جحا والامراض النفسية..
الشيخ مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ مصطفى مصري العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
يحكى أن جحا الذي غدا مضربا للامثال والتندر لحقت به مجموعة من الاطفال .
وبما أن لجحا خصوصية في حياته يختلف فيها عن الناس العاديين، سواء كان ذلك في لبسه أو كلامه أو حتى منطقه وعلاقاته، بل وحتى نمط تفكيره وسلوكه، فقد غدا معلما يتراكض حوله الصبيان وهم يستشعرون فيه خصائص تحكي أوضاعهم، فهم أطفال يتمايزون عن الكبار بأنهم يلهون كما يريدون ، ولا يتقيدون بما ترسمه النظم الاجتماعية التي تقيد عمل الكبار وسلوكهم بما ينسجم مع مكانتهم، فيرون في جحا نموذجا كبيرا في جسده، ويرونه شبيها لهم في سلوكه، فهو حالة جديرة باهتمام الاطفال ولفت انتباههم أكثر من أي شخص آخر..
ويجد جحا في علاقته مع الاطفال شيئا مما يشبع فضوله ويغطي شيئا من حالة النقص التي يستشعرها في علاقاته الاجتماعية، إذ يتعامل معه الكبار بما يرونه نقصا في مستواه الفكري لا يعوضه عنه كبر جسده، فالميزان الذي يرتبط بتقييم البشر عقلهم لا جسدهم..
الم يرد في الحديث عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الباقر عليه السلام أنه: لَمَّا خَلَقَ اللَّهُ الْعَقْلَ قَالَ لَهُ أَقْبِلْ فَأَقْبَلَ ثُمَّ قَالَ لَهُ أَدْبِرْ فَأَدْبَرَ فَقَالَ وَ عِزَّتِي وَ جَلَالِي مَا خَلَقْتُ خَلْقاً أَحْسَنَ مِنْكَ إِيَّاكَ آمُرُ وَ إِيَّاكَ أَنْهَى وَ إِيَّاكَ أُثِيبُ وَ إِيَّاكَ أُعَاقِبُ.
فلم يكن يشفع لجحا بين الكبار طول قامته ولا لحيته السوداء فهو عندهم لا يملك اكثر من عقل طفل حتى ولو كان أبا ويحتل موقعا اجتماعيا أو سياسيا بل وحتى دينيا..
لذا تراه يستشعر شيئا من نقص يتلمسه مع الكبار بسلوك يحاول أن يطبقه مع الصغار.
والاطفال في علاقتهم مع جحا ينطلقون بفطرتهم ليثبتوا ذاتهم أمام كبار يؤدون دورهم فلا يجدون سوى جحا الذي يتعاملون معه وفق طفولته الفكرية المتقاربة معهم رغم جسده الذي ينقل صورة الكبار امامهم.
عندما لحق الاطفال بجحا وتكاثروا عليه ولم يعد بإمكانه اثبات ذاته أمامهم انقدحت في خاطره فكرة خيالية كي يتخلص من الاطفال فقال لهم..
اذهبوا الى بيت فلان فإن فيه عرسا..
وبما أن العرس له موقع خاص في النفوس عند الكبار وعند الصغار فهو المدخل عند الكبار لتلبية الرغبات الجسدية والنفسية، وهو المدخل لبناء الاسرة بل ولاستمرار الجنس البشري ، وهو الحلم لدى كل مراهق ليثبت من خلاله كيانه الذي يودع فيه عالم الطفولة ويدخل من خلاله عالم المسؤولية، وتعتبره كل مراهقة ساعة الحلم الكبير بأن تكون عروسا تتجه نحوها الانظار وتدخل من خلاله عالم الامومة الذي يدغدغ مشاعر كل أنثى.
وأما عند الصغار فهو ساعة فرح ولعب ولهو لا تتكرر كل يوم فيتحدق فيها الاطفال حول العروس يصفقون ويسمعون الزغاريد ويتسابقون لأخذ المزيد من حلوى العرس وهداياه..
لقد أرشد جحا الاطفال الى مكان يفوق أهمية جحا عندهم بكثير ، فتراكض الاطفال بعيدا عن جحا نحو المكان الذي أرشدهم اليه.
ذهبوا بعيدا عن جحا وكل منهم يحلم بصورة في ذهنه عن العرس المنشود علّه يحصل على ما يرغب.
في اللحظات الاولى استشعر جحا انه حقق انتصارا على الاطفال الذين لا يقدرون طول قامته، وهم يتعاملون معه كما يتعاملون مع طفل صغير بل وأكثر..
ولكن هذا الشعور لم يدم طويلا إذ سرعان ما ظهر مستوى جحا الفكري على حقيقته وحادث نفسه قائلا..
لقد ذهب الاولاد الى العرس وسيحصلون على الحلوى ويمرحون في ذاك الجو البهيج، أما أنا فقد بقيت وحيدا ولن أحصل على شيء من الحلوى..
ليس أمامي إلا أن ألحق بالأطفال لأنال نصيبي من حلوى العرس.
لقد صدق جحا كذبته وراح مهرولا ناحية الاطفال، نحو العرس الموهوم الذي أوجده بخياله ليبعد عنه الاطفال .
فهل سيكتشف جحا الحقيقة من أنه لا يوجد عرس، أم سيبقى مصدقا لنفسه من أن هناك عرسا في بيت فلان!..
وأنه مهما فعل ليظهر بمظهر الكبير العاقل الواعي فسيبقى في سلوكه يثبت أنه لم يخرج من دائرة كونه جحا..
وكيف لنا أن نُفهم جحا الذي يحاول جاهدا أن يقنع آخرين بالذهاب معه لحضور العرس بأن ما يسعى اليه هو وهم من صنع خياله..
لئن صدقه الاطفال في كذبته مرة، فهل سيصدقونه مرة ثانية؟
وما بالك بالكبار؟
ان انموذج جحا الذي نعيشه واقعا في حياتنا اليومية مع عدد ليس باليسير ممن نلتقيهم.. لهو انموذج جدير بالتأمل والانتباه..
لقد تحدثت في عدد من الحلقات التلفزيونية عبر قناة المعارف الفضائية في برنامج هبة السماء - والذي لا يزال يبث اربع مرات اسبوعيا منذ ثلاثة اشهر - عن تأثير الامراض النفسية المتعددة على شخصية الجنين وبالتالي على الطفل وكان هناك رقم مخيف عن نسبة المصابين بأمراض نفسية في المجتمع بشكل عام وهي نسبة واحد بالمائة وهذه النسبة كبيرة في المجتمعات العادية فكيف ببعض المجتمعات التي تزداد فيها هذه النسبة بسبب الاوضاع السياسية او الاجتماعية او الامنية او الاقتصادية التي يعانون منها، وبالتالي فإن زيادة هذه النسبة تكون امرا طبيعيا في مثل هذه المجتمعات، وهذا يعني مضاعفة معاناة المجتمع من أمثال هؤلاء المصابين بأمراض انفصام الشخصية، ومن العقد النفسية المختلفة وهم بالتالي في مواقع قيادية او توجيهية في المجتمع..
قد تجد البعض منهم ممن ينظر اليهم المجتمع بنظرة خاصة، ويتعامل معهم معاملة مميزة لما لهم من رمزية ومكانة بين الناس..
وتكون الطامة كبيرة بما تسببه من صدمات للآخرين عندما يتلمس منهم المعجبون تلك السلوكيات المرضية وخاصة عندما يكون أحدهم في موقع المعالج..
فكم ستكون المعاناة أليمة عندما تتلمس السرقة من شرطي أوكل اليه مهمة حفظ أمن المجتمع..
وكم ستكون الصدمة من شخص تتلمس منه العهر وهو ينظِّر للعفة..
وكم سيكون الاثر سلبيا عندما تسلم قيادك لمن تتلمس منه بعد ذلك الخيانة.
كم هي الحسرة عند من يجلس على كرسي الاعتراف ويكتشف أنه كان يحادث مثيل بيلاطس..
سيقول حينئذ ما أعقلك يا جحا..
قال لي أحدهم يوما.. أريد منك مساعدة.. وكلنا في الهدف سواء..
قال آخرون .. حذار فجحا يبقى جحا ..
أجبتهم .. لا ضير فإما أن يتأهل جحا ليصير شابا..
أو أنني أشعره بأنه لا يزال جحا..
وكم من جحا بيننا في كل المواقع!!
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat