صفحة الكاتب : ماجد عبد الحميد الكعبي

الطغيان صناعة أعرابية بامتياز! / الجزء الثاني
ماجد عبد الحميد الكعبي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لقد صنّف الامدي  ابا عبادة البحتري  بانه : ( أعرابي الشعر ..  ولما دخل العراق تكنى ابا الحسن ؛ ليزيل العنجيهة والأعرابية , و يساوي في مذاهبه اهل الحاضرة , ويتقرب الى اهل النباهة والكتاب من الشيعة ). وعلى الرغم من ذلك فالبحتري معروف بأوصافه لمظاهر العمران التي تعكس الحضارة العباسية في عصره ، لكن التغني  بالأشياء المادية الحضرية شي مختلف عن تجسيد العلاقة بين الحاكم والمحكوم التي يجب ان يركز الشاعر فيها على  اظهار القيم  الاسلامية والإنسانية الرفيعة التي تعكس تلك العلاقة لا ان ينطلق الشاعر من فضاء متخيل متعال على حقيقة الواقع الذي يعيشه ، فيحول الصور السلبية الى ايجابية ويبدل الظلم بالعدل ويجعل من الطاغية شخصية رحيمة وتقية .
   ويحاول شوقي ضيف ان يبرر لما يرتكبه الشعراء من جرائم معنوية في حق الذاكرة الثقافية العربية واصفا افعالهم بانها تشخيص لقيم سامية مفقودة عند الممدوحين ، فالشعراء لا يقصدون من صورهم التمجيدية تلك إلا تنبيه الحكام والملوك والأمراء وتذكيرهم بالمكانة  او الاخلاق التي يجب ان يتحلوا بها ، فيتحول الشاعر من صوت يمجد الطغيان الى صوت الواعظ الحكيم ، وهل قلّ وعاظ السلاطين لكي يثب الشعراء لتبادل الادوار؟
ان التبرير للطغيان اسوأ من الطغيان ذاته ، لذلك هناك قلة من الشعراء الذين نجوا من الوقوع بمهلكة السلطان على الرغم من المغريات الجمة التي عرضت عليهم , فأبى صوت الضمير الحي بيع نفسه في سوق نخاسة الاستعباد ، ومن اشهر هؤلاء الشعراء الذين خاضوا المعارك  الحجاجية الشرسة من اجل القيم الانسانية و المثل العليا : الشاعر علي بن العباس المعروف بابن الرومي ، والذي ابى  ان يمجد السلاطين والملوك  او ان يتقرب منهم وإذا ما اضطر للمجاملة او المدح ، صدح بالمعاني التي لا يمجها الذوق او تنكرها الفطرة السليمة ، وكان يكرر دائما : اني لا اقول ولا امدح الشخص إلا بما تجود به لي اخلاقه  وطبائعه ، لذلك كان ابن الرومي يعيش على هامش الحياة السياسية والاجتماعية لأصحاب القصور والبلاطات الحاكمة ،  فلم يمدح  اي خليفة من بني العباس باستثناء بعض الابيات التي قالها مجاملة لبعضهم  والتي لا تتجاوز الخمسة او الستة ، وهو مع ذلك يعترف ان الجوائز التي اخذها ليست عطاء بسبب المديح بل من اجل اتقاء شر هجائه : 
                   لا لأجل المديح بل خيفة الهجـــــــــــــــو أخذنا جوائز الخلفاء
وهو بذلك يكشف لنا حقيقة خوف الحاكم او الطاغية من لسان الحق لذلك يسعى لاستمالته بالعطايا والأموال  والمكرمات ، وإذا كان الطاغية يستعمل سياسة ( الترغيب والترهيب ) فان ابن الرومي جعل سياسة ( التشنيع ) حلا ناجعا يقلق مضجع الحكام .
 اذن كان ابن الرومي شاعرا معارضا للسلطان ناقما على الحكام وعلى الشعراء الذين يمجدونهم ولم ينج من لسانه وهجوه اللاذع إلا بعض من الامراء والوجهاء في عصره و الذين يميلون الى  اشاعة القيم الانسانية والأخلاق الرفيعة بين الناس في سلوكهم ومعاملاتهم ، ونخلص من ذلك الى ان البحتري الأعرابي كان مختلفا عن ابن الرومي الشاعر الحضري ، وكما بدأنا مع شوقي ضيف وصناعة الشعر نختم بوصفه لشعر ابن الرومي الذي جسد في شعره معاناة الانسان مبتعدا عن ثقافة الطغيان :  ( ففي شعره نزعة شعبية واضحة , إذ كان يصف المطاعم وحياