صفحة الكاتب : شعيب العاملي

الشِّيعة والإستعجال!
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
 
قال تعالى ﴿وَلله الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنين‏﴾ (المنافقون8)‏
وقال إمامنا الصادق عليه السلام: المُؤْمِنُ يَكُونُ عَزِيزاً وَلَا يَكُونُ ذَلِيلاً‏ (الكافي ج5 ص63).
 
لكن عزَّةَ الرُّسُل لم تمنع من تكذيب الناس لهم، ولِسَيِّدِهِم صلى الله عليه وآله، قال تعالى: ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ﴾ (فاطر4).
ولم تحجز هذه العزَّةُ الخلقَ عن قتل الأنبياء: ﴿إِنَّ الَّذينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ الله وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَق‏..﴾ (آل عمران21).
 
فما كان على الرُّسُل والأنبياء إلا أن يصبروا: ﴿وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى‏ ما كُذِّبُوا وَأُوذُوا﴾ (الأنعام34)..
 
وعلى هذا جَرَت سيرة الظالمين مع الفِرقة الناجية، تكذيباً وقتلاً، وظُلماً وعُدواناً، حتى قال إمامنا الصادق عليه السلام:
فاتَّقُوا الله أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ النَّاجِيَةُ.. فَإِنَّهُ لَا يَتِمُّ الْأَمْرُ حَتَّى يَدْخُلَ عَلَيْكُمْ مِثْلُ الَّذِي دَخَلَ عَلَى الصَّالِحِينَ قَبْلَكُمْ، وَحَتَّى تُبْتَلَوْا فِي أَنْفُسِكُمْ وَأَمْوَالِكُمْ، وَحَتَّى تَسْمَعُوا مِنْ أَعْدَاءِ الله أَذىً كَثِيراً فَتَصْبِرُوا..: فلم يأمر الله تعالى هذه الفرقة الناجية سوى بالصبر على هذه البلايا وأصناف الأذى.. بل بَشَّرَهم بما يزيد عن ذلك من بلاءٍ وامتحان، وهو ما ظاهِرُهُ الذلَّة!
 
فقال عليه السلام:
وَحَتَّى يَسْتَذِلُّوكُمْ: وسواءٌ أُريدَ بها أن يستذلُّوكم في أمور الدُّنيا دون الدين، لأن المؤمن قويٌّ في دينه، صلبٌ فيه.
أو أُريدَ منها أن يقهَروكم في الظاهر من أمور الدين، دون باطنه.
أو أن يرونَكُم أذلاء (استذلّه أي رآه ذليلاً).
أو أن يعمَلوا على إذلالكم وان لم تكونوا أذلاء، أو غيرذلك..
فهذا سَعيُهُم وشأنهم، سيُحاكَمون عليه في محكمة الله تعالى.
 
لكنَّ المهم هو فعلكم أنتم أيها الشيعة.. قال الإمام عليه السلام:
 
وَحَتَّى يَسْتَذِلُّوكُمْ وَيُبْغِضُوكُمْ، وَحَتَّى يُحَمِّلُوا عَلَيْكُمُ الضَّيْمَ، فَتَحَمَّلُوا مِنْهُمْ تَلْتَمِسُونَ بِذَلِكَ وَجْهَ الله وَالدَّارَ الْآخِرَةَ..: فجعل عليه السلام فِعلَ الشيعة هو (التَحَمُّل)!
 
وَحَتَّى يُكَذِّبُوكُمْ بِالْحَقِّ، وَيُعَادُوكُمْ فِيهِ، وَيُبْغِضُوكُمْ عَلَيْهِ، فَتَصْبِرُوا عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ: وجَعَلَ عليه السلام جواب التكذيب والعداوة والبغضاء (الصبر) على ذلك! كما صَبَرَ أولو العزم من الرسل.
 
ثم قال عليه السلام:
فَتَدَبَّرُوا هَذَا وَاعْقِلُوهُ، وَلَا تَجْهَلُوهُ، فَإِنَّهُ مَنْ يَجْهَلْ هَذَا وَأَشْبَاهَهُ مِمَّا افْتَرَضَ الله عَلَيْهِ فِي كِتَابِهِ مِمَّا أَمَرَ الله بِهِ وَنَهَى عَنْهُ، تَرَكَ دِينَ الله، وَرَكِبَ مَعَاصِيَهُ، فَاسْتَوْجَبَ سَخَطَ الله، فَأَكَبَّهُ الله عَلَى وَجْهِهِ فِي النَّارِ (الكافي ج8 ص5).
 
ليس الأمرُ يسيراً أبداً، ولَيسَ هناك تنبيهٌ أشدُّ من هذا، فإنّ جَهلَ هذا الأمر المفروض يودي إلى ترك دين الله، وفَتحِ باب الأخذ فيه بالهوى واتّباع المقاييس الباطلة.
وقد تكفَّل الله تعالى بتخفيف البلاء عن الشيعة: وَلَوْلَا أَنَّ الله تَعَالَى يَدْفَعُهُمْ عَنْكُمْ لَسَطَوْا بِكُمْ.
 
لكن لهذا الأمر شروطاً منها:
 
1. أن يعلم المؤمن ما فرضه الله عليه من لزوم الصبر والتحمل لما يقع عليه.
2. أن يعمل بعِلمه لا بهواه، فيصبر ويتحمل.
3. أن لا يكون من المستعجلين.
فتُخرِجُهُ العجلة إلى اتّباع الهوى، وقد هلك المستعجلون، لأن الظالمين: لَنْ يُرِيدُوا إِلَّا مَنْ يَعْرِضُ لَهُمْ، كما عن باقر علوم آل محمد عليه السلام (الكافي ج8 ص273).
ومَن تعجَّلَ صار من المتقدمين على آل محمد فيما أخروه و(المُتَقَدِّمُ لَهُمْ مَارِق‏‏)..
 
