صفحة الكاتب : عبير المنظور

الطنطل، اسطورة غذّتها المصالح
عبير المنظور

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لقرون عديدة خلت والطفولة البريئة عاشت ليالٍ استطالت ساعاتها خوفا من (الطنطل) ذلك المخلوق الخارق الذي يفترسهم حال قيامهم من فراش النوم ، فيبيتون وهم يرتجفون رعبا ويتخيلون شكل ذلك الطنطل المرعب وصوته المخيف فليتصقون بفراشهم حتى الصباح، ويتكرر هذا الكابوس الليلي الذي يعيشون لحظاته قبل نومهم بشكل يومي .

وفي النهار  ايضا لا ينفك الاهل من تخويفهم بالطنطل لانهم يعكسون مخاوفهم اساسا على اطفالهم.

فما هو الطنطل الذي ارعب منطقة جنوب العراق والكويت وايران ولا زال يخيف البعض منهم حتى يومنا هذا؟

وسنقتصر في حديثنا على حكايا اسطورة الطنطل في مناطق العراق

عُرِف َ الطنطل كأحد الاساطير البارزة في الميثيولوجيا العراقية القديمة ولا زال حاضرا وبقوة في بعض المجتمعات العراقية التي تؤمن بوجوده حتى الان، وهو بزعمهم كائن مخيف له القدرة على تغيير شكله باستمرار (١) على هيئة أنسان او حيوان او حتى جماد!، ويعيش غالبا في منطقة الاهوار ليحرس الكنوز المدفونة فيها ويفترس كل من يراه!، الا من  قدم له خبزا من طحين الرز خاليا من الملح لانه يكره الملح!!!!

ولمعرفة صحة تلك الاقاويل اعلاه علينا ان نعرف اولا اصل الطنطل ، فقد اختلفت الاراء حول ذلك،  فرأي ذهب الى ان اسطورة الطنطل مأخوذة من الاسطورة السومرية (احفيظ)، واحفيظ هي احدى الممالك الثلاث الكبيرة للاخوة الثلاثة والتي سميت على اسمائهم العكر وابو شذر واخيهما احفيظ ، كانت هذه المدن انذاك مزدهرة عمرانيا وزراعيا حتى تجبروا وكفروا وخرجوا عن طاعة (الاله) فغضب عليهم وقلبهم بالزلزال واغرقهم بالطوفان فتكونت الاشن او ما يسمى حاليا ب (الاهوار) على بقايا تلك المدن وانزل الجن والطنطل لحراستها، واشدها خطرا  فتكا هو طنطل (احفيظ) الذي لا يزال يحتفظ باسمه المرعب حتى اليوم، ومن الجدير بالذكر ان العراقيين سموا كل طنطل على اسم الاهوار والاشن والكواهين التي يسكنها مثل طنطل أبو اغريب، طنطل أم العبيد، طنطل أبو اسميج، طنطل داور، طنطل صلين، كما يشرف احفيظ على عشرات الطناطل في الأهوار الخاضعة لسيطرته.

ويرى بعض الباحثين ان الطنطل ماخوذ عن الاسطورة الاغريقية (تانتالوس)، اسطورة العذاب الابدي، وتانتالوس الذي غضبت عليه الالهة -في قصة مفصلة ومعروفة في الميثيولوجيا الاغريقية- فحكمت عليه الالهة ببقائه واقفا في بركة ماء قرب شجرة فاكهة ان اراد ان يشرب انحسر عنه الماء وان اراد ان يأكل الفاكهة ارتفعت عنه.

واعتقد ان لا علاقة بين اسطورة الطنطل واسطورة تانتالوس سوى انه يعيش في الماء، كما يجدر الاشارة ان الطنطل في معتقدات وتراث العراقيين لا يقتصر على العيش في مياه الاهوار بل يوجد هناك طناطل في مناطق اليابسة الا ان الفكرة السائدة عن طنطل الاهوار انه اكثر خطورة واشد فتكا من طناطل المناطق اليابسة.

ويرى اخرون ان الطنطل كائن وجد لحراسة كنوز المدن السومرية الغارقة في الاهوار وهو بذلك يماثل فكرة الرصد الفرعوني الذي يؤمن به الشعب المصري رغم تفنيد علماء المصريات والاثار لفكرة الرصد ولعنة الفراعنة.
وقد لا يهمنا مصدر اسطورة الطنطل بقدر اهتمامنا بالاثار المترتبة على الاعتقاد بها رغم التطور الفكري والثقافي الذي ارتقى بالعقول اكثر فاكثر، واصبح الطنطل اسطورة عفا عليها الزمن ولا يعدو كونه اداة لتخويف الاطفال قبل النوم  وبطلا لحكايا مرعبة تتردد في حكايات اجدادنا وجداتنا وموروثاتنا الشعبية، ولعل الانتشار الكبير لاسطورة الطنطل على المستوى الشعبي جعلت البعض يستغل خوف الناس من الطنطل والحكايات المرعبة عنه في تحقيق مصالحه ومآربه الخاصة ، ولعل ابرزهم السلطانة ساتي او ما تعرف ب (ساتي بيك)، وهي اميرة مغولية من احفاد هولاكو حكمت العراق وايران -وهي من النساء القلائل اللواتي وصلن الى سدة الحكم كما سُكَّتْ النقود باسمها-، وفي فترة حكمها لبغداد استغلت الموروث الشعبي العراقي المتمثل في اسطورة الطنطل ورعب العامة منه للسيطرة عليها دون قلاقل ، فاشاعت ان الطناطل تنتشر في الليل وطلبت من الاهالي ملازمة بيوتهم وعدم الخروج ليلا، وفعلا لازمت الاهالي البيوت منذ مغيب الشمس خوفا من الطنطل ، واخذت الامهات تخوف ابنائها من الطنطل ليناموا باكرا، حتى ملّ بعض الرجال وخرجوا للشوارع ليلا فلم يجدوا الطنطل واخبروا الناس ان لا وجود للطناطل المزعومة وان الحياة طبيعية في بغداد ليلا ، ومضت فترة من الزمن والناس تمارس حياتها بشكل طبيعي ليلا، وهذا الحال لم يعجب السلطانة ساتي بالطبع، فاشاعت بمساعدة شرطتها ان الطنطل عاد مرة اخرى ولكن ليس بالهيئة البشرية وانما اتخذ اشكالا مختلفة من الحيوانات كالقطط والكلاب السوداء وعليهم ملازمة البيوت ليلا ، وخاف معظم الاهالي مجددا من الطنطل وعادوا الى ملازمة بيوتهم لفترة طويلة ، ولكن هذا الحال لم يعجب احد شقاوات بغداد،  فخرج ليلا ليواجه الطنطل وليقضي على كل القطط والكلاب السوداء ويخلص الناس من شر الطنطل الذي يتخذ
شكلها ، ولهذا اطلق عليه لقب (ابو سودة) ، وكانت بعض المحلات البغدادية من صوب الكرخ والرصافة تستنجد به ليخلصها من الطنطل المتمثل بالقطط والكلاب السوداء مع زفة شعبية وولائم وجلسات حافلة له ، ولذلك كان استقبال ابو سودة من البغداديين كاستقبال بطل قومي خلصهم من رعب دائم اسمه الطنطل، حتى استقرت الاحوال نسبيا في بغداد ، وبطبيعة الحال هذا الاستقرار لم يرق للسلطانة ساتي وشرطتها فدبرت له مكيدة للتخلص منه، ارسلت له عناصر من شرطتها يبلغوه ان يأتي للسلطانة لتشكره وتجزيه خيرا على بطولاته في حفظ امن بغداد من خطر الطنطل، وفي الطريق تكاثر عليه افراد الشرطة في احد الازقة الضيقة وقطعوه اربا اربا ورموا جثته بالقرب من نهر دجلة واشاعوا ان كبير  الطناطل الذي ظهرله بهيئة كلب اسود ضخم جدا انتقم من ابي سودة لشجاعته في قتل الطناطل  فقطع حنجرته وكبده وامعائه بعد معركة عنيفة تجلت فيها بسالة ابي سودة واستقتاله للحفاظ على امن بغداد من الطنطل!!، فبكت بغداد بطلها كثيرا وظلت تروي عنه حكايات وبطولات عديدة لا زال بعضها يتردد في حكايا اجدادنا وجداتنا حتى اليوم.

 كما ان هناك فئة اخرى ممن وظفوا اسطورة الطنطل لمصالحهم وهم الباحثون عن الكنوز المدفونة في منطقة الاهوار كخطة لابعاد الاخرين عن فكرة التنقيب عن تلك الكنوز اساسا بسبب خوفهم من الطنطل الموكل بحراستها.

وفي جميع الاحوال لا صحة لهذه المعتقدات اساسا ، "يقال ان هذه الطناطل، التي تدور حولها القصص التي تروى حول مواقد الليل ، تحرس كنزا ملغزا مدفونا في جزيرة ما يخفونه عن عيون الناس بفعل نوع من السحر.

اعتاد رجال العشائر المحليون القول بوجود ذهب مدفون في المنطقة ، لكن لم يتم العثور حسب علمي على اية قطعة ذهبية"(٢).

نعم قد يوجد بعض القطع الاثرية المهمة ولكن لا وجود للكنوز الثمينة من ذهب واحجار كريمة وما شاكل ذلك، يقول كافن يونغ في كتابه (العودة الى الاهوار): "في احدى المرات عرض احدهم على ثسيغر ختما قديما وقطعة من الرصاص موشاة بحفر تمثل رموزا فينيقية. كما قام القنصل البريطاني في البصرة جون جورج تايلور في العام ١٨٥٣ باستكشاف اجزاء من "البحيرة الكلدانية" (كما كان يسمي الاهوار) وعثر هو الاخر على قطع رصاصية في جرار مدفونة في قبر عليها ادعية وابتهالات ، يقول الخبراء الان ان هذه الحفريات تعود للقرن السادس وهي مكتوبة بلغة الصابئة المندائية"(٣).

وبلحاظ ما تقدم نخلص الى ان الطنطل لا يعدو كونه كائنا خرافيا اسطوريا تعاقبت الاجيال على ترديد حكاياته اما جهلا او تحقيقا لمآرب معينة، خاصة اذا ما علمنا ان مملكة ابي شذر لم تغرق كما هو شائع في الاسطورة السومرية ولا زالت موجودة وحاضرة  ومأهولة بالسكان، ذكر ذلك كافن يونغ في كتابه قائلا: "هناك العديد من هذه الروابي المختبئة في الاهوار  احدها المسمى ايشان(٤) ابي شذر، ازوره كثيرا ، يقع في الأهوار الوسطى، يبلغ طوله ٣٠٠ قدماً وعرضه ٢٠٠ قدماً وارتفاعه حوالي ١٠ أقدام اعلى من معدل منسوب المياه ، تسكنه اليوم عشيرة بيت نصر الله مع جواميسهم وبعض الماشية ، وتدور حوله قصص مروعة"(٥).
ومن هذه القصص المروعة ما شهدها كافن يونغ شخصيا وذكرها في كتابه ايضا: "ذهبنا للتجول عبر ذلك النتوء الارضي الغريب لا توجد هناك اشياء كثيرة للمشاهدة ، عدد كبير من الجواميس يلوك العلف في وسط ابي شذر ولم يكن ذلك منظرا غريبا، ثم فجأة حدث شيء مذهل، تدافعت الجواميس بخفة غير عادية وهي تخور هائجة ، خفضت قرونها باتجاهنا كأنها ثيران المبارزة ،واخذت تنبش التراب بأظلافها وهي ليست هائجة فحسب بل، وبعدوانية جلية ، تستعد للهجوم.

-"دير بالك".

صرخ جبار ، اصغر وانشط رفقتي ، وتناول مباشرة حجرا كبيرا وقطعة خشب كانت ملقاة جانبا ، فعل الاخرون الشيء نفسه وتراكضوا الى الامام برشاقة وهم يقذفون الحجرويصرخون كالمسعورين ، تراجعت الجواميس عن الهجوم المباغت الى الطرف الاخر من الجزيرة وهي تشخر بغضب وتنفخ مماخرها بعصبية ، وتبدو عليها علامات القهر ، كان شيئا لافتا للنظر  .

- "وما الذي جعلها تفعل هذا ؟" سألت.

لكن لا احد كان بمقدوره الاجابة .

-"لو حدث هذا قبل سنوات لقلنا انها الطناطل"، الاشباح والارواح الشريرة التي يعتقد اباؤنا واجدادنا انها تعيش في هذه الجزر " قال فرحان ضاحكا ، وهو احد الشباب في المركب"(٦)، نلاحظ من هذه القصة ان سكان الاهوار انفسهم لم يعودوا يؤمنوا بوجود الطنطل.

وكذلك نخلص ان الخرافات والاساطير ما كانت لتستمر قرونا من الزمن لولا تكرارها في حياتنا اليومية كفكرة وسلوك واحساس وتثبيتها في العقل الباطن لتبدو لنا كحقيقة راسخة لا يمكن انكارها وان اشارت جميع الدلائل الى انكارها، هل تعلمون ان من اهم تمرينات برمجة العقل الباطن واستثمار قوته والسيطرة على اللا وعي هي فترة قبل النوم -ولو عشر دقائق- والاستيقاظ من النوم، فالتأمل قبل النوم والانقطاع التام عن كل ما يحيط بك من افكار ومشاكل والتحرر من اي افكار وطاقة سلبية ستتخزن في اللاوعي وستظهر

في بداية الاستيقاظ من النوم لان العقل الباطن بكامل نشاطه وسيقوم بتخزين كل ما يصادفه في ذلك اليوم وعلى اساسه ستبدو ردات الفعل تجاهها.

فكيف لنا ان ندمر هذه الفترة الذهبية لبرمجة العقل الباطن وهي فترة قبل النوم بحكايا مرعبة للاطفال خصوصا وتخويفهم بالطنطل ، ان هذا الخوف والرعب في هذه الفترة بالذات تعمل الى تدمير الجانب النفسي والسلوكي لاي فرد  وخاصة الاطفال، فلنرتق بافكارنا وطريقة تربيتنا في مسألة تنويم الاطفال ولنعتمد على برمجة العقل الباطن بالفكر والوعي والقصص المحببة للاطفال خاصة اذا ما ضمنّاها بعض العبر والمواعظ ، فهي كفيلة لزرع شخصية قوية ومبدعة وخلاقة تعتمد على الفكر والوعي بعيدا عن الخوف والخزعبلات وتمييزها كخرافة وليست حقيقة كالطنطل والسعلوة وغيرها.

الهوامش:

(١) انظر المباح واللامباح ،فصول من التراث الإسلامي، رشيد خيون، ص ٤٤١.

(٢)كافن يونغ، العودة الى الاهوار، ترجمة د.حسن الجنابي، ص٣٩.

(٣)المصدر السابق.

(٤) ارض مرتفعة او رابية 

(٥)كافن يونغ، العودة الى الاهوار، ترجمة د.حسن الجنابي، ص٣٨.

(٦)المصدر السابق  ص ٣٨- ٣٩.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


عبير المنظور
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/09/20



كتابة تعليق لموضوع : الطنطل، اسطورة غذّتها المصالح
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net