صفحة الكاتب : شعيب العاملي

ويُسقى الكوثَر.. مَن بكى الحسين !
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم 
رَحِمَ الله دَمْعَتَكَ !
 
هذه كلمةٌ مرويَّةٌ عن الإمام الصادق عليه السلام، لأحد أصحابه ويُدعى (مِسْمَعُ).
 
مِسْمَعُ هذا يخافُ من إتيان قبر الحسين عليه السلام، لئلا يبطش به أعداء آل محمدٍ عليهم السلام، لكنَّهُ يذكُرُ ما جرى على الحسين عليه السلام، ويجزَع لذلك، ويستَعبِر حتى يظهر أثَرُ ذلك عليه، ويمتنع عن الطَّعام.
هي علاماتُ المكروب المحزون، تظهرُ جليَّةً على مُحبِّ الإمام الحسين عليه السلام عند ذكره، وفي أيام شهادته.
 
الإمامُ هنا ما دعا له بالرحمة، بل دعا لدمعته ! فما قال لهُ: رحمك الله، بل قال (رَحِمَ الله دَمْعَتَكَ) !
تعبيرٌ بليغٌ يُشيرُ إلى عظيم أثَرِ الدَّمعة حتى صارَت مَحَلاً لدُعاء الإمام المعصوم، حجّة الله على مَن فوق الأرض ومَن تحت الثرى !
 
ثمَّ قال عليه السلام:
أَمَا إِنَّكَ مِنَ الَّذِينَ يُعَدُّونَ مِنْ أَهْلِ الجَزَعِ لَنَا، وَالَّذِينَ يَفْرَحُونَ لِفَرَحِنَا، وَيَحْزَنُونَ لِحُزْنِنَا، وَيَخَافُونَ لِخَوْفِنَا، وَيَأْمَنُونَ إِذَا أَمِنَّا (كامل الزيارات ص101).
 
هكذا يكون المؤمنُ، جَزوعاً على آل محمدٍ، مواسياً لهم في أحوالهم، أمَا خُلِقَ من فاضل طينتهم ؟!
 
وتظهر تباشير موالاة المؤمن لآل محمدٍ جليَّةً عند ساعة الموت، ثم تتوالى، وتظهر ثِمارُ حُبِّهم والجَزَعِ لهم والإستعبار لمصيبتهم، وتَبينُ آثاره، كما يقول عليه السلام لـ (مِسْمَعُ):
أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ:
 
أبوا هذه الأمّة محمدٌ وعليٌّ عليهما السلام، ثم سيّدا شباب أهل الجنة حسناً وحسيناً، ثمَّ زَينُ العُبَّاد والباقر عليهم السلام، هم آباء الإمام الصادق الأقربون المُعظَّمون، فلأيِّ غَرَضٍ يحضرون مَوت من كان لأجلهم جَزوعاً ؟!
 
وإذا كان المؤمنون (يَأْمَنُونَ إِذَا أَمِنَّا) كما عن الصادق عليه السلام، فهل يُخشى على مُحبِّهم ساعة الموت ؟!
يُبَيِّن الإمام طبيعة حضورهم فيقول:
أَمَا إِنَّكَ سَتَرَى عِنْدَ مَوْتِكَ حُضُورَ آبَائِي لَكَ، وَوَصِيَّتَهُمْ مَلَكَ المَوْتِ بِكَ:
 
وصيَّةُ المعصوم لملك الموتِ أمرٌ عجيبٌ، وإنَّ لآل محمدٍ على الملائكة أفضالاً تجعلُ الملائكة طوعَ أمرِهم، منتظرةً لتحقيق رغباتهم.
 
أما ورد في الحديث أنَّ الله تعالى لما خلقَ الملائكة: اسْتَعْظَمَتْ أَمْرَنَا، فَسَبَّحْنَا لِتَعْلَمَ المَلَائِكَةُ أَنَّا خَلْقٌ مَخْلُوقُونَ، وَأَنَّهُ مُنَزَّهٌ عَنْ صِفَاتِنَا، فَسَبَّحَتِ المَلَائِكَةُ بِتَسْبِيحِنَا، وَنَزَّهَتْهُ عَنْ صِفَاتِنَا.. ِ فَبِنَا اهْتَدَوْا إِلَى مَعْرِفَةِ تَوْحِيدِ الله عَزَّ وَجَلَّ وَتَسْبِيحِهِ وَتَهْلِيلِهِ وَتَحْمِيدِهِ وَتَمْجِيدِه‏ (عيون أخبار الرضا ج1 ص263).
 
اهتدى الملائكة بآل محمدٍ، وها هُم الأئمة يوصون الملائكة بمَن مات وكان عليهم جَزوعاً ! فهنيئاً لِمَن كان من أهل الجزع لهم !
 
