لم يحكم المدينة أيام رسول الله صلى الله عليه وآله نظام إداري واضح المعالم ، فلم تكن هناك مؤسسات مستقلة لإدارة الجوانب الحياتية للمجتمع الإسلامي الناشىء وقتئذ ، العسكرية والمالية والاقتصادية والقضائية والدينية.. الخ ، وكل هذه الأشياء حصلت فيما بعد ايام ما يسمى بالخلافة الإسلامية وبشكل تدريجي وحسب الحاجة وبحسب تطور العقلية الادارية .. نعم ، كانت هناك تشريعات تنزل بشكل مسبق أو حسب الحادثة الواقعة ، ولكن القانون كما هو معروف يحتاج الى مؤسسة تشرف على تنفيذه ومراقبة تطبيقه ، خاصة بالنسبة للقوانين والأحكام ذات التكليف والأثر الاجتماعي ..
ورغم هذا النقص الإداري - إذا صح القول - إلا أن الأمور كانت منتظمة بأعلى مستوياتها ، فخلال عشر سنوات وقعت ما يقرب من الـ 80 معركة وغزوة كلها ناجحة تقريباً وحققت أهدافها القريبة والبعيدة .. ولم يكن يوجد وقتها مؤسسة عسكرية ذات امكانيات بشرية ومادية مهمتها إدارة وتنظيم كل ذلك ..
وكذا في الجانب الاقتصادي ، فالتكافل الاجتماعي بين المهاجرين والأنصار كان على أوجه وبشكل ينعدم مثيله في كل مكان .. وكذا حصلت قفزة زراعية في المدينة المنورة على قاعدة ( من أحيا أرضاً فهي له ) ، فاستثمرت العيون والأراضي والأودية خير استثمار ، ومثلها حصل في تنظيم عملية الري والرعي واقتطاع الأراضي والأودية ..
زالت مظاهر القبلية والطبقية في مجتمع المدينة وبدأت تترسخ فيه مبادىء وقيم وأخلاقيات العيش الكريم .. ولو رجعنا الى صحيفة أهل المدينة التي كتبها رسول الله ص واله بعد الهجرة لوجدناها عبارة عن دستور ينظم طبيعة العلاقة بين أفراد مجتمع المدينة .. ذكرها ابن اسحق في سيرته ، من فقراتها :
بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا كتاب من محمد النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بهم وجاهد معهم : أنهم أمة واحدة من دون الناس ... وأنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متنافر عليهم ... وأنه ما كان بين أهل هذه الصحيفة من حدثٍ أو إشتجار يُخاف فساده فإن مرده إلى الله سبحانه وتعالى وإلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن الله على من أتقى ما في هذه الصحيفة وأبره... وعشرات الفقرات الأخرى التي طبقها المجتمع بنسبة عالية من غير نظام مؤسسي يدير ذلك ..
ما أريد قوله هنا .. كل ذلك كانت تديره الروح الإسلامية المتقدة يومئذ والايمان الكبير بالرسالة والدعوة الى الله تعالى والمعقود في قلب المسلم .. كان وجود النبي يمثل حرارة متقدة يكتسب منها المسلمون عزيمتهم وقوتهم ومغالبتهم لأنفسهم ولعدوهم ..
حياة المجتمع الاسلامي ومركز قوته ومدار نهضته وتقدمه وضمان تطبيق أحكامه وتشريعاته هو هذه المعنويات والتوجهات الروحية والنفسية والقلبية التي تشدّه لدينه وشريعته ومجتمعه ..
ولقد تنبّه بعض الكتاب الى هذه الروح المعنوية العالية في صدر الاسلام واشترطها كعنصر أساسي لمن أراد أن يعيد تلك الحضارة والنهضة الاسلامية التي فتحت الشرق والغرب ..
قال تعالى : ( مُّحَمَّدٞ رَّسُولُ ٱللَّهِۚ وَٱلَّذِينَ مَعَهُۥٓ أَشِدَّآءُ عَلَى ٱلۡكُفَّارِ رُحَمَآءُ بَيۡنَهُمۡۖ تَرَىٰهُمۡ رُكَّعٗا سُجَّدٗا يَبۡتَغُونَ فَضۡلٗا مِّنَ ٱللَّهِ وَرِضۡوَٰنٗاۖ سِيمَاهُمۡ فِي وُجُوهِهِم مِّنۡ أَثَرِ ٱلسُّجُودِۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمۡ فِي ٱلتَّوۡرَىٰةِۚ وَمَثَلُهُمۡ فِي ٱلۡإِنجِيلِ كَزَرۡعٍ أَخۡرَجَ شَطۡـَٔهُۥ فَـَٔازَرَهُۥ فَٱسۡتَغۡلَظَ فَٱسۡتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِۦ يُعۡجِبُ ٱلزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ ٱلۡكُفَّارَۗ وَعَدَ ٱللَّهُ ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّٰلِحَٰتِ مِنۡهُم مَّغۡفِرَةٗ وَأَجۡرًا عَظِيمَۢا ) الفتح ٢٩
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat