صفحة الكاتب : د . عبد علي سفيح الطائي

المعتزلة قراءة انثروبولوجية
د . عبد علي سفيح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في هذا المقال لست بصدد السرد التاريخي للمعتزلة، الذي يعتمد على النصوص والوثائق التي هي مادة التاريخ الأولى ودعامة الحكم القوية، بل اخترت هذا العنوان لأني قرأت ومن دواعي الصدف كتاب للباحث حسين مروة بعنوان " النزعات المادية في الفلسفة العربية الاسلامية"، وجدتها قراءة بمنهجية علمية دقيقة لم يسبق لأحد من قبله رغم غزارة الكتب التي كتبت عن المعتزلة، التي جاوزت المائة كتاب، فسعيت جاهدا بالحفر والتفكيك لهذه الظاهرة الفريدة في التاريخ العربي الاسلامي ومحاولة تحديد جذورها، فهي لن تظهر بصورة عفوية وفجائية، ولن تقارن بفعل فردي من واصل بن عطاء مؤسس هذه المدرسة، وليست ردة فعل فكرية نتيجة نقاش دار بين واصل بن عطاء مع استاذه الحسن البصري، بل نجد جذور هذه الظاهرة واصولها بما سبقها من تطور المجتمع العربي الاسلامي.

يجدر بنا وقبل كل شيء أن نسأل سؤال وهو: لماذا هذه الظاهرة الفكرية الفريدة ظهرت في البصرة ولم تظهر في الكوفة، علما كانت الكوفة عاصمة الخلافة الاسلامية في زمن الامام علي، والحيرة( النجف حاليا) كانت مدينة تمثل مركز إشعاع ثقافي وعاصمة المناذرة قبل الاسلام؟.

الجواب يأتي من الجغرافية. الجغرافيا هي التي تصنع التاريخ؛ البصرة مدينة تقع على رأس الخليج والذي كان يسمى في العهد العثماني بخليج البصرة، وهي مدينة ساحلية حالها حال معظم المدن الساحلية في العالم التي تشهد بالتنوع الثقافي والاثني والديني، ولقد سجل التاريخ تواجد هذا التنوع البشري منذ آلاف السنين لأن البصرة منطقة إتصال بلاد الرافدين بالحضارات الأخرى وصولا إلى الهند والسند.

مع الأسف يجهل الكثير من الناس ماضي البصرة القديم، إذ تقتصر معظم الدراسات على سرد تاريخ البصرة بعد الاسلام ولا تتطرق ذكر تاريخها الغابر.

أكدت البحوث العلمية بأن سر تطور الأمم وتقدمها يكمن في حسن إدارتها لهذه التعددية العرقية والدينية، ولدعم فرضية الجغرافيا في صنع التاريخ ودور البصرة في صنع ظاهرة الاعتزال، نسلك منهج البحث المقارن لدعم فرضيتنا فوجدنا مدينة في جنوب أفريقيا تسمى بيترماريزبورغpietermaritzburg التي يقطنها اقلية هندية كبيرة، ومن هذه المدينة ولدت فلسفة وثقافة اللاعنف( الساتياغراها) لغاندي والتي أثرت على التطورات السياسية في جنوب أفريقيا ومنها تبناها القائد نيلسون مانديلا في صراعه ضد التمييز العنصري الذي تبناه البيض.

للجغرافيا أثر كبير في صناعة التاريخ، والبصرة نقطة وصل بين الأمم المختلفة لوجود ممر مائي، جعلت من البصرة مركز تنافس وصراع لا يزال مستمرا حتى يومنا هذا. جاء الاسلام والايمان من الجزيرة العربية إلى العراق عن طريق البصرة، حاملا معه ارثا ثقافية وتاريخيا مليء بالصراعات والتعصب القبلي، وقد تعامل الامويون مع الأمم خارج الجزيرة العربية تعاملا عنصريا ميزوا بين العرب وبين الموالي وهم غير العرب، وعند دراسة ظاهرة الاعتزال وجدنا معظمهم كانوا من تلك الفئة الاجتماعية التي يسمى أفراد ها بالموالي؛ الحسن البصري كان ابوه مولى زيد بن ثابت الانصاري، وواصل بن عطاء من موالي بني مخزوم، وعمر بن عبيد ولد في بلخ(افغانستان)، كذلك ابراهيم النظام، إضافة إلى العلاف ابي الهذيل مولى لعبد القيس، اما الجاحظ فكان أصله من الزنج وجده مولى لأحد رجال بني كنانة.