ثمَّ تأتي البشارة للمؤمن:
وَمَا يَلْقَوْنَكَ بِهِ مِنَ البِشَارَةِ أَفْضَلُ، وَلَمَلَكُ المَوْتِ أَرَقُّ عَلَيْكَ وَأَشَدُّ رَحْمَةً لَكَ مِنَ الأُمِّ الشَّفِيقَةِ عَلَى وَلَدِهَا:
هل يخافُ أحدٌ من أمِّه الشَّفيقة ؟! هل يحتملُ منها أذيَّةً في أشدِّ وقت حاجَتِهِ إليها ؟!
 
إنّ الأمَّ مأمونةُ الضَّرَر، ولو لم تكن شفيقةً بولدها، فكيف لو كانت من أهل الرِّقة والشَّفَقة والعطف والحنان..
فإنَّها تُهَيّءُ لولِدها كلَّ ما يدفع عنه الأذى، وتوفِّر له كلّ سُبُل الراحة..
 
وهكذا ملائكة الرحمان، وقد بيَّنَ أميرُ المؤمنين عليه السلام في حديثٍ آخر ما يفعل الملائكة بالمؤمن: فَيَفْسَحَانِ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، وَيَفْتَحَانِ لَهُ بَاباً إِلَى الجَنَّةِ، وَيَقُولَانِ لَهُ: نَمْ قَرِيرَ العَيْنِ نَوْمَ الشَّابِّ النَّاعِم (تفسير القمي ج1 ص370).‏
 
لَقَد تألَّمَ قلبُ المؤمن الموالي في هذه الدُّنيا لما جرى على آل محمد عليهم السلام، أيتألَّمُ أيضاً في سائر العوالم فيعيشُ الفجائع في آخرته كما عاشها في دُنياه؟! أم تنقلبُ المعادلةُ منذ ساعة الموت ؟!
 
يقول عليه السلام:
وَإِنَّ المُوجَعَ لَنَا قَلْبُهُ، لَيَفْرَحُ يَوْمَ يَرَانَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَرْحَةً لَا تَزَالُ تِلْكَ الفَرْحَةُ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْنَا الحَوْضَ !
 
كلامٌ في غاية العَجَب لم يألفِ النّاسُ له معنى !
فإنَّ ابن آدم في هذه الدُّنيا ما اعتادَ أن يظلَّ الفرحُ في قلبه مُدَّةً مديدة، فكلُّ فرحِ الدُّنيا زائلٌ، يعقبه ما يُنَغِّصُه ويدفَعُه، ولئن فَرِحَ المؤمن وغيرُه في دار الدُّنيا ساعةً، فإنّه ما يلبث أن يحزن، بل تأتيه ساعات قد ينسى فيه كلَّ فَرَحٍ مَرَّ عليه، بل يكاد بعضُهم لا يعرفُ للفرح معنى.
 
لكنّ مَن تَوَجَّعَ قلبُه في الدُّنيا لآل محمد، تبدأ ساعة الفَرَح عنده بالموت، لكنَّها ليست كسائر الأفراح، إنَّها ساعةٌ لا ينتهي أثَرُها، تستمرُّ معه وترافقه حتى يَرِد الحوض !
 
هُناك تنقلبُ المُعادلات، وتتبدَّلُ الأمور غير الأمور:
وَإِنَّ الكَوْثَرَ لَيَفْرَحُ بِمُحِبِّنَا إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ، حَتَّى إِنَّهُ لَيُذِيقُهُ مِنْ ضُرُوبِ الطَّعَامِ مَا لَا يَشْتَهِي أَنْ يَصْدُرَ عَنْهُ:
لم يصف الإمامُ المحبَّ هنا بالفرح، فالكوثر هو الذي يفرَحُ بهذا المُحبّ! فأيُّ كرامةٍ لكم يا أحباب آل محمدٍ عند الله تعالى ؟!
 
يَا مِسْمَعُ، مَنْ شَرِبَ مِنْهُ شَرْبَةً لَمْ يَظْمَأْ بَعْدَهَا أَبَداً، وَلَمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَا أَبَداً !
 
آه أيُّها الكوثر.. أينَ كُنتَ يومَ عاشوراء ؟!
عليُّ بنُ الحسين عليه السلام يقول: يَا أَبَتِ، العَطَشُ قَدْ قَتَلَنِي، وَثِقْلُ الحَدِيدِ قَدْ أَجْهَدَنِي فَهَلْ إِلَى شَرْبَةٍ مِنَ المَاءِ سَبِيل ؟!
فَبَكَى الحُسَيْنُ (ع) وَقَالَ: وَا غَوْثَاهْ يَا بُنَيَّ، قَاتِلْ قَلِيلًا، فَمَا أَسْرَعَ مَا تَلْقَى جَدَّكَ مُحَمَّداً (ص)، فَيَسْقِيَكَ بِكَأْسِهِ الأَوْفَى شَرْبَةً لَا تَظْمَأُ بَعْدَهَا أَبَداً ‏(اللّهوف ص113).
 
آهٍ أيُّها الكوثر.. آهٍ يا آل محمد..
سلامُ الله عليكم يا سادَتي.. مُحبُّكم يوم القيامة يشربُ من الكوثر، فإذا شَرِبَ: لَمْ يَسْتَقِ بَعْدَهَا أَبَداً !
وأنتم تَستَقوُن الماء في عاشوراء.. فلا تُسقَونه !
فإنّا لله وإنا إليه راجعون.
 
عندَكم الكوثَرُ، ومَن شَمَّ ريحَهُ وشَرِبَ ماءه يقول: يَا لَيْتَنِي تُرِكْتُ هَاهُنَا لَا أَبْغِي بِهَذَا بَدَلًا وَلَا عَنْهُ تَحْوِيلًا !
ثمَّ تُحرَمون الفُرات ! ويناديكم منادٍ: أَ مَا تَرَوْنَ إِلَى مَاءِ الفُرَاتِ يَلُوحُ كَأَنَّهُ بُطُونُ الحَيَّاتِ [الحِيتَانِ‏]، وَالله لَا ذُقْتُمْ مِنْهُ قَطْرَةً حَتَّى تَذُوقُوا المَوْتَ جَزَعاً (الأمالي للصدوق ص157).
 
فما أعظَمَ صَبرَكم وتسليمكم لأمر الله..
وما أعظَمَ ما ينالُه الباكي عليكم..
 
وَمَا مِنْ عَيْنٍ بَكَتْ لَنَا إِلَّا نُعِّمَتْ بِالنَّظَرِ إِلَى الكَوْثَرِ، وَسُقِيَتْ مِنْهُ (مع) مَنْ أَحَبَّنَا، وَإِنَّ الشَّارِبَ مِنْهُ لَيُعْطَى مِنَ اللَّذَّةِ وَالطَّعْمِ وَالشَّهْوَةِ لَهُ أَكْثَرَ مِمَّا يُعْطَاهُ مَنْ هُوَ دُونَهُ فِي حُبِّنَا.
 
وَإِنَّ عَلَى الكَوْثَرِ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ (ع)، وَفِي يَدِهِ عَصًا مِنْ عَوْسَجٍ يَحْطِمُ بِهَا أَعْدَاءَنَا:
تتجلى حينها البراءة كما الولاية، ويقتصُّ الله للمظلوم من الظالم، فيحطمُ عليٌّ أعداء آل محمدٍ في الآخرة كما كان في الدُّنيا، حتى أنَّ أحدهم يقول: إِنِّي أَهْلِكُ عَطَشاً.
فيقول عليه السلام: زَادَكَ الله ظَمَأً وَزَادَكَ الله عَطَشاً (كامل الزيارات ص102).
 
سلامُ الله على سيِّدِ الكائنات صلى الله عليه وآله، لقد أبكاهُ وَصفُ الكوثر لمّا قال: يَا عَلِيُّ، الكَوْثَرُ نَهَرٌ يَجْرِي مِنْ تَحْتِ عَرْشِ الله، مَاؤُه‏ أَبْيَضُ مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى مِنَ العَسَلِ، وَاليَنُ مِنَ الزُّبْدِ.. فَبَكَى النَّبِيُّ (ص) وَأَصْحَابُهُ، ثُمَّ ضَرَبَ بِيَدِهِ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ: وَالله يَا عَلِيُّ مَا هُوَ لِي وَحْدِي، وَإِنَّمَا هُوَ لِي وَلَكَ وَلِمُحِبِّيكَ مِنْ بَعْدِي (تفسير فرات ص609).
 
لَم يُذكر في الخَبَر أنَّ أحداً سأل النبي (ص) عن سَبَبِ بكائه حينها، وبجنبه عليٌّ وبعضُ أصحابه !
هل بكى لما يعلَمُ من ظُلمِ بعض الأصحاب بضعته الطاهرة ؟!
أم بكى لعَطَشِ الحسين وعترته ؟!
 
وقد جاء أعداؤهم:ٍ فَنَزَلُوا عَلَى الشَّرِيعَةِ، وَحَالُوا بَيْنَ الحُسَيْنِ وَأَصْحَابِهِ وَبَيْنَ المَاءِ أَنْ يَسْتَقُوا مِنْهُ قَطْرَةً ! وَذَلِكَ قَبْلَ قَتْلِ الحُسَيْنِ بِثَلَاثَة ‏ أَيَّامٍ !
هل يبكي لقول قائلهم: ِ يَا حُسَيْنُ، أَ لَا تَنْظُرُ إِلَى المَاءِ كَأَنَّهُ كَبِدُ السَّمَاءِ، وَالله لَا تَذُوقُونَ مِنْهُ قَطْرَةً وَاحِدَةً حَتَّى تَمُوتُوا عَطَشاً ! (الإرشاد ج2 ص87).
 
آهٍ يا آل محمد.. كيف لا تتوجَّعُ القلوبُ عليكم.. وقد تنوَّرَت بنوركم، وفُجِعَت بفقدِكم.
سلامُ الله عليكم.. مِن قلبٍ كسير..
وعظم الله أجورنا بكم، وإنا لله وإنا إليه راجعون.


الشيخ محمد مصطفى محمد مصري العاملي 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/08/03



كتابة تعليق لموضوع : ويُسقى الكوثَر.. مَن بكى الحسين !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net