررة لتكون إرادتنا صلبة.
 
وفي وقت رمضان وتحديدا وقت الفطور والسحور بمواعيد مختلفة عن سياق وجباته المعتادة ستتغير الشرطية الإجبارية لديه مما يولد لتغيير الأنماط السلوكية المرتبطة بالعادات الأخرى مثل التدخين وشرب الشاي والقهوة وغيرهم ممن تعود عليهن. ان احد تخفيف تلك الآثار الإنسحابية للشرطية البافلوفية هو الجمعية في الصيام فصوم العائلة والأصدقاء والمجتمع كله يعطي دافع حماسي لممارسة الصوم مما يولد اطر جديدة للعلاقات الاجتماعية مثل الفطور الجماعي للعائلة والالتئام حول مائدة الإفطار بتجربة جديدة ونمط أكلات جديدة غير متعود عليها في أيامه الاعتيادية مع السحور الليلي والتغيير في أوقات النوم والعبادات والأعمال المختلفة كلها هذه الحماسية الجماعية تؤدي الى تغيير في بعض العادات النمطية.
 
إذا تأملنا جيدا سوف نجد أن شهر رمضان هو نظام غذائي جديد يلتزم به الإنسان المسلم كل سنه ، ويزداد تأملك إذا علمت أن الإنسان ليس وحده هو الذي يصوم بل إن الصوم موجود أيضا في الحيوانات ، فلقد لاحظ العلماء أن كثيراً من الكائنات الحية تمر بفترة صوم اختيارية بالرغم من توافر الغذاء حولها ، فمثلا من الطيور ما يكمن في عشه ويمتنع عن الطعام في مواسم معينه كل عام ، وبعض الأسماك يدفن نفسه في قاع المحيطات أو الأنهار لفترة معينه بدون طعام
 
إن إحساس الإنسان بالجوع خلال فترة الإمساك عن أشياء متاحة له سيجعله يعيد تفكيره في الجوع والعطش والشعور بمعاناة الآخرين من الفقراء والمعوزين إن الشعور بالجوع يرتبط بمشاعر آخري مثل الخوف والقلق ولكنه هنا جوعا اختياريا يعطيه قوة تدريبه على الصبر والإرادة وعلى قوة التحمل للوصول إلى وقت الفطور وحضوره للمائدة الرمضانية سيعطيه نمطية من التفكير الآخر هو الارتباط بالقناعة والشكر على النعمة انه درس تدريبي لمدة شهر وفق اطر مختلفة تزداد معه قوته وصبره وإرادته مما يولد تغيرات في نمطية التفكير.
 
فلذلك أعتقد ان تطور فرض الصوم عبر الأديان هو تطور تاريخي حيث نرى ان صيام اليهود والمسيح والصابئة والهندوس يختلف تدريجيا ان صيام اليهود أشد قسوة وهو مرتبط مع الاعتكاف في المعابد أما الصيام المسيحي فهو مرتبط بالصوم عن المنتجات الحيوانية للاعتقاد انه الارتباط بالشهوة الحيوانية ولديهم صوم كبير وصغير واما صوم الهندوس هو صوم النذر الى وقت الحصول على مطلوب الدعاء كما ذكر المهامتا غاندي ان أمه عند غياب أخية نذرت ان تصوم حتى عودته وامتنعت عن الأكل والشرب لمدة عشرة أيام لحين عودة أخيه , وصوم الصابئة وغيرها من الأديان , نعرف ان الصوم هو مدرسة سلوكية وحتى الفلاسفة مثل أرسطو كان يصوم للأيام متعددة لاعتقاده ان الصوم يطرد الشر والسموم من الجسم وتقوية الإرادة.
 
ان الصيام في الاسلام هو مدرسة سلوكية وتقويمية للنفس فلنسأل أنفسنا بعد هذا الشهر ماذا غير فينا هذا الشهر من عادات وسلوكيات خاطئة. لنجعل من شهر رمضان محطة تقويمية لنا ونسال الله ان يتقبل الطاعات ويهدينا الى خير السبيل.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . رافد علاء الخزاعي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/24



كتابة تعليق لموضوع : رمضانيات عراقية (الحلقة الثانية)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net