صفحة الكاتب : كريم مرزة الاسدي

البياتي...والدعوة لمذكرات رجل مجهول أخرى الحلقة الثالثة (الأخيرة)
كريم مرزة الاسدي

 الدكتورصلاح خالص ودعوته أواخر 1953م ... والدعوة  الجديدة لمدرسة واقعية أخرى حسب الظروف الموضوعية الحالية   !! 

كريم مرزة الاسدي

أسرار الحياة عجيبة غريبة , واللبيب من يكتشفها , ويشير إليها ليسجل نقطة لصالح الإنسانية , وهذا شأن العباقرة التي بنيت الحضارة على عاتقهم في جميع المجالات  ,   وهم قلائل في التاريخ البشري , ولا أريد أن أضرب الأمثلة والمشوار قصير ,ولكن كم من  مليارات أفراد النوع الأنساني مثل أرخميدس وحمامه , والخوارزمي وجبره , وابن خلدون ومجتمعه ونيوتن وتفاحته , والمتنبي وحكمته  , هنا  أرغب أنْ أنوّه عن الشعر و أود أنْ أشير ليس المهم أنّ الأمور عابرة عليك وتعرفها , فمن منا لا يعرف " على قدر أهل العزم تأتي العزائم " ومن منا لا يعرف " لكلّ جديد لذة " ومن منا لا يعرف " لكلّ أمرئ من دهره ما تعودا " ومن منا لا يفقه " أمس الذي مرّ على قربه ....يعجز أهل الأرض غن رده " ولكن العبقرية تكمن في الأشارة إليها , وتسجيلها , والمضحك أننا ننبهر بها ونصفق لها , ونقول : إننا نعرفها ونتوهم بساطتها  , نعود   لشكسبير ولغته , وابن رشد وديكارت ...و شكهما المنهجي  وأدم سمث واقتصاده الذي بناه على التنافس والإنانية, والأنانية إحدى ألعوامل الرئيسية لنجاح رجال الأعمال الكبار , ولفرض هيمنة دول على دول أخرى , وفي الوقت الذي نادى في عصر التنوير توماس هوبنز بدكتاتورية السلطة لتحقيق العدل والمساواة على أساس الإنسان شرير بطبعه , ولولا السلطة الصارمة لسادت شريعة الغاب ,و ذهب جون لوك وجان جاك روسو إلى أن الإنسان خير بطبعه , وكانت الأخلاق سائدة في عصر المشاعية الأولئ في القدم  , وطالبوا بالحرية الشخصية للفرد , و يجب وضع عقد اجتماعي بين الفرد والدولة لتطبيق القوانين , وتحديد الحرية الشخصية بحيث لا تؤثر على حرية الأخرين  , وعلى فلسفة جون لوك ومريديه سارت امريكا , وعلى آراء وفلسفة جان جاك روسو وأشياعه خطت فرنسا خطواتها , أما الأسلام سبقهما  مذهباً وسطا , وإن قدم الفجور على التقوى , ولكن أعطى الأنسان عقلاً ليتحكم في سلوكه , ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا فأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا﴾ (الشمس 7 - 8) , , والعقل نادى به العرب والمسلمون قبل غيرهم من المعتزلة حتى أبي  العلاء  المعري , والشيعة رفعوا علم الأجتهاد لا القياس , لعلمهم أن الزمان يتطور  وما هذه المقدمة البسيطة إلا لكي نصل أن العبقرية أنانية تحتاج إلى الحرية والعقل  للإبداع , إذ أن العقل  يتدخل ا للتوازن المقبول اجتماعياً حين الأنحراف أو التمادي , ومن دراسة الغرائز الأساسية في علم النفس على  الكائنات الحيوانية ومنها الإنسان   , وجد( بافلوف) ترتيب االغرائز من الأقوى للأضعف تأتي كما يلي : 1 - الأمومة  2 - العطش 3 - الجوع  4 - الجنس ,  (ومنهم من يضع الجوع قبل العطش ) , وهذا لايهمني , تهمني الغريزة   الأولى : الأمومة  وتقابلها الأبوة عند الذكر , وتتولد عقبى إفراز هرمون  البرولاكتين من الفص الأمامي للغدة النخامية , ودافعها تلبية حاجات الأبناء والحفاظ عليهم ورعايتهم ومن هنا يتشكل الحنان المفرط , ويزداد طردياً بازدياد إفراز الهرمون المذكور , أما غريزة الجنس الأخيرة دافعها التملك , وحاجتها تلبية اللذة ومن ثم الإنجاب , والدليل على أن غريزة الأمومة (الأبوة)  أقوى , إذا تعرض الأبناء إلى المخاطر ينسى الوالدان غريزة الجنس , وتضعف لديهما غريزتا العطش والجوع , ومن الجدير ذكره أن الطاقة الجنسية عند الشعراء الملهمين والعباقرة قوية , كأنما تريد الطبيعة أن تعمم صفاتهم الفذة بين البشرية من باب الصراع , والبقاء للأقوى ,ولكن (فرويد) يذكر يمكن تحويل الطاقة المتحررة الفائضة للقيام بأعمال أخرى واستغلالها لصالح الفرد كالرياضة وسرعة العمل ...أو إلى جهد فكري أو فني , ومن الفنون الشعر . وخلاصة القول :إنّ العباقرة والشعراء الموهوبين  - ومنهم البياتي - يتمتعون بصفات منها البساطة والطفولية  , وإياك أن تعتبرهما سذاجة أو سهولة , بل هم أشد الناس صلابة وإصراراً وتحدياً وتفانياً وزهواً , والأنانية والشرود الذهني أحياناً أمام الأفراد , ولكن تراهم أكثر الناس تضحية في سبيل الحق  العام (النوع) , إضافة إلى أمتيازهم بقضية الفوات , أي لا يحملون الحقد وينسون الإساءة إليهم , كأنها مسحت بيد ماح ٍ , وهذا  لا يعتبر ازدواجية  في الموقف كما يتوهم البعض , بل هو تسامح الكبار , وربما يكونون سريعي الغضب في لحظات معينة , والمعادل الموضوعي للإصرار والتحدي والتفاني في الظروف الأجتماعية أو السياسية الصعبة هو الحنان والعلاقات العائلية , يستطيع الشاعر التضحية بنفسه , ولكن لا يستطيع تجاوز  حدوده ليصل إلى التضحية بأفراد أسرته , واستغلت الأنظمة هذه النقطة لصالحها , مظفر النواب انتبه لهذا الموضوغ من باب الترحال والتنقل  وسرعة الهروب خفيفاً , ولكن لم يذق طعم الأبوة , ومثلما بررنا للجواهري سكوته في زمن صعب وأتينا بأمثلة  تدعم موقفه , وبيّنا مدى تعلقه بأهله:  ســـــــــلامٌ كلـّه قبلُ     كانّ صميمها شعلُ

سلاماً أيّها الأحباب     إنَّ محبــــــة ً أملُ

وصدر كتابه ( ذكرياتي ) الجزء الأول  :" أُهديه إلى من هم أعز علي من صفو الحياة ...".

تأمل في الكلمة  ملياً فأهله أعزّ عليه من صفو الحياة , وبثّ ما يختلج في نفسه من مشاعر وأحاسيس ليريح  ويستريح  , والشاعر رغم التشكي والتبرم والتشاؤم في شعره حيث يصعب التوازن بين الحق العام  ومتطلبات الطموحات العائلية , فنراه  يشير إلى ذلك في  قصيدته  المرسلة  للسيد جلال الطالباني الذي حثـّه على النضال بعد الحرب العراقية بثلاثة أشهر قائلاً :

يا صاحبي - ويموت المؤمنون غداً -      وخالدٌ صدقُ قــــــولٍ ناصفٍ زَمِنِ  ِ

حتـّى كأنّي - وأشبـــالي - بعيدهـــــمُ      عُفـْرُ الأضاحي من المنحورةٍ البُدُن ِ

وكنتُ منهم كمصلوبٍ على وثـــــــن      ضحى على ربّــــــــهِ يوماً ولم يدن ِ

فلـــنْ أغني بأعـــــراس ٍ مهلهلــــــةٍٍ       ولنْ أنوحَ علــــــــى موتى بلا ثمن ِ

 والبيت الأخير واضح  ومبين , فلا تضحية بلا ثمن ثمين , يعود  مردوده للشعب والملايين , هذا رأيه ,  والسياب في قصيدته ( مرحى غيلان)  تطغي عليه غريزة الأبوة :

 بابا بابا
ينساب صوتك في الظلام إليّ كالمطر الغضير
ينساب من خلل النعاس و أنت ترقد في السرير
من أي رؤيا جاء ؟ أي سماوة ؟ أي انطلاق
و أظل أسبح في رشاش منه أسبح في عبير
فكأن أودية العراق ..."

فلماذا إذن نتساءل عن سكوت البياتي وصمته , بل يرميه البعض - كما رُمي الجواهري والسياب - بالوصولية والانتهازية ؟!!, أنا لست بحاجة للاستفسار من أهله والمتعلقين به عن صمته  , وجبره على السكوت أو المغازلة البسيطة , ومدى صعوبة التوازن بين حنانه وتعلقه المفعم بالحب لعائلته , وقوة غريزته الأبوية الفطرية  وبين التعبير عن آمال المجتمع وتطلعاته ومآسيه وأمانيه , وربما هذا السر لا يبوح به إلى أقرب مقربيه , فللعواطف المباحة حدود غير متاحة , أنقل إليك من قصيدته ( أغنية إلى ولدي علي ) , وتخيل مدى عمق الحنان الأبوي المخزون في حنايا القلب المفعم بالغربة والشوق لفراق ابنه ووداع زوجته   أبان منفاه في لبنان 1955م  :

        وَلدي الحبيب
ناديتُ باسمك ، والجليد
كالليلِ يهبطُ فوقَ رأسي ، كالضباب
كَعُيونِ أمكَ في وَداعي ، كالمغيب
ناديتَ باسمك
في مهبِّ الريحِ
في المنفى
فجاوَبَني الصَّدى :  ولدي الحبيب

نداء موجع من قلب أب حنون , وحزن رجل لفراق زوج وعيون , جمدت الحياة بوجهه كالجليد , ومستقبل مجهول بين ضباب وسراب , والريح القاسية العاتية لا ترحمه , تعمق غربته , ولم يرد عليه ابنه الحبيب سوى الصدى يجيب ليعصر قلبه ويدمع عينه , ولا تغيب عليك التشبيهات المتتالية المرسلة بوجود أدوات التشبيه ( الكاف) . والأستعارات المكنية كالليل الهابط والصدى المجاوب , ونواصل ونعقب :      

والقاتلون
يُحْصون أنفاسي ، وفي وطني المعذَّب يَسجنون
آباء أخوتك الصغار
ويبشرون بالعالم الحر، العبيد

في هذا المقطع ومنذ سنة 1955م , وكانت الأمور أخف كثيراً مما جاء بعدها من عهود اتسمت بالذبح والقتل وهتك الحرمات واغتصاب المحصنات والتهجير القسري والأغتيالات والحروب والأخذ على الشبهة , بل لمجرد تخويف الآخرين , أقول ومن تلك الأيام نعت البياتي الحكام بالقاتلين , ويحصون الأنفاس كالنقود , ولا تخفى الأستعارة المكنية هنا , ويستخدم الأفعال كلها بالمضارع دلالة على استمرارية النهج والإصرار عليه , ويختم المقطع بخداع المسؤولين بهذا الطباق بين الحر والعبيد ,

هذه الصراحة برسم واقع الحال , والتبشير بحرية المآل لتحقيق الطموح والآمال , وعدم الخوف على الأهل والابن والمال , مقدمة لما تسمى بالمدرسة الواقعية .

 وكان الشاعر قد مهد  لهذا المنهج عبر تراكمات التجارب الوجدانية الجماعية لرفع المستوى التطوري للمجتمع من الناحية الثقافية والأقتصادية والطبقية , وشرع للوقوف مع الفقراء والكادحين والمستضعفين بأسلوب قصصي , وبعبارات  تفهمها العامة , وترضى بها الخاصة معتمداً على دقة الملاحظة  والمتابعة لجزئيات  المشاهد المتتالية كمصور يرسم الأحداث بريشته الناطقة , والدافع الحرب العالمية الثانية , والحروب الذرية ,زالوعي القومي بعد 1948م , والفروق الطبقية  , وحدوث ثورة مصر1952م والأحتكاك بالتجارب العالمية ...إلخ , حفزت البياتي لنظم قصيدته الجميلة "مذكرات رجل مجهول " :

8 نيسان
أنا عامل , ادعى سعيد
من الجنوب
أبواي ماتا في طريقهما الى قبر الحسين
و كان عمري آنذاك
سنتين - ما اقسى الحياة
و أبشع الليل الطويل
و الموت في الريف العراقي الحزين -
و كان جدي لا يزال
كالكوكب الخاوي , على قيد الحياة
13
مارس
أعرف معنى أن تكون ؟
متسولا , عريان , في أرجاء عالمنا الكبير !
و ذقت طعم اليتم مثلى و ضياع ؟
أعرف معنى أن تكون ؟
لصاً تطارده الظلام
و الخوف عبر مقابر الريف الحزين !
16 حزيران
اني لأخجل أن أعري , هكذا بؤسي , أمام الآخرين
و أن أرى متسولاً , عريان , في أرجاء عالمنا الكبير
و أن أمرغ ذكرياتي في التراب
فنحن , يا مولاي , قوم طيبون
بسطاء , يمنعنا الحياء من الوقوف
أبداً على أبواب قصرك , جائعين
13 تموز
و مات جدي , كالغراب , مع الخريف
كالجرذ , كالصرصور , مات مع الخريف
فدفنته في ظل نخلتنا و باركت الحياة
فنحن , يا مولاي , نحن الكادحين
ننسى , كما تنسى , بأنك دودة في حقل عالمنا الكبير
25 آب
و هجرت قريتنا , و أمي الأرض تحلم بالربيع
و مدافع الحرب الأخير , لم تزل تعوى , هناك
ككلاب صيدك لم تزل مولاي تعوي في الصقيع
و كان عمري آنذاك
عشرين عام
و مدافع الحرب الأخير لم تزل .. عشرين عام
مولاي ... ! تعوى في الصقيع
29 أيلول
ما زلت خادمك المطيع
لكنه علم الكتاب
و ما يثير برأس أمثالي من الهوس الغريب
و يقظة العملاق في جسدي الكئيب
و شعوري الطاغي , بأني في يديك ذبابة تدمى
و أنك عنكبوت
و عصرنا الذهبي , عصر الكادحين
عصر المصانع و الحقول
ما زال يغريني , بقتلك أيها القرد الخليع
30 تشرين 1
مولاي ! أمثالي من البسطاء لا يتمردون
لأنهم لا يعلمون
بأن أمثالي لهم حق الحياة
و حق تقرير المصير
و ان في أطراف كوكبنا الحزين
تسيل أنهار الدماء
من اجل انسان , الغد الآتي , السعيد
من اجلنا , مولاي انهار الدماء
تسيل من اطراف كوكبنا الحزين
19 شرين 2
الليل في بغداد , و الدم و الظلال
ابداً , تطاردني كأني لا ازال
ظمآن عبر مقابر الريف البعيد و كان انسان الغد الآتي السعيد
انسان عالمنا الجديد
مولاي ! يولد في المصانع و الحقول
هذه الأمور دعت   الدكتور صلاح خالص بتحريض من جماعته أن  يشرف على تحرير مجلة (الثقافة الجديدة ) مع الدكتور صفاء الحافظ وقد صدر العدد الأول منها في تشرين الثاني سنة 1953م ربما ما زالت تصدر حتى اليوم , وكان البياتي يشرف على الجانب الأدبي منها بعد فصله من وظيفته كمدرس ,وهي مجلة اهتمت بالثقافة القومية للعرب والأكراد , وبالهموم والمعاناة الشعبية , وكانت تحسب على اليسار التقدمي , لذلك غلقت عدة مرات  ولكن لم تهيمن عليها جهة سياسية معينة , ولو أنها حسبت على الشيوعيين  وإنما تقدمية وطنية قومية إنسانية شعبية  كتب فيها الشيخ الشبيبي والدكتور المخزومي والدكتور صلاح خالص  والدكتور إبراهيم السامرائي , والدكتورة نزيهة الدليمي والدكتور فيصل السامر والدكتور محمدمهدي البصير والدكتور حسين قاسم العزيز , ومن الشعراء السياب والبياتي وكوران  إضافة الى القصاصين  فؤاد التكرلي والدكتور شاكر خصباك وعبد الملك نوري , وفي المسرح يوسف العاني ...(1)  بحوث رزينة , ومقالات رفيعة , وأشعار رائدة  وقصص هادفة  لشخصيات كبيرة وشهيرة ومعروفة , ثم أصبح د  خالص رئيسا لتحريرها ( 1954- 1969 م) إضافة لتأسيسه مجلة (الثقافة) , ورئاسة تحريرها بين السنوات (1971 - 1987 م ) بعد وفاته , والرجل من مواليد البصرة (1925م ) , ولا يهمني في بحثي عن البياتي إلا مقال الدكتور خالص الذي نشر في العدد الأول المذكور تاريخه آنفاً تحت عنوان ( المدرسة الواقعية في الفن والأدب) , كما عرض الدكتور صلاح خالص كتاب الدكتور صالح احمد العلي الموسوم: "التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في البصرة  " , وعلى إثره تصارع البياتي والسياب على أيّهما أكثر فناً لتفهم المدرسة الواقعية , والتقرب منها  حتى تطور الأمر إلى كتلتين متصارعتين حولهما من القوميين والشيوعيين  , أما نازك الملائكة فقد وقفت ضد تسييس الشعر , وكتبت مقالاً تحت عنوان (الشعر والمجتمع (2)  , ونظم السياب ( أطفالنا ) , ونظم  البياتي (السجين المجهول ) أما كوران فقدم قصيدة ( مصير العشاق ) ونشروها  في المجلة الجديدة , من قصيدة البياتي

عبر السجن عبر الظلمات

 كوخنا يلمع في السهل

  و موتي و النجوم

 و قبور القرية البيضاء و السور القديم

  .......

 عبر السجن غنوا يا رفاقي

 يا رفاقي و النجوم

 يا رفاقي في الطريق

 و مسرات ليالينا العميقة و الطواحين العتيقة

من المفرادت يتبين لنا توجهاته السياسية حينذاك , وفي العدد الثاني قدم البياتي الشاعر بابلو نيرودا كشخصية العدد , والسياب نشر قصيدته (البغايا في الليل ), وسار الشاعران في بداية حياتهما الشعرية على طريق المدرسة الرومانسية  التي تعتمد على الوجدان والأسلوب الفني والذاتية , ومن روادها خليل مطران وإيليا أبو ماضي , وخصوصاً في مرحلتهما الجامعية , ولا ننسى الجواهري في بداياته , وجاءت المدرسة الرومانسية - التي خفتت 1945م - على أعتاب المدرسة الإتباعية ( البعث والإحياء الكلاسيكية ) الني أحياها البارودي ومن بعده شوقي.

  ولكن السياب انشق  عن الخط الماركسي واتجه نحو التيار القومي  وبالرغم  من مدحه عبد الكريم قاسم الذي لم ينصفه , ثم هلهل لحركة 8 شباط  بقصيدة  فنال الصاع صاعين !! وحدثت مشاحنات ومقالات قاسية بينه وبين رفاقه السابقين , وكانت نازك محقة إلى حد ما  في توجهاتها الفنية وأبعد نظرا , نظراً لإنتكاسات الشعراء من بعد ووقوع الشعراء تحت وطأة الطغاة إلا من هرب ونجا بجلده , وبقى خائفاً أن يعلن عن رأيه الصريح بالنظام وبررنا الأسباب إلا السيد مصطفى جمال الدين من المشهورين خصّ النظام بالهجاء المرير بعد أن سحب كل عائلته والمتعلقين به من مخيم رفحاء , ولا أعتقد أن مظفرالنواب  نظم عن النظام الفاشي بشكل خاص , وإنما عممَّ  هجاءه على جميع الحكام بإستثناء القذافي  , وهذه من وجهة نظره ليس منقصة له بل كان ذكاء منه لديمومة نضاله , ولكن شمولية الهجاء تخفف الضغط عن مخصوص بعينه ( يا ستة سويت الستين ! ) , وربما عنده هجاء قاس ٍ مخصوص بالنظام الفاشي ولم أسمع به  , والحقيقة أنا  أخترت النواب من بين عباقرة الدنيا الأولين والآخرين على أمتداد الزمان والمكان لدراسة خصائصهم وكيفية تشكل العبقرية بدراسة مقارنة ( مجرد محاولة ) , لأنه أكتسب شهرة عظيمة في الوطن العربي , وفرض الشهرة  مكملة للعبقرية   .

المهم أخذ الكتاب والشعراء  يتهافتون على توعية المجتمع العراقي في عصر متخلف تسوده الإقطاعية المنهارة  والفقر المقذع , والجهل المتفشي , والأمراض الأجتماعية السائدة , فلا تستغرب حين ينظم الجواهري مستبقاً تنويمة الجياع ( نامي جياع الشعب نامي ), والمصير المحتوم (أيا ابن سعيدٍ يلهب الناس سوطه ) , وبعد المقال نظم قصيدة الراعي ( لفّ العباءة واستقلا) , والسياب سبق بالمومس العمياء وحفار القبور والأسلحة والأطفال وأنشودة المطر  ومزج مابين الواقعية والرومانسية - كالبياتي - ووظف الأسطورة والرمز للوصول الى غايته  , والحقيقة هذه من سمات الواقعية التي تعتبر الأنسان هو المحور  وتعرية الزيف  الأجتماعي , أما أن تنتهج منهجاً سريالياً غامضاً صعب الفهم والأدراك من العامة بإستخدام أساطير ورموز عربية أو غير عربية مفتوحة أو مغلقة ! ما أشبه الليلة بالبارحة  , و ولكن هذا لا يصلح للمرحلة الحالية , فلكلّ زمن خصوصيته, فبعد احروب وغسل الأدمغة بثقافة موجهة  , هنالك أسلوب واضح بسيط عفوي بدون إسفاف أو تساهل في  استخدام اللغة وقواعدها , يقول الشاعر السوري ممدوح عدوان " البساطة لا تتناقض مع العمق إذ يمكن للقصيدة أن تكون بسيطة وعميقة بآن واحد , ولكن هناك إلتباساً بين البساطة والسطحية  والغموض المقصود بين المباشرة السياسية وبين التعامل الواضح مع الموضوع " (3) أما الشاعربلند الحيدري في صحيفة بغداد يقول :  " حين يكون  المتلقي ابن الشارع العراقي فأنا أتحدث بلغته وبسطاته , أما في قصيدة (حوار عبر الأبعاد ...الثلاثة ) فهناك متلق آخر يدرك أبعادها من خلال الإنسان في المطلق كما يقول (هيغل) وهي قصيدة ذات أبعاد فلسفية بحاجة إلى قارئ من طراز أخر يدرك لمعرفة جوهرها الفعلي ,  في الأعوام الأخيرة يحس القارئ أن بلند الحيدري يتعامل مع القصيدة ببسهولة وبساطة ملفتين , ويرى بعض هؤلاء , بأني قد تخلفت عن تجاربي السابقة , وهذا حق لا أنكره وهو الحق الذي وجهه بعض النقاد إلى (بابلو نيرودا) حينما سألوه لماذا تكتب شعرا بهذا المستوى ؟فأجاب " تعالوا وأنظروا الدم في الشوارع  ثم أسألوني  لماذا أكتب هذا الشعر ليكفي أني أكتب شعراً , أرخت به حياتي وما أثير به أبناء شعبي ..." (4)       وما أحوجنا إلى هذه النهضة لتوعية المجتمع للوحدة الوطنية ومحاربة الجهل والمرض والفقر بعد عقود من الحروب والصراعات والتكتلات , بشرط عدم تسييس الشعر والإنحياز إلى جهة معينة , والحث على الكراهية  والفرقة والبغضاء في زمن حرج وصعب وحساس   بمعنى ما يشبه التزواج بين أراء نازك وتخوفها من الإنجرار إلى ما لا تحمد عقباه وبين أراء وتوجهات المدرسة الواقعية المنفتحة البليغة  المستقلة والتي تصب في مصلحة العراق كله , هل نحن مدركون أم غافلون , الوطن في خطر شديد بإعاقاته الداخلية , وتكتلاته في جميع الأتجاهات , ومخاطره الخارجية , والشعب العراقي حيوي لا تعوزه العبقرية ولا الرجال الوطنيون المخلصون , هل أنتم تتذكرون وعاملون ؟ !كان الله في عون شعبنا وعونكم  وعون الجميع , وعون البساطة العميقة الهادفة المجهولة !  وهذه تحتاج لدراسة موسعة مركزة ,  فعذراً للإشارة الخاطفة العابرة . شكراً لكم .

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) موقع النور : مجلة الثقافة الجديدة :فصل من تاريخ العراق المعاصر - أ. د .خليل إبراهيم العلاف

: ديوان " أباريق مهشمة " والطريق إلى الأدب الحديث  : سامي مهد gehat.com (2) 

(3)  صحيفة السفير : 29 / 9 / 1994م  ص 29 عدد يوم الخميس .

(4) صحيفة بغداد :العدد (197) ص 8 الشاعر بلند الحيدري في حوار  


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم مرزة الاسدي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/07/02



كتابة تعليق لموضوع : البياتي...والدعوة لمذكرات رجل مجهول أخرى الحلقة الثالثة (الأخيرة)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net