هؤلاء الموالي كانوا يشعرون بانتقاص في مكانتهم الاجتماعية ، وهذا الشعور الدفين هو الذي دفعهم إلى ولادة الفكر المعتزلي الذي يستند على قاعدة عقائدية وحددوا أصولها الخمسة وهي العدل والوحدانية والوعد والوعيد ومابين المنزلتين، أي أثر هذا الشعور بالدونية في اتجاههم الفكري والعقائدي كما حصل مؤخرا لليهود في العالم فتبنوا الأفكار السياسية العالمية كالشيوعية والاشتراكية، والعلوم العالمية مثل علم النفس عند فرويد، والاجتماع عند كارل ماركس، وعلم وراثة الجينات. فالاصول الخمسة عند الاشاعرة كانت تعبر بوضوح عن اللاوعي الجماعي لهذه الشريحة الاجتماعية من مجتمع البصرة.

بعد أن بينا بأن الجغرافيا هي التي تصنع تاريخ الأمم وتحدد سلوكها وافكارك وتطلعاتها، ننتقل إلى سؤال آخر وهو: هل ممكن أن يلعب الفكر كوسيلة للتحول الحضاري؟، اذا كان الجواب بنعم، فهل ممكن القول بأنه لولا الفكر الاصلاحي المعتزلي لما شهدت بغداد والحضارة العربية الإسلامية هذا التقدم والرقي في جميع المجالات؟، أي بمعنى أدق، هل الاعتزال كان شرطا مسبقا لبناء الحضارة العربية الإسلامية؟.

للإجابة على هذا السؤال أود أن أرصد أوجه الشبه بين الفكر الاصلاحي المعتزلي في القرن الثامن الميلادي والفكر الاصلاحي البروتستانتي في القرن السادس عشر ميلادي.

المعتزلة وعلى رأسهم مؤسس الفرقة واصل بن عطاء، والبروتستانتية وعلى رأسها مؤسسه الراهب مارتن لوثر، انشاوا حركات تنويرية ربطت الدين بالفلسفة، وتصالح العقل الديني مع العقل الفلسفي، وهذا التصالح أفضى إلى التزاوج مع السياسة. المعتزلة والبروتستانتية كانت حركات قائمة على اخضاع النصوص الدينية للسلطة العقل، وهذا ما انقذ المجتمع العربي الاسلامي من استمرار الانشقاق والصراع، كذلك انقضت البروتستانت المجتمع الأوربي المسيحي آنذاك من التدهور.

شجعت الحركتان الاصلاحيتان المجتمع على الانخراط في الاوساط الفكرية وأصبح المجتمع يهتم بالمجالات العلمية، وعمل جاهدا لاكتساب مقومات الحضارة.

المناظرة والنقاش والحوار في العقيدة والمفاهيم اللاهوتية مع أبناء نفس الدين أو مع الآخرين لإثبات الحجة والدليل العلمي، كانت نقطة ابتداء المعتزلة والبروتستانتية. في بغداد كان حكام بني العباس ورجال السياسة والأدب والفلسفة والدين يعقدون مجالس للنقاش والحوار، وفي هذه الفترة شكلت الحضارة العربية الإسلامية شعاع فكري عالمي لامع. كذلك رصدنا من ناحية السياسة تشابه بين المعتزلة والبروتستانتية، بنمو الشعور الوطني ولم يكتفوا بكونهم مصدر للشريعة الدينية بل اصبحا سلطة دنيوية تملي خطوات سياسية.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد علي سفيح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/14



كتابة تعليق لموضوع : المعتزلة قراءة انثروبولوجية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net