صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

ما هي صفة ملك الموت؟
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 
 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
﴿قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ المَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى‏ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ﴾ (السجدة11).
 
لقد حصل ملك الموت على توكيلٍ من الإله العظيم، فهُوَ موكَّلٌ بالعباد جميعاً، بصغيرِهم وكبيرِهم، بذكرِهم وأنثاهُم، بمؤمنِهِم وكافرهم، ليقبض أرواحهم، حينما تَحينُ آجالُهم.
 
لكنَّ هذه (الوظيفة) غريبةٌ عنَّا.. مع كثرة مَن نرى من الأموات أمامنا، ذلك أنَّ الموتَ أمرٌ خَفيٌّ، والقابض للأرواح مَلَكٌ كَريمٌ لا سبيلَ لنا إلى رؤيته.
 
لكنَّ نبيَّنا صلى الله عليه وآله كَشَفَ لنا بعضَ أوصافه، ولقد رآه حينما أسري به صلى الله عليه وآله إلى السماء، وكان ملك الموت جالساً.
 
يقول صلى الله عليه وآله: وَإِذَا جَمِيعُ الدُّنْيَا بَيْنَ رُكْبَتَيْهِ!
وَإِذَا بِيَدِهِ لَوْحٌ مِنْ نُورٍ فِيهِ كِتَابٌ يَنْظُرُ فِيهِ، وَلَا يَلْتَفِتُ يَمِيناً وَلَا شِمَالًا، مُقْبِلًا عَلَيْهِ كَهَيْئَةِ الحَزِينِ! (تفسير القمي ج‏2 ص6).
 
ملك الموت هذا كان دائباً في قبض الأرواح.. وهو (أَشَدُّ المَلَائِكَةِ عَمَلًا)، وقد أورثه عمله حُزناً! مع أنَّ روحه ليست هي المقبوضة، بل هو قابضُ الأرواح!
 
هو يرى النّاسَ حيث كانوا، ويشهدهم بنفسه كما أخبرَ النبيَّ صلى الله عليه وآله، ثم قال:
مَا الدُّنْيَا كُلُّهَا عِنْدِي- فِيمَا سَخَّرَهَا الله لِي وَمَكَّنَنِي مِنْهَا- إِلَّا كَالدِّرْهَمِ فِي كَفِّ الرَّجُلِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ!
 
أيُّ إحاطةٍ وتَسخيرٍ وقُدرةٍ أعطاها الله تعالى لملك الموت؟! أمرٌ في غاية العجب.. أن يكونَ مخلوقٌ من مخلوقات الله تعالى قادراً على مثل هذه الإحاطة.. إنَّه أمرٌ يكشفُ عن عظيم قُدرة الباري عزَّ وجل، ورفيع جلاله.
 
ثمَّ قال ملك الموت:
وَمَا مِنْ دَارٍ إِلَّا وَأَنَا أَتَصَفَّحُهَا كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ، وَأَقُولُ إِذَا بَكَى أَهْلُ المَيِّتِ عَلَى مَيِّتِهِمْ: لَا تَبْكُوا عَلَيْهِ! فَإِنَّ لِي فِيكُمْ عَوْدَةً وَعَوْدَةً! حَتَّى لَا يَبْقَى مِنْكُمْ أَحَدٌ!
 
استعظم الرَّسول صلى الله عليه وآله الموت، فقال لجبرائيل: كَفَى بِالمَوْتِ طَامَّةً يَا جَبْرَئِيلُ!
فَقَالَ جَبْرَئِيلُ: إِنَّ مَا بَعْدَ المَوْتِ أَطَمُّ وَأَطَمُّ مِنَ المَوْتِ! (تفسير القمي ج‏2 ص6).
 
فآهٍ ثمَّ آه..
هذا الموتُ الذي يخشاهُ حتى الطُّغاة والفراعنة.. الموتُ الذي لو عَرَفَت منه البهائم ما عرفنا لم تسمن! هو أهونُ ممَّا بعده.. فما بعده أطمُّ وأعظم!
 
يخشى النّاسُ الموتَ.. وملكَ الموتِ.. لكنَّه لا يخشى أحداً منهم، وقد دخل يوماً على من أعطي مُلكاً لا ينبغي لأحدٍ من بعده، فقال له: أَنَا الَّذِي لَا أَقْبَلُ الرُّشَى، وَلَا أَهَابُ المُلُوكَ، أَنَا مَلَكُ المَوْتِ، فَقَبَضَهُ وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى عَصَاه‏ (تفسير القمي ج‏1 ص55).
 
