الإمامُ الحُسينُ (َعَلَيهِ السَّلامُ): الوَهَجُ الذي لا يَخْبُو وَالفَيْضُ الذي لا يَنقطع
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . اكرم جلال
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يَرى الكثيرون أنّ المسيرة الحُسينيّة حادثة إنسانية لَم يَشهد لها التأريخ مثيلاً، وأنّ المُتدبّر في صفحاتها يَرى فصولاً ذات أبعاد ومستويات مُتعددة، كلُّ فصلٍ يحكي مشهداً ويروي حكاية؛ ترى فيها الألم والحُزن وما جرى من تراجيديا بَكَت لها السبْعُ الشداد والملائكة المُقربون، وأهلُ السماوات أجمعون، وترى فيها الإلهام الروحي والتحدي لقوى الشرّ والضلال.
وهذه الصور والمشاهد مع ما لها من أهمية في قراءة المشهد الحسنيّ إلّا أنّ القلوب العارفة والأرواح العاشقة لا تنفكّ تقرأ كربلاء من بُعدٍ أهم، هذا البُعد يكون فيه الإمامُ المُقدّس هو الأساس والمحور والوارث للرسالات السماوية وأنّ هذه المحوريّة والقداسة قد أضفت على كربلاء بعداً جديداً ورؤية ما ورائية، غيبيّة، تتخطّى في عمقها جميع الأبعاد السابقة.
حينما ترتبط المسيرة الحسينيّة بالرسالات والديانات السماويّة وحينما تكون هي الوارث الوحيد والأمل المنشود فهي بذلك خلاصة وحيٍ ومشروع سماويّ وتسديدٌ ربانيّ. وحينما تكون كذلك فهي إذن تجسيدٌ لرسالة السماء، فهي إذن لَيسَت حَدَثاً عابراً أو بعداً محدودًا، إنّ في كربلاء لأمر جَلَل وَحَدَثٌ عَظيم، خطّط له الإمام الحسين، بحكمة العارفين، وسارَ نَحوَه سَيرَ الوالهين، وقدّم دمه وسُبيت عياله وحريمه نُصرةً للدّين.
إنّ ما جرى في كربلاء وإن كانت له دلالات دنيويّة وأبعاد وجوديّة ماديّة، لكنّ الأعظم من ذلك ما له من معانٍ وروابط ما ورائيّة مقدّسة قد كَشَفَت عنها العديد من العبارات والألفاظ الصادرة عن أهل بيت النبوّة، دلالات ومعانٍ قُدسيّة لا يمكن التغافل عنها، وللإختصار نكتفي بذكر ما رُوي عن أبو الحسين محمد بن عبد الله بن علي الناقد، قال: حدثني أبو هارون العبسي، عن أبي الأشهب جعفر بن حنان، عن خالد الربعي، قال: حدثني من سمع كعبا يقول: أول من لعن قاتل الحسين بن علي (عليهما السلام) إبراهيم خليل الرحمان، لعنه وامر ولده بذلك واخذ عليهم العهد والميثاق، ثم لعنه موسى بن عمران وامر أمته بذلك، ثم لعنه داود وامر بني إسرائيل بذلك، ثم لعنه عيسى وأكثر ان قال: يا بني إسرائيل العنوا قاتله وان أدركتم أيامه فلا تجلسوا عنه، فان الشهيد معه كالشهيد مع الأنبياء مقبل غير مدبر، وكأني انظر إلى بقعته، وما من نبي الا وقد زار كربلاء ووقف عليها، وقال: انك لبقعة كثيرة الخير، فيك يدفن القمر الأزهر 1).
في كربلاء تَفُوح نَسَمات اللّطف الإلهي وَعَبَقات الرسالات السماويّة؛ فيها دلالات جماليّة مَلكوتيّة؛ تَلاحُمٌ محمديّ حُسَينيّ (حسين مني وأنا من حسين)؛ في كربلاء بَحرٌ مُتلاطمُ الأمواج وَسفينة وَسَيعة سريعة وخَلْفَ دفّتها قائدٌ يستصرخ الناس ويدعوهم إلى الركوب والنجاة، فلا عاصم اليوم من أمر الله، ينادي أما من مُجيب يُجيبنا، أما من مُغيث يُغيثنا، أما من سامعٍ لدعوتنا ينجو بنا ويركب معنا؟
في كربلاء تتكشَّف الحقيقة وتَتَّضح المشاهد والصور، ترى الأبعاد الماديّة الوجوديّة في تَعاملِ الإمام وما جرى عليه وعلى أهل بيته وأصحابه من قتل وسبي، وفي الوقت نفسه ترى المشهد الجماليّ والبُعد الملكوتيّ، والتّجلّي السماويّ. مسيرة من التكامل الإنساني وطيّ للمراتب والمقامات وتخطٍّ للموانع والحواجز؛ يسير الإمام بأصحابه وأهل بيته وَمَن لَحِقَ به لِيَبلغ بهم أعلى مراتب القرب الإلهي؛ هجرةٌ إلى اللهِ تعالى وَسَفَرُ العاشق نحو القرب من المعشوق، إنّبلاج الفجر وانكشاف تام للحقيقة الإلهيّة؛ مسيرة رسمها وحدد أبعادها ذلك الإنسان الكامل، الذي بَلَغَ درجةً من الفناء في ذاتِ الله ومقاماً في العشق حَداً أصبح من خلاله مَظهراً لتجلّيات الأسماء والصفات الإلهية.
لقد بَلَغَ الإمام ساحة القرب الإلهي ونال أرفع المقامات، فكانَ الواسطةُ والوسيلةُ التي من خلالها تُحلّق القلوب العارفة لِتَطوف معه في سماء القدس والجمال الإلهي، ولتتجرّد عن كل العلائق الماديّة، وَلِتُبصر مِن خلاله الأسماء والصّفات الإلهية بعين العشق ولترتشف من عذب تجلّياتِه. من هنا كانت سفينته هي المُنجية وهي والأوسع والأسرع، وأنّ الدموع القلبية التي تَجري حزناً عليه هي دموع ارتبطت بالحقيقة المُوصلة إلى مراتب الكمال والقُرب الإلهي، فهي لذلك إستوجبت من الله غفران الذنوب.
أمّا تَجلّي الأسماء والصفات الإلهيّة في غير المعصوم، فهو أمرٌ لا يَناله إلّا الصفوة، أولئك الذين بَلَغوا يَقظَةً روحيّة وارتباطاً مَلَكوتيّاً أعانَهُم وأخذ بأيديهم نحو مراتب القرب والإرتباط بالذّات المقدسة، حينها تبدأ التجلّيات بالظهور؛ وأنّ تلك التجلّيات تختلف من إنسان إلى آخر تَبَعاً لتلك اليقظة وذلك الجدّ في السّير، والخروج من محدودية الجسد وسجن الدنيا نحو فضاء التألق الروحي والتّكامل الإنساني.
في الميدان الكربلائي حيث يصطفّ فيه أهل الحق يقودهم خليفة الله تعالى الذي تجلّت في شخصه المُقدّس الأسماء والصفات اللإلهيّة، وَبَلَغَ مِنَ الكمال والكرم أنْ جادَ بكلّ ما يملك، حث أصبح مرآةً للرحمة الإلهية والرأفة، العفو والحلم، والعدل والإنصاف، الصبر والثبات؛ بَلَغَ مِنَ الفَناء والإنصِهار في الذّات الإلهيّة حَداً رُفِعَتْ به مِنْ أمامِ الإمام جَميع الحُجُب فَتَراه يُقَدّم القَرابين الواحد تُلوَ الأخر ولسان حاله يَقول إلهي إنْ كانَ هذا يُرضيك فَخُذ حتّى تَرضى؛ أرادوا أنْ يُطفؤوا نور الحُسين (عليه السلام) بأفواههم وسيوفهم لكن الله تعالى أبى إلّا أنْ يُتِمّ نُوره.
كانَ يرى الموتَ قنطرة، وكان يُصبّر أصحابه بقوله: فما الموت إلّا قنطرة تعبر بكم عن البؤس والضّراء إلى الجنان الواسعة والنعيم الدائم. رسالة تَلَقّتها البشريّة مِنَ الإمام في كل زمانٍ ومكان، فتوجّهت بقلوبها نحو الخليفة في كربلاء؛ جَدّوا السير نحو كعبةُ الآمال ليستضيئوا بنور الله، يطلبون بنوره الخروج من ظلمات الدنيا وبلوغ مراتب الكمال، هذا الوهج الذي لا يخبو والفيض الذي لا ينقطع هو الدليل والوسيلة نحو مقام القرب الإلهي.
المراجع
1. كامل الزيارات - جعفر بن محمد بن قولويه - ص14. وبحار الأنوار - العلامة المجلسي - ج44 ص243.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat