صفحة الكاتب : د . فاضل حسن شريف

الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 4)
د . فاضل حسن شريف

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تكملة للحلقات السابقة قال الله تعالى عن كلمة الأبصار في آيات قرآنية "وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هَـٰذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ" ﴿الأنبياء 97﴾ شاخصة أبصار: مُرتفعة لا تكاد تطرف أبصار، فإذا فُتِح سد يأجوج ومأجوج، وانطلقوا من مرتفعات الأرض وانتشروا في جنباتها مسرعين، دنا يوم القيامة وبدَتْ أهواله فإذا أبصار الكفار مِن شدة الفزع مفتوحة لا تكاد تَطْرِف، يدعون على أنفسهم بالويل في حسرة: يا ويلنا قد كنا لاهين غافلين عن هذا اليوم وعن الإعداد له، وكنا بذلك ظالمين، و "يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ ۖ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُم مَّشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا ۚ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ" ﴿البقرة 20﴾ أبصارهم: أبصار اسم، هم ضمير، يخطف أبصارهم: يستلِبُها أو يذهب بها بسرعة، يقارب البرق -من شدة لمعانه أن يسلب أبصارهم، ومع ذلك فكلَّما أضاء لهم مشَوْا في ضوئه، وإذا ذهب أظلم الطريق عليهم فيقفون في أماكنهم. ولولا إمهال الله لهم لسلب سمعهم وأبصارهم، وهو قادر على ذلك في كل وقتٍ، إنه على كل شيء قدير، و "قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَـٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ ۗ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ" ﴿الأنعام 46﴾ وأبصاركم: الواو حرف عطف، أبصار اسم، كم ضمير، قل أيها الرسول لهؤلاء المشركين: أخبروني إن أذهب الله سمعكم فأصمَّكم، وذهب بأبصاركم فأعماكم، وطبع على قلوبكم فأصبحتم لا تفقهون قولا أيُّ إله غير الله جل وعلا يقدر على ردِّ ذلك لكم؟ انظر أيها الرسول كيف ننوِّع لهم الحجج، ثم هم بعد ذلك يعرضون عن التذكر والاعتبار، و "لَّا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ ۖ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ" ﴿الأنعام 103﴾ لا تدركه الابصار: لا تراه في الدنيا و لا تحيط به في الآخرة، و "وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ" ﴿الأنعام 110﴾ ونقلب أفئدتهم وأبصارهم، فنحول بينها وبين الانتفاع بآيات الله، فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بآيات القرآن عند نزولها أول مرة، ونتركهم في تمرُّدهم على الله متحيِّرين، لا يهتدون إلى الحق والصواب، و "وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ" ﴿الأعراف 47﴾ صرفت أبصارهم: نظروا إلى أهل النار، وإذا حُوِّلَتْ أبصار رجال الأعراف جهة أهل النار قالوا: ربنا لا تُصيِّرنا مع القوم الظالمين بشركهم وكفرهم، و "قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا ۖ فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَىٰ كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُم مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ ۚ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَاءُ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الْأَبْصَارِ" ﴿آل عمران 13﴾ قد كان لكم أيها المتكبرون المعاندون دلالة عظيمة في جماعتين تقابلتا في معركة بَدْر، جماعة تقاتل من أجل دين الله، وهم محمد صلى الله عليه وآله وسلم، وجماعة أخرى كافرة بالله، تقاتل من أجل الباطل، ترى المؤمنين في العدد مثليهم رأي العين، وقد جعل الله ذلك سببًا لنصر المسلمين عليهم، والله يؤيِّد بنصره من يشاء من عباده، إن في هذا الذي حدث لَعِظة عظيمة لأصحاب البصائر الذين يهتدون إلى حكم الله وأفعاله.
جاء في الامثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: تضيف الآيات نقلا عن أهل جهنّم: "أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ" (ص 63). نعم، إنّنا كنّا نسخر من هؤلاء الرجال العظماء ذوي المقام الرفيع، و نصفهم بالأشرار، و أحيانا نصفهم بأوصاف أدنى من ذلك، و نعتبرهم أناسا حقراء لا يستحقّون أن ننظر إليهم، و لكن اتّضح لنا الآن أنّ جهلنا و غرورنا و أهواءنا هي التي أسدلت على أعيننا ستائر حجبت الحقيقة عنّا، فهؤلاء كانوا من المقربين للّه و مكانهم الآن في الجنّة. مجموعة من المفسّرين ذكروا تفسيرا آخر لهذه الآية، إذ قالوا: إنّ مسألة سخريتهم إشارة إلى أحوالهم في عالم الدنيا، و جملة أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ إشارة إلى أحوالهم في جهنّم، و تعني هنا أنّ أبصارنا في هذا المكان و بين هذه النيران و الدخان لا يمكنها رؤيتهم. و لكن المعنى الأوّل أصحّ. و من الضروري الالتفات إلى أنّ أحد أسباب عدم إدراك الحقائق هو عدم أخذها بطابع الجدّ إضافة إلى الاستهزاء بها، إذ يجب على الدوام مناقشة الحقائق بشكل جدّي للوصول إليها. ثمّ تخرج الآية الأخيرة بالنتيجة التي تمخّض عنها الجدال بين أهل جهنّم، و تؤكّد على ما مضى بالقول: "إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ" (ص 64). فأهل جهنّم مبتلون في هذه الدنيا بالخصام و النزاع و الحروب. فالنزاع و الجدال يتحكّم بهم، و في كلّ يوم يتخاصمون مع هذا و ذاك. و في يوم القيامة، ذلك اليوم الذي تبرز فيه الأسرار و ما تخفيه الصدور، تراهم يتنازعون فيما بينهم في جهنّم، فأصدقاء الأمس أعداء اليوم، و التابعون في الأمس صاروا معارضين اليوم، و يبقى فقط خطّ التوحيد و الإيمان، خطّ الوحدة و الصفاء في هذا العالم و ذاك. الجدير بالذكر أنّ أهل الجنّة متكئون على الأسرّة، و يتحدّثون فيما بينهم بكلام ملؤه المحبّة و الصدق، كما ورد في آيات مختلفة من آيات القرآن الحكيم، بينما تجد أهل النار يعيشون حالة من الصراع و الجدال، إذن فتلك نعمة كبيرة، و هذا عذاب أليم.
جاء في معاني القرآن الكريم: بَصير: اسم، الجمع: بصيرون و بُصَراءُ، المؤنث: بَصيرة، و الجمع للمؤنث: بَصائرُ و بِصَار، وأبو بَصير: كُنيةُ أَعْشَى قيس، صفة مشبَّهة تدلّ على الثبوت من بصُرَ بصُرَ بـ وبصِرَ بصِرَ بـ بصِرَ في، مُبصِر، يرى بعينه، بصير بالعواقب: الذي يأخذ الاحتياطات متداركًا لما يحدث، البصير: اسم من أسماء الله الحسنى، ومعناه: المبصِر، العالم بخفيَّات الأمور، رَجُلٌ بَصيرٌ: ثاقِبُ النَّظَرِ سبأ آية 11 "إِنِّي بِما تَعْمَلونَ بَصيرٌ"، عَبْدُ البَصير: اِسْمُ عَلَمٍ مُرَكَّبٌ، بَصير: فاعل من بَصُرَ.
جاء في الميزان في تفسير القرآن للعلامة الطباطبائي: قوله تعالى "وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ" (القصص 43) إلخ اللام للقسم أي أقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة بوحيه إليه. وقوله "مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى" (القصص 43) أي الأجيال السابقة على نزول التوراة كقوم نوح ومن بعدهم من الأمم الهالكة ولعل منهم قوم فرعون ، وفي هذا التقييد إشارة إلى مسيس الحاجة حينئذ إلى نزول الكتاب لاندراس معالم الدين الإلهي بمضي الماضين وليشار في الكتاب الإلهي إلى قصصهم وحلول العذاب الإلهي بهم بسبب تكذيبهم لآيات الله ليعتبر به المعتبرون ويتذكر به المتذكرون. وقوله "بَصائِرَ لِلنَّاسِ" جمع بصيرة بمعنى ما يبصره به وكان المراد بها الحجج البينة التي يبصر بها الحق ويميز بها بينه وبين الباطل ، وهي حال من الكتاب وقيل: مفعول له. وقوله "وَهُدىً" بمعنى الهادي أو ما يهتدى به وكذا قوله "وَرَحْمَةً" بمعنى ما يرحم به وهما حالان من الكتاب كبصائر، وقيل: كل منهما مفعول له. والمعنى: وأقسم لقد أعطينا موسى الكتاب وهو التوراة من بعد ما أهلكنا الأجيال الأولى فاقتضت الحكمة تجديد الدعوة والإنذار حال كون الكتاب حججا بينة يبصر بها الناس المعارف الحقة وهدى يهتدون به إليها ورحمة يرحمون بسبب العمل بشرائعه وأحكامه لعلهم يتذكرون فيفقهون ما يجب عليهم من الاعتقاد والعمل.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . فاضل حسن شريف
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/12/12



كتابة تعليق لموضوع : الإبصار و البصائر في القرآن الكريم (ح 4)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net