لا يدفعُ شيءٌ عن امرئٍ ميتَتَه.. ولا دخولَ ملك الموت عليه..
لا أموال الدُّنيا.. ولا القيادة والزعامة.. ولا الرئاسة والوجاهة.. فليس يقدرُ أحدٌ على منعه ودفعه.. فهو ملكٌ كريمٌ مسخَّرٌ بأمر الله تعالى.. وهو على عظمة ما عنده من قُدرةٍ لا يقدر على شيء إلا بأمر الله.. وهو القائل: وَلَوْ أَرَدْتُ قَبْضَ رُوحِ بَعُوضَةٍ مَا قَدرْتُ عَلَيْهَا حَتَّى يَأْمُرَنِي رَبِّي بِهَا! (الكافي ج3 ص136).
 
بل إنَّه مع مقدار إحاطته هذه لا يعلم متى ينبغي قبضُ الأرواح قبل أوانها، إلا أن ينزل عليه كتابٌ من السماء بذلك: إِنَّمَا هِيَ صِكَاكٌ تَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ: اقْبِضْ نَفْسَ فُلَانِ بْنِ فُلَانٍ (الكافي ج3 ص255.)
 
ثمَّ إنَّه لا يظهر للعباد على صورةٍ واحدةٍ، فقد أقدره الله على التصوُّر بصورٍ مختلفة، تُناسبُ حال الميِّت.. فهو يظهر للطاهرين على أحسن صورة، وللأنجاس على أقبح صورة!
 
ولقد كان يوم ظهر لإبراهيم عليه السلام لقبض روحه في أحسن صورةٍ، ما رآها إبراهيمُ قطّ! حتى خاطبه قائلاً: مَنِ الَّذِي يَكْرَهُ قُرْبَكَ وَزِيَارَتَكَ وَأَنْتَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ؟! (علل الشرائع ج‏1 ص38).
فإنَّ الله تعالى يتلطَّف بعبده المؤمن حتى فيما يرى من صورةٍ لملك الموت، فيغيِّر حُسنُ صورته كُرهَ المؤمن للموت، فيأنس به ويحبُّ القُرب منه!
 
أمّا الصورة التي يظهر بها للفاجر.. فإنَّ أحداً منّا لا يُطيق رؤيته عليها! بل ولا أنبياءَ الله تعالى! وهذا إبراهيم عليه السلام طلب رؤيته على تلك الحالة: فَإِذَا هُوَ بِرَجُلٍ أَسْوَدَ، قَائِمِ الشَّعْرِ، مُنْتِنِ الرِّيحِ، أَسْوَدِ الثِّيَابِ، يَخْرُجُ مِنْ فَمِهِ وَمَنَاخِرِهِ لَهَبُ النَّارِ وَالدُّخَانُ!
فَغُشِيَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، ثُمَّ أَفَاقَ فَقَالَ: لَوْ لَمْ يَلْقَ الفَاجِرُ عِنْدَ مَوْتِهِ إِلَّا صُورَةَ وَجْهِكَ كَانَ حَسْبُه‏ (جامع الأخبارص170).
 
ثمَّ إنَّ لملك الموت: أَعْوَانٌ مِنْ مَلَائِكَةِ الرَّحْمَةِ وَالنَّقِمَةِ، يَصْدُرُونَ عَنْ أَمْرِهِ، وَفِعْلُهُمْ فِعْلُهُ (الإحتجاج ج1 ص247).
فإنَّه يقبضُ أرواحاً بنفسه، وأعوانه أيضاً يقبضون أرواحاً متفرِّقة، ثمَّ تُعرَضُ عليه مجتمعةً فيقبضها منهم..
 
ولقد خلقَ الله تعالى الأرواح مُطيعةً لهذا الملك الشريف.. مُجيبةً لأمره.. وهو القائل عنها: أَدْعُوهَا فَتُجِيبُنِي! (من لا يحضره الفقيه ج1 ص134).
 
لكنَّا لا نقدرُ بأنفسنا على معرفة ذلك لولا تعريف الإمام لنا، فمِن أينَ نعرفُ كيف يقبضُ ملك الموت الروح؟ وقد جعل أميرُ المؤمنين عليه السلام جهلنا بكيفية قبض الروح دليلاً على عظمة الله سبحانه.. وهو الحقُّ الذي لا ريب فيه..
 
فقال في نهجه الشريف:
هَلْ تُحِسُّ بِهِ إِذَا دَخَلَ مَنْزِلًا؟
أَمْ هَلْ تَرَاهُ إِذَا تَوَفَّى أَحَداً؟
بَلْ كَيْفَ يَتَوَفَّى الجَنِينَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ؟
أَ يَلِجُ عَلَيْهِ مِنْ بَعْضِ جَوَارِحِهَا؟
أَمْ الرُّوحُ أَجَابَتْهُ بِإِذْنِ رَبِّهَا؟
أَمْ هُوَ سَاكِنٌ مَعَهُ فِي أَحْشَائِهَا؟
كَيْفَ يَصِفُ إِلَهَهُ مَنْ يَعْجَزُ عَنْ صِفَةِ مَخْلُوقٍ مِثْلِه؟!‏ (نهج البلاغة الخطبة112).
 
نحنُ لا نحسُّ به، ولا نراه، ونعلمُ أنَّه ليس ساكناً في أحشاء الأمّ ليقبض الجنين، ولا في داخلنا ليقبض أرواحنا.. لكنَّا لولا تعليم مَن علَّمَهُمُ الله تعالى لنا، لم نكن لنعلم أنَّه يدعو الرُّوح فتُجيبُهُ بإذن الله.. ولعلَّنا كنّا نتوهَّم أنَّه يلجُ على الجنين من بعض جوارح الأم ثم يقبض روحه ويخرج! لكنَّ الأمر ليس كذلك.
 
وبعدما عرفنا أنَّه يدعو الروح فتجيبه، لا زلنا عاجزين عن وصف كيفية هذه الدَّعوة، وكيفيَّة الاستجابة..
فمَن ذا الذي يعجز عن وصفٍ مخلوقٍ ثمَّ يقدرُ على وصف الخالق كما يستحقُّه!
وما حالُ أولئك الحمقى الذين يزعمون الفناء والإندكاك في الله تعالى! حتى يصير أحدهم والله واحداً!
وما حالُ من يزعم أنَّه كُشِفَ له الغطاء فاطَّلَعَ على الذات الإلهية المقدَّسة!
تعالى ربُّنا على ذلك علوّاً كبيراً.
 
ثمَّ إنَّ ملك الموت تارةً يلحظُ العبادَ في مروره عليهم مراراً كلَّ يوم.. وتلك اللحظة التي يكون القومُ فيها: جُلُوساً فَتَعْتَرِيهِمُ السَّكْتَةُ، فَمَا يَتَكَلَّمُ أَحَدٌ مِنْهُمْ، فَتِلْكَ لَحظَةُ مَلَكِ المَوْتِ (ع) حِينَ يَلْحَظُهُمْ (الزُّهد ص55).
وتارةً أخرى يُذيقهم الموت.. بلا استثناء.. ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ المَوْتِ وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القِيامَةِ﴾ (آل عمران185).
 
لكنَّ العجيب أنَّ هذه الآية المباركة تشملُ حتى ملك الموت نفسه!
 
فإنَّ الله تعالى بعدما يُميت أهل الأرض.. يُميتُ أهل السماء الدُّنيا، ثمَّ سائر السماوات تِباعاً، حتى السماء السابعة، ثمَّ يُميت ميكائيل، فجبرائيل، فإسرافيل: ثُمَّ أَمَاتَ مَلَكَ المَوْتِ.. ثُمَّ يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: لِمَنِ المُلْكُ اليَوْمَ؟
فَيَرُدُّ عَلَى نَفْسِهِ: لله الواحِدِ القَهَّارِ، أَيْنَ الجَبَّارُونَ؟ أَيْنَ الَّذِينَ ادَّعَوْا مَعِي إِلَهاً؟ أَيْنَ المُتَكَبِّرُونَ؟ (الأصول الستة عشر ص194).
 
وهكذا يقول الله تعالى لملك الموت: ِ يَا مَلَكَ المَوْتِ، وَعِزَّتِي وَجَلَالِي، وَارْتِفَاعِي فِي عُلُوِّي، لَأُذِيقَنَّكَ طَعْمَ المَوْتِ كَمَا أَذَقْتَ عِبَادِي (عيون أخبار الرضا عليه السلام ج2 ص32).
 
آهٍ من كثرة العِبَر.. وقلّة الاعتبار..
وكثرة الموت والأموات.. وقلَّة المعتبر بهم!
اللهمَّ إِذَا صِرْنَا إِلَى مَا صَارُوا إِلَيْهِ، فَأْمُرْ مَلَكَ المَوْتِ أَنْ يَكُونَ بِنَا رَءُوفاً رَحِيماً.
 
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/05/29



كتابة تعليق لموضوع : ما هي صفة ملك الموت؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net