ولما كان المؤمنُ موقناً بحكمة الله تعالى وعَدلِه، لم يكن له بُدٌّ من التسليم والخضوع لإرادته تعالى في إنفاذ شريعته..
 
ولَئِن عَلِمَ المؤمنُ وجهَ الحكمة في أوامر الله تعالى على لسان أوليائه كان صابراً عالماً، فإن أدرك ما يقوله صادق العترة عليه السلام عن الظالمين والمؤمنين: وَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَكُمْ بِجَائِحَةٍ إِلَّا أَتَاهُمُ الله بِشَاغِلٍ، إِلَّا مَنْ تَعَرَّضَ لَهُم (الغيبة للنعماني ص197‏)، وعرف أن الله حافظُ المؤمنين لمّا صبروا.. كان صبرُهُ مقروناً بشيءٍ من المعرفة..
 
وإن جَهِلَ المؤمنُ الوجهَ في لزوم الصَّبر والتحمُّل.. ولكن لم يخرجه الأذى عن شِرعة الحق وميزانه.. يؤمَّلُ أن يكون ممن قال فيهم المعصوم: نَحْنُ صَبَرْنَا، وَشِيعَتُنَا أَصْبَرُ مِنَّا، وَذَلِكَ أَنَا صَبَرْنَا عَلَى مَا نَعْلَمُ، وَهُمْ صَبَرُوا عَلَى مَا لَا يَعْلَمُون‏‏ (تفسير القمي ج2 ص141).
 
لكنّ المنصف يخشى أن توصله الحميّة أو العصبيّة أو الجهل إلى الردّ على آل محمد فيما بَثُّوُهُ إلينا من أثقال الوحي، وقد قالوا: أَلَا وَإِنَّ الرَّادَّ عَلَيْنَا كَالرَّادِّ عَلَى رَسُولِ الله جَدِّنَا، وَمَنْ رَدَّ عَلَى رَسُولِ الله ص فَقَدْ رَدَّ عَلَى الله (كامل الزيارات ص336).
 
المُرَابَطَة في زَمَن الغَيْبَة!
 
لقد حَثَّت آياتُ الكتاب الكريم على الجهاد، وأسبَغَت على المجاهدين الثَّناء، وعُدَّ الجهادُ في سبيل الله شَطراً من الشريعة الغرّاء..
ويكاد المتتبع لآيات الجهاد وكلمات المعصومين عليهم السلام يخالُ أنّ الجهاد فرضٌ واجبٌ في كل حالٍ وظَرفٍ، ودون أيِّ قيدٍ وشرط.
 
وقد أمر الله تعالى خير خلقه بالجهاد بقوله: ﴿يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَالمُنافِقينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ﴾ (التوبة73).
وأمر الله المسلمين عامّة بالقتال: ﴿وَقاتِلُوا في‏ سَبيلِ الله﴾ (البقرة 244)، وبالجهاد: ﴿وَجاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهادِه﴾ (الحج 78).
 
وكثيراً ما نَجعَلُ الآية الشريفة باباً للحثّ على الجهاد والقتال بعد إعداد العدة له: ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال60).
 
ويكتمل الجناح الآخر لهذا التصوُّر عند مطالعة روايات الحثّ على الجهاد، والذمّ للمتقاعسين، كقول أمير المؤمنين لهم: يَا أَشْبَاهَ الرِّجَالِ وَلَا رِجَال‏! (الكافي ج5 ص6).
 
وتكون الخلاصة أنّ الله سبحانه وتعالى قد أوجب الجهاد على المسلمين، وأنّ التخلُّفَ عنه معصيةٌ إن لم يكن جُبنَاً ووهناً، فكلُّ من لم يسلك طريق (الكفاح المسلح) كان خائناً لشريعة الله تعالى!
 
لكنّ بعض الكُمَّل من أوائل الشيعة أدرك أن هذه الأحكام كلها تدورُ مدار الإمام المعصوم، فهو لسان الله الناطق في خلقه، وهو حجة الله التامة، وأنّ فعله هو الميزان في الحلال والحرام، فهو المؤتمن على وحي الله تعالى وأمره وسرِّه.
 
ومن هؤلاء: بعض الصفوة الذين كانوا مع عليٍّ عليه السلام عندما كُشِفَ بيت الزهراء سيدة النساء عليها السلام، فأدركوا أن مَشقَ السيف يحتاج إذناً من المعصوم..
 
وقد ورد في النصوص:
 
فَقَامَ الْمِقْدَادُ فَقَالَ: يَا عَلِيُّ بِمَا تَأْمُرُنِي؟
والله إِنْ أَمَرْتَنِي لَأَضْرِبَنَّ بِسَيْفِي، وَإِنْ أَمَرْتَنِي كَفَفْتُ.
فَقَالَ عَلِيٌّ (ع): كُفَّ يَا مِقْدَادُ، وَاذْكُرْ عَهْدَ رَسُولِ الله وَمَا أَوْصَاكَ بِه (كتاب سليم ج2 ص592).
 
وكذا كان التزام سلمان بأوامر أمير المؤمنين حتى قال له الثاني: إِنَّكَ لَهُ لَمُطِيعٌ مُسَلِّم‏ (المصدر ص596).
وقد قالوا: وَلَمْ يَكُنْ مِنَّا أَحَدٌ أَشَدَّ قَوْلًا مِنَ الزُّبَيْرِ (المصدر 594).
 
اتصفت هذه الثُلَّةُ بالتسليم المطلق، لكنّ الزبير مع شدّته ابتَعَدَ عن التسليم شيئاً فشيئاً، حتى أخرَجَ مَعَ صِنوِهِ صاحبةَ الجمل، وأشعلَ معها نارَ حَربِها!
 
وعلى هذه السيرة جرى سواه.. فخرج الخوارج على عليٍّ عليه السلام لمّا أغمَدَ سيفه بعدما ألجؤوه لذلك.. وكَرَّت السُّبحة..
 
يروي الشيخ النعماني في كتاب الغيبة‏ عن علي بن الحسين عليه السلام أنّ ابن عباس بَعَثَ إليه من يسأله عن هذه الآية: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا﴾ (آل عمران200).
 
وكأنَّ ابن عباسٍ يريد أن يُعَرِّضَ بمخالفة زين العابدين عليه السلام (للرِّباط) كما أمرت الآية، فإنَّ إمامنا زين العابدين عليه السلام لم يكن مِمَّن نَهَجَ منهج (الكِفاح المسلح)، ولا ممَّن (رابَط) بالسلاح، فتوهَّمَ ابنُ عباسٍ أن الثقلين المتَّفِقَين قد اختلفا!
 
ولأنَّ مثل هذا أمرٌ عسير، لم يواجه ابن عباس إمامنا بذلك، بل أرسل سائلاً يشيرُ في سؤاله لهذا المعنى دون تصريح.
 
تقول الرواية:
فَغَضِبَ عَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ (ع) وَقَالَ لِلسَّائِلِ: وَدِدْتُ أَنَّ الَّذِي أَمَرَكَ بِهَذَا وَاجَهَنِي بِهِ.
ثُمَّ قَالَ: نَزَلَتْ فِي أَبِي وَفِينَا، وَلَمْ يَكُنِ الرِّبَاطُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ بَعْدُ، وَسَيَكُونُ ذَلِكَ ذُرِّيَّةً مِنْ نَسْلِنَا المُرَابِطُ.
ثُمَّ قَالَ: أَمَا إِنَّ فِي صُلْبِهِ يَعْنِي ابْنَ عَبَّاسٍ وَدِيعَةً ذُرِئَتْ لِنَارِ جَهَنَّمَ، سَيُخْرِجُونَ أَقْوَاماً مِنْ دِينِ الله أَفْوَاجاً، وَسَتُصْبَغُ الْأَرْضُ بِدِمَاءِ فِرَاخٍ مِنْ فِرَاخِ آلِ مُحَمَّدٍ (ع)، تَنْهَضُ تِلْكَ الْفِرَاخُ فِي غَيْرِ وَقْتٍ، وَتَطْلُبُ غَيْرَ مُدْرَكٍ، وَيُرَابِطُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَصْبِرُونَ وَيُصَابِرُونَ، حَتَّى يَحْكُمَ الله وَهُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (الغيبة للنعماني ص199).
 
يظهر من الرواية أمور:
 
1. أنّ مثل هذه الدَّعوى قد أثارت غَضَبَ إمامنا عليه السلام في الله عز وجل، فَدِينُ الله وعترة رسوله ليسا شُرعَةً لكلِّ وارد، وهم العالمون المعلِّمون كما قال جدُّهُم المصطفى: لَا تُعَلِّمُوهُمْ فَإِنَّهُمْ أَعْلَمُ مِنْكُم (الكافي ج1 ص287).
 
2. أن آية الحثِّ على الرِّباط إنما نزلت فيهم عليهم السلام، لكنَّ لها وقتاً لم يحن: وَلَمْ يَكُنِ الرِّبَاطُ الَّذِي أُمِرْنَا بِهِ بَعْدُ.
 
3. أنّ هذه المرابَطَة مختصَّةٌ بالقائم من آل محمد عليهم السلام، فهو (المرابط) من نسلهم.
 
4. أنّ من ينهض في غير وقته تُصبَغُ الأرض بدمائه، ولا يحقِّقُ مُرَاده.
بينما يكون الصَّبر والمرابطة والثناء والمديح من نصيب غير المتعجِّلين، حتى يحكم الله تعالى.
 
نعم هناك معنى آخر لمرابطة الشيعة، وهو انتظارهم لإمامهم عليه السلام، ففي حديثٍ آخر عن أبي جعفر الباقر عليه السلام في قوله عز وجل ﴿اصْبِرُوا وَصابِرُوا وَرابِطُوا﴾ فقال: ﴿اصْبِرُوا﴾ عَلَى أَدَاءِ الْفَرَائِضِ، ﴿وَصابِرُوا﴾ عَدُوَّكُمْ، ﴿وَرابِطُوا﴾ إِمَامَكُمُ المُنْتَظَرَ (الغيبة للنعماني ص199).
 
ثم جعل الله تعالى أجر المنتظرين كأجر المجاهدين مع إمامهم، فعن أبي عبد الله جعفر بن محمد عليه السلام أنه قال: مَنْ مَاتَ مِنْكُمْ عَلَى هَذَا الْأَمْرِ مُنْتَظِراً كَانَ كَمَنْ هُوَ فِي الْفُسْطَاطِ الَّذِي لِلْقَائِمِ (ع)‏ (المصدر ص200).
 
ولئن كان اشتباه الأمور مع حضور الإمام المعصوم إلى هذا الحدّ، فكيف بنا وإمامنا قد غابَ عن أبصارنا؟ وإن لم تفارقنا رعايته.
 
ولَئِن كان الدفاعُ عن العِرضِ والنفسِ حقاً مشروعاً بل واجباً لا يُتَهَاوَنُ فيه، ألا يكون ما سواه من (المرابطة) (والقتال) استعجالاً وتَقَدُّمَاً على من حَقُّهُ التقدُّم!
 
الشيعةُ والنَّوكَى!
 
لقد تَواتَرَت الروايات عن آل محمدٍ عليهم السلام بالأمر بالسكون والجلوس والمنع عن القيام المسلَّح، وكانت هذه الأوامر مُغَيَّاةً بالظهور المبارك للإمام الحجة عليه السلام، أو بمقدماته المباشرة وهي العلامات الحتمية التي تتَّصِلُ بالظهور..
ونهت صريحاً عن الاستعجال إلى أن يأتي أمر الله تعالى..
 
ومن هذه الروايات:
 
1. عن الصادق عليه السلام: يَا سَدِيرُ، الْزَمْ بَيْتَكَ وَكُنْ حِلْساً مِن‏ أَحْلَاسِهِ، وَاسْكُنْ مَا سَكَنَ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ، فَإِذَا بَلَغَكَ أَنَّ السُّفْيَانِيَّ قَدْ خَرَجَ فَارْحَلْ إِلَيْنَا وَلَوْ عَلَى رِجْلِكَ (الكافي ج8 ص264).
 
2. عن الباقر عليه السلام: اسْكُنُوا مَا سَكَنَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، أَيْ لَا تَخْرُجُوا عَلَى أَحَدٍ، فَإِنَّ أَمْرَكُمْ لَيْسَ بِهِ خَفَاءٌ (الغيبة للنعماني ص200).
 
3. عن الإمام الرضا عليه السلام مفسِّراً كلام من تقدَّم من الأئمة عليهم السلام، وموضحاً أنَّ الأمر بالسكون مُغيَّى بالعلامات الحتمية كالنداء منا لسماء والخسف بالبيداء: إِنَّمَا عَنَى أَبُو عَبْدِ الله (ع) بِقَوْلِهِ (مَا سَكَنَتِ السَّمَاءُ) مِنَ النِّدَاءِ بِاسْمِ صَاحِبِكُمْ، وَ(مَا سَكَنَتِ الْأَرْضُ) مِنَ الْخَسْفِ بِالْجَيْشِ ‏ (عيون أخبار الرضا ج1 ص311).
 
4. عن الباقر عليه السلام: كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ، وَأَلْبِدُوا مَا أَلْبَدْنَا، فَإِذَا تَحَرَّكَ مُتَحَرِّكُنَا فَاسْعَوْا إِلَيْهِ وَلَوْ حَبْواً (الغيبة ص194).
 
5. وعنه عليه السلام: أُوصِيكَ بِتَقْوَى الله، وَأَنْ تَلْزَمَ بَيْتَكَ، وَتَقْعُدَ فِي دَهْمَاءِ هَؤُلَاءِ النَّاسِ، وَإِيَّاكَ وَالْخَوَارِجَ مِنَّا، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا عَلَى شَيْ‏ءٍ وَلَا إِلَى شَيْ‏ء.. وَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَقُومُ عِصَابَةٌ تَدْفَعُ ضَيْماً أَوْ تُعِزُّ دِيناً إِلَّا صَرَعَتْهُمُ الْمَنِيَّةُ وَالْبَلِيَّة (الغيبة ص194).
 
6. وعن الصادق عليه السلام: كُونُوا أَحْلَاسَ بُيُوتِكُمْ، فَإِنَّ الْغَبَرَةَ عَلَى مَنْ أَثَارَهَا، وَإِنَّهُمْ لَا يُرِيدُونَكُمْ بِجَائِحَةٍ إِلَّا أَتَاهُمُ الله بِشَاغِلٍ إِلَّا مَنْ تَعَرَّضَ لَهُم‏‏ (الغيبة ص197).
 
7. وعنه عليه السلام: اجْلِسُوا فِي بُيُوتِكُمْ، فَإِذَا رَأَيْتُمُونَا قَدِ اجْتَمَعْنَا عَلَى رَجُلٍ فَانْهَدُوا إِلَيْنَا بِالسِّلَاحِ (الغيبة ص197).
 
8. وعنه عليه السلام: كُفُّوا أَلْسِنَتَكُمْ، وَالْزَمُوا بُيُوتَكُمْ، فَإِنَّهُ لَا يُصِيبُكُمْ أَمْرٌ تُخَصُّونَ بِهِ أَبَداً وَيُصِيبُ الْعَامَّةَ، وَلَا تَزَالُ الزَّيْدِيَّةُ وِقَاءً لَكُمْ أَبَداً (الغيبة ص197).
 
9. عن الباقر عليه السلام: يَا جَابِرُ، الْزَمِ الْأَرْضَ وَلَا تُحَرِّكْ يَداً وَلَا رِجْلًا، حَتَّى تَرَى عَلَامَاتٍ أَذْكُرُهَا لَك.. ‏(الغيبة ص279).
 
10. وعن الصادق عليه السلام: فَالْخَارِجُ مِنَّا الْيَوْمَ إِلَى أَيِّ شَيْ‏ءٍ يَدْعُوكُمْ؟ إِلَى الرِّضَا مِنْ آلِ مُحَمَّدٍ (ع)؟ فَنَحْنُ نُشْهِدُكُمْ أَنَّا لَسْنَا نَرْضَى بِهِ وَهُوَ يَعْصِينَا الْيَوْمَ.. (الكافي ج8 ص264).
 
هذه عشرةٌ من الروايات، وعشراتٌ أخرى أمثالها.. تُراجَع في مظانِّها..
 
ومع وضوح هذه الروايات وسواها، فلا شكَّ أنها لا تُعَطِّلُ كلَّ حِرَاكٍ في المجتمع الشيعي وإن كان فردياً، بل تقوم بتقنينه.
 
فهي لم تمنع مثلاً من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، لكنّ تشريع الأمر والنهي كان من أساسه مقيّداً بحالاتٍ خاصة تتناسب وغرض الشريعة السامي من حفظ الإسلام ممثَّلاً بالكيان الشيعي.. مع حفظ الفرد بعد حفظ الدين.
 
وكذا لم تمنع من الدِّفاع عن النَّفس والعِرض والمال، لأنَّ منعها خلاف الغرض الشرعي والحكم العقلي.
 
وهكذا سلكت الشريعة مسلكاً وسطاً دقيقاً، لا نظير له من حيث الحكمة والمتانة، وقد أثبت عبر التاريخ فعاليَّته في الحفاظ على العقيدة الشيعية نَقيَّةً رغم كل الظُّلامات.
 
ومن ضِمن ما راعته الشريعة المقدسة عدم ربط التشيُّع والشيعة بظاهرةٍ مناطقيةٍ، ولا سياسيةٍ، ولا إداريةٍ خاصة، لمنع أيّ انعكاسٍ لذلك على المذهب بأكمله.
فلو صار الإرتباطُ عُضوياً بين التشيُّع وهذه الحالات ثم بَادَت إحداها لَلَحِقَها المذهب كما حَلَّ بغيره من المذاهب.. والله الحافظ لدينه..
 
وليس التعامل مع هذه المنهجية الفريدة أمراً يسيراً، ولا إدراكه شيئاً سهلاً لغير المُسَلِّمِين، وقد قال أمير المؤمنين عليه السلام:
إِنَّ مِنَ الْعِلْمِ صَعْباً شَدِيداً مَحْمِلُهُ، لَوْ حَمَّلْتَهُ الْجِبَالَ عَجَزَتْ عَنْ حَمْلِهِ!
إِنَّ عِلْمَنَا أَهْلَ الْبَيْتِ سَيُنْكَرُ وَيُبْطَلُ، وَتُقْتَلُ رُوَاتُهُ، وَيُسَاءُ إِلَى مَنْ يَتْلُوهُ بَغْياً وَحَسَداً! (الغيبة 142).
 
وإنَّ الفتنة ستصل في زمن الغيبة إلى حَدٍّ يقول فيه أمير المؤمنين عليه السلام:
وَلَيَبْعَثَنَّ الله رَجُلًا مِنْ وُلْدِي فِي آخِرِ الزَّمَانِ، يُطَالِبُ بِدِمَائِنَا، وَلَيَغِيبَنَّ عَنْهُمْ تَمْيِيزاً لِأَهْلِ الضَّلَالَةِ، حَتَّى يَقُولَ الْجَاهِلُ: مَا لله فِي آلِ مُحَمَّدٍ مِنْ حَاجَة! (الغيبة ص 141).
 
وبعض آثار ذلك لا تستثني الشيعة، فعنه عليه السلام: كَأَنِّي بِكُمْ تَجُولُونَ جَوَلَانَ الْإِبِلِ، تَبْتَغُونَ مَرْعًى وَلَا تَجِدُونَهَا يَا مَعْشَرَ الشِّيعَةِ (الغيبة ص192).
 
ثم إنَّ هناك حالةً مُهِمَّةً يُعَدُّ عبد الله بن عطاء المكيّ نموذجاً لها، وهو الذي يروي قولَه لإمامنا الباقر عليه السلام:
إِنَّ شِيعَتَكَ بِالْعِرَاقِ كَثِيرَةٌ، وَالله مَا فِي أَهْلِ بَيْتِكَ مِثْلُكَ، فَكَيْفَ لَا تَخْرُجُ؟
قَالَ: فَقَالَ: يَا عَبْدَ الله بْنَ عَطَاءٍ، قَدْ أَخَذْتَ تَفْرُشُ أُذُنَيْكَ لِلنَّوْكَى! (الحمقى) إِي وَالله مَا أَنَا بِصَاحِبِكُم‏ (الكافي ج1 ص342).
 
ويلاحظ من الرواية:
 
1. أنّ الاستعجال كان سِمَةً لبعض الناس في سالف الأيام كما هو في حاضرها.. وأنّ هؤلاء كانوا يُصَرِّحُون برأيهم لإمامهم كما يجهَرون به اليوم أثناء غياب الإمام.
 
2. أنّ منشأ الإستعجال هو كثرة المناصرين والأَتباع، فتَصَوَّرَ هؤلاء أنَّ اجتماع عددٍ كبيرٍ من الناس حول الإمام كافٍ في لزوم القيام والخروج المسلَّح.
 
3. أنّ ضعف اليقين منشأٌ آخر للإستعجال، إذ كيف يجتمع اليقين بعصمة الإمام والإعتقاد بأنه عالمٌ بتعليمٍ من الله تعالى، مع الاعتراض على فِعاله؟ ما لم يكن السؤال استفهامياً محضاً.
 
4. أن هذا التفكير هو تفكير (الحمقى)، والأحمق (يريد أن ينفعك فيضرُّك‏) كما قال إمامنا زين العابدين عليه السلام.. فلعلّ هؤلاء من أهل الإيمان فعلاً، لكنَّهم لجهلهم وحمقهم يتصرَّفون بما ضُرُّه أكثر من نفعه.
 
وقد رسم لنا أمير المؤمنين عليه السلام طريقاً في التعامل مع الأحمق بعد بيان صفاته فقال: وَأَمَّا الْأَحْمَقُ فَإِنَّهُ لَا يُشِيرُ عَلَيْكَ بِخَيْرٍ، وَلَا يُرْجَى لِصَرْفِ السُّوءِ عَنْكَ وَلَوْ أَجْهَدَ نَفْسَهُ!
وَرُبَّمَا أَرَادَ مَنْفَعَتَكَ فَضَرَّكَ! فَمَوْتُهُ خَيْرٌ مِنْ حَيَاتِهِ! وَسُكُوتُهُ خَيْرٌ مِنْ نُطْقِهِ! وَبُعْدُهُ خَيْرٌ مِنْ قُرْبِه ‏‏(الكافي ج2 ص376).
فعلينا الحذر من هؤلاء الحمقى، والإبتعاد عنهم، وعدم الإستماع لهم لدفع ضررهم، مهما كانت نيتهم.
 
5. أن ما طلبه الراوي وهو (الخروج) مختصٌ بـ(صاحبكم)، وقد بَيَّنَ عليه السلام أنّه الإمام الحجة المنتظر عجل الله فرجه، فعدم القيام ليس من مختصات إمامنا الباقر عليه السلام، بل هو منهج الأئمة وشيعتهم عليهم السلام إلى أن يأتي أمر الله..
 
ولن يضر الإستعجالُ الدينَ شيئاً، بل سيهلك المستعجلون، وقد قال إمامنا الصادق عليه السلام:
إِنَّمَا هَلَكَ النَّاسُ مِنِ اسْتِعْجَالِهِمْ لِهَذَا الْأَمْرِ، إِنَّ الله لَا يَعْجَلُ لِعَجَلَةِ الْعِبَادِ، إِنَّ لِهَذَا الْأَمْرِ غَايَةً يَنْتَهِي إِلَيْهَا، فَلَوْ قَدْ بَلَغُوهَا لَمْ يَسْتَقْدِمُوا سَاعَةً وَلَمْ يَسْتَأْخِرُوا (الكافي ج1 ص369).
 
والخلاصة..
 
أنَّ تكليف الشيعيّ في زمن الغيبة هو معرفة إمامه وانتظارُه، دون التقدُّم عليه، ولا يضرُّهُ مع المعرفة شيءٌ بعد ذلك، فعن الصادق عليه السلام:
يَا فُضَيْلُ، اعْرِفْ إِمَامَكَ، فَإِنَّكَ إِذَا عَرَفْتَ إِمَامَكَ لَمْ يَضُرَّكَ تَقَدَّمَ هَذَا الْأَمْرُ أَوْ تَأَخَّرَ.
وَمَنْ عَرَفَ إِمَامَهُ ثُمَّ مَاتَ قَبْلَ أَنْ يَقُومَ صَاحِبُ هَذَا الْأَمْرِ، كَانَ بِمَنْزِلَةِ مَنْ كَانَ قَاعِداً فِي عَسْكَرِهِ، لَا بَلْ بِمَنْزِلَةِ مَنْ قَعَدَ تَحْتَ لِوَائِه‏ (الكافي ج1 ص371).
 
بُطلانُ الأعمال.. لولا الإنتظار!
 
قال تعالى في سورة الأنعام: ﴿يَوْمَ يَأْتي‏ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ في‏ إيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾ (الأنعام158).
 
وفُسِّرَت الآياتُ بالأئمة، والآية المنتظرة بالقائم عليه السلام (الإمامة والتبصرة ص102).
كما فُسِّرَت الآيات بالظهور وعلاماته، كما عن الباقر والصادق عليهما السلام: طلوع الشمس من المغرب، وخروج الدابة والدجال (تفسير العياشي ص384).
فذكرت الآيةُ الانتظار مرتين: الأولى: ﴿قُلِ انْتَظِرُوا﴾، والثانية: ﴿إِنَّا مُنْتَظِرُونَ﴾.
 
ولعلَّ كثيراً من الخلق لا يرون لهذا الكلام معنىً، فكم مِن مرَّةٍ استعجل الكفارُ والمنافقون أنبياءَهم لإنزال العذاب! قال تعالى: ﴿وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَلَنْ يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ‏﴾، وقال تعالى: ﴿أَفَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُون‏﴾.
 
وعبَّرَ القرآن عن الإنسان تارةً بقوله تعالى ﴿وَكانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً﴾، وتارةً أخرى بقوله ﴿خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُريكُمْ آياتي‏ فَلا تَسْتَعْجِلُون‏﴾.
فَنَهَت الآية الأخيرة عن الإستعجال، ووعدتهم بأن يروا آيات الله، بينما ذكرت الآية الأولى (بعض آيات ربك)، وقَرَنَهَا الإمام بالظهور المبارك.
 
فكان انتظار الظهور منهجاً قرآنياً واضحاً لا لبس فيه، وكان الفعل البشريُّ متعجِّلاً كعادته.. و(إنما يعجل من يخافُ الفوت‏)..
ويلاحظُ المتتبِّعُ أنَّ الرِّفقَ والتُؤَدَةَ كانت منهجاً لعليٍّ وبَنيه في أحلك الظروف، فها هو يوصي قادة عسكره بترك العجلة حتى في القتال، فيقول عليه السلام: عَلَيْكُمَا فِي حَرْبِكُمَا بِالتُّؤَدَةِ، وَإِيَّاكُمْ وَالْعَجَلَة (وقعة صفين 125).
 
وهو بذلك يتبع قول رسول الله صلى الله عليه وآله: إِنَّمَا أَهْلَكَ النَّاسَ الْعَجَلَة.
وقوله: الْأَنَاةُ مِنَ الله، وَالْعَجَلَةُ مِنَ الشَّيْطَان‏ (المحاسن ج1 ص215).
بل ورد عن الإمام الكاظم عليه السلام أنّ: الْعَجَلَةُ هِيَ الْخُرْق‏‏ (تحف العقول ص403).
 
وهكذا يتَّضِحُ أنّ الله سبحانه وتعالى وحَمَلَةَ رسالاته قد بَيَّنوا للشيعة في زمن الغيبة الطريق واضحاً جَلِيَّاً.. بِنَهيِهِم عن الإستعجال، والأمر بالسكون إلى أن يأذن الله لوليه، ولا يُعرَفُ ذلك إلا بعلاماتٍ حتميةٍ لا تخفى على الشيعة الأبرار.
 
وهذه السُنَّةُ هي سُنَّةُ الله تعالى في الآخِرين كما كانت في الأولين، فلم يكن منهج الأنبياء مختلفاً عن طريق الأولياء والشيعة الأبرار، وقد قال إمامنا الصادق عليه السلام: مَا أَحْسَنَ الصَّبْرَ وَانْتِظَارَ الْفَرَجِ!
أَ مَا سَمِعْتَ قَوْلَ الْعَبْدِ الصَّالِحِ: ﴿ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ﴾ ﴿فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ المُنْتَظِرِينَ﴾.
فَعَلَيْكُمْ بِالصَّبْرِ، فَإِنَّهُ إِنَّمَا يَجِي‏ءُ الْفَرَجُ عَلَى الْيَأْسِ، وَقَدْ كَانَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ أَصْبَرَ مِنْكُمْ (قرب الإسناد 380).
 
ثم قال عليه السلام:
وَأَنْتُمْ قَوْمٌ تُحِبُّونَّا بِقُلُوبِكُمْ وَيُخَالِفُ ذَلِكَ فِعْلُكُم‏: ههنا يكشفُ الإمام عن حقائق النفوس وخفاياها، وفِعَال الخلق ظاهرةً أو مستورة، فَكَم مِن شخصٍ يزعم أنه مُحّبٌّ ومطيعٌ يخالف فعلُهُ قولَه؟!
 
لقد أقر الإمامُ لهؤلاء أنهم محبون لهم بالقلب، لكنَّ فعلهم لم يوافق حبَّهم.. وما ذاك إلا من جهة التعجُّلِ والضعف عن الصبر.. حيث يقول عليه السلام بعد ذلك:
مَا لَكُمْ لَا تَمْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَصْبِرُونَ حَتَّى يَجِي‏ءَ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِالَّذِي تُرِيدُون‏؟
 
فإن (العجلة) التي اتصف بها (بعض) الشيعة نتجت عن قصورهم أو تقصيرهم في الصبر، وفقدان السيطرة على النَّفس، والعجز عن التحكم بها (مَا لَكُمْ لَا تَمْلِكُونَ أَنْفُسَكُمْ).
 
فهؤلاء يريدون الحق ويطلبونه ويرغبون به، وهو الذي سيأتي به الله تبارك وتعالى، ولكن، يقول الإمام:
إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ يَجِي‏ءُ عَلَى مَا يُرِيدُ النَّاسُ، إِنَّمَا هُوَ أَمْرُ الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى، وَقَضَاؤُهُ وَالصَّبْرُ، وَإِنَّمَا يَجْعَلُ مَنْ يَخَافُ الْفَوْتَ:
فليس أمرُ الله تابعاً لرغباتنا ومشيئاتنا وإراداتنا! ولا يحدِّدُ تسرُّعُنا وعجزُنا وقصورُنا وتقصيرُنا مشيئةَ الله عز وجل!
 
ولذا لم يخرج الشيعةُ عن قاعدة التمحيص والإبتلاء حتى في زمن الغيبة، فعن الباقر عليه السلام: وَكَذَلِكَ شِيعَتُنَا يُمَيَّزُونَ وَيُمَحَّصُونَ، حَتَّى تَبْقَى مِنْهُمْ عِصَابَةٌ لَا تَضُرُّهَا الْفِتْنَة (الغيبة 210).
 
وعنه عليه السلام: لَتُمَحَّصُنَّ يَا شِيعَةَ آلِ مُحَمَّدٍ تَمْحِيصَ الْكُحْلِ فِي الْعَيْنِ، وَإِنَّ صَاحِبَ الْعَيْنِ يَدْرِي مَتَى يَقَعَ الْكُحْلُ فِي عَيْنِهِ وَلَا يَعْلَمُ مَتَى يَخْرُج‏ مِنْهَا، وَكَذَلِكَ يُصْبِحُ الرَّجُلُ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا وَيُمْسِي وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا! وَيُمْسِي عَلَى شَرِيعَةٍ مِنْ أَمْرِنَا وَيُصْبِحُ وَقَدْ خَرَجَ مِنْهَا! (الغيبة 206).
 
وليس الابتلاء شكلياً هنا أو صُوَرِياً، فإنّ من آثاره أن يخرج عن حقيقة التشيُّع من كان شيعياً!
إنّها فتنةٌ عظيمةٌ تدعُ الحليمَ حيراناً.. وهي التي سبق وأن قال عنها أمير المؤمنين عليه السلام: يَا مَالِكَ بْنَ ضَمْرَةَ، كَيْفَ أَنْتَ إِذَا اخْتَلَفَتِ الشِّيعَةُ هَكَذَا، وَشَبَّكَ أَصَابِعَه‏ (الغيبة 206).
 
وعن سيد الشهداء عليه السلام: لَا يَكُونُ الْأَمْرُ الَّذِي تَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَبْرَأَ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، وَيَتْفُلُ بَعْضُكُمْ فِي وُجُوهِ بَعْضٍ، وَيَشْهَدَ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ بِالْكُفْرِ! وَيَلْعَنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً! (الغيبة 206).
 
وهل هناك سببٌ يا ترى يبرِّر مثل هذا التوصيف سوى (الإستعجال) وضعف السيطرة على النفس؟ سواءٌ كان ذلك بدافع الحبّ والإيمان، أم بدافع المكر والخداع!
 
إنها حالةٌ رهيبةٌ تعتري الشيعة في تلك الظروف، يُكَفِّرُ بعضهم بعضاً، ذلك أنّ منهم من لا يتحمل الصبر إلى أن تأتي دولة الحق، وفي الحديث عن أبي عبد الله عليه السلام: إِنَّ لِلْحَقِّ دَوْلَةً وَلِلْبَاطِلِ دَوْلَةً، وَكُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فِي دَوْلَةِ صَاحِبِهِ ذَلِيل‏ (الكافي ج2 ص447).
 
مثل هذه (الذلّة) الظاهرية قد لا يرتضيها الإنسان المؤمن وهو الذي أعزه الله تعالى بالإيمان، فيَعظُمُ عليه أن يكون ذليلاً في دولة الباطل، ويكون أمام خيارين:
 
1. الصبر والتحمُّل وانتظار الفرج.
 
2. استعجال دولة الحق، ومحاولةُ بَعثِهَا قبل أوانها بيديه الخاليتين عن التسديد الرباني، ذلك أنّه مذخورٌ للإمام المنتظر.
 
عن أمير المؤمنين عليه السلام: كُونُوا كَالنَّحْلِ فِي الطَّيْرِ، لَيْسَ شَيْ‏ءٌ مِنَ الطَّيْرِ إِلَّا وَهُوَ يَسْتَضْعِفُهَا (الغيبة ص209).
وبعدما بيّن الإمام الصادق عليه السلام ما لا يقبل الله العمل إلا به، وَعَدَّ (الانتظار للقائم عليه السلام) رُكناً منه، قال عليه السلام:
 
إِنَّ لَنَا دَوْلَةً يَجِي‏ءُ الله بِهَا إِذَا شَاءَ.
ثُمَّ قَالَ: مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ الْقَائِمِ فَلْيَنْتَظِرْ، وَلْيَعْمَلْ بِالْوَرَعِ وَمَحَاسِنِ الْأَخْلَاقِ وَهُوَ مُنْتَظِرٌ، فَإِنْ مَاتَ وَقَامَ الْقَائِمُ بَعْدَهُ كَانَ لَهُ مِنَ الْأَجْرِ مِثْلُ أَجْرِ مَنْ أَدْرَكَهُ، فَجِدُّوا وَانْتَظِرُوا، هَنِيئاً لَكُمْ أَيَّتُهَا الْعِصَابَةُ المَرْحُومَةُ (فضائل أمير المؤمنين ص147).
 
فلا يمنع الصبرُ من العمل بما أمر الله أيها الأحبة، بل يقترن بالعمل والجدّ..
وليس الصبر والإنتظار ضعفاً ولا عجزاً.. إنما يمثِّلُ قمّة القوّة والعنفوان..
 
نقول في زيارة أمير المؤمنين عليه السلام:
أَنْتَ أَوَّلُ مَظْلُومٍ، وَأَوَّلُ مَغْصُوبٍ حَقُّهُ، فَصَبَرْتَ وَاحْتَسَبْت‏ ‏ (الكافي ج4 ص570).
 
ولقد تكرَّر ذكرُ الصَّبر على لسانه في نهج البلاغة حين قال: فَصَبَرْتُ وَفِي الْعَيْنِ قَذًى، وَفِي الْحَلْقِ شَجًا..
وقال: فَصَبَرْتُ عَلَى طُولِ المُدَّةِ، وَشِدَّةِ الْمِحْنَة (ص48 و49).
 
وسئل سيد الشهداء عليه السلام: يَا ابْنَ النَّبِيِّ مَا الَّذِي أَخْرَجَكَ مِنَ المَدِينَةِ؟
فَقَالَ: وَيْحَكَ يَا أَبَا هَرِمٍ، شَتَمُوا عِرْضِي فَصَبَرْتُ، وَطَلَبُوا مَالِي فَصَبَرْتُ، وَطَلَبُوا دَمِي فَهَرَبْتُ، وَايْمُ الله لَيَقْتُلُنِي ثُمَّ لَيَلْبَسَنَّهُمُ الله ذُلًّا شَامِلا! (أمالي الصدوق ص153).
 
فَمَن مِثلك يا علي!
 
ومن يقدر على مثل صبرك!
 
اليوم يُعابُ على أتباعك أنهم أطاعوك حيث (سكنوا) و(لبدوا) و(لزموا بيوتهم والأرض) و(لم يثيروا الغبرة) و(لم يحرِّكُوا يداً ولا رجلاً) لأنهم ينتظرون القائم من آل محمد عليه السلام!
 
اليوم ينتقصُ العاجزون عن الصبر من قَدر أتباعك لمّا صبروا وتحمَّلوا!
اليوم كالأمس.. حين فعلوا ذلك معك ومع أبنائك المعصومين!
 
ندعو لأخوتنا بالهداية، ونعلم أنّ الظهور لن يكون قبل أن يتفل بعضنا في وجوه بعض! ويأتي الخير بعد ذلك على يدي الصاحب من ذريتك..
 
نسعى لهدايتهم، ولكن نؤمن بقوله تعالى: ﴿إِنَّكَ لا تَهْدي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلكِنَّ الله يَهْدي مَنْ يَشاءُ﴾..
 
اللهم إنا نسألك الفرج بعد الشدة..
والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/03/11



كتابة تعليق لموضوع : الشِّيعة والإستعجال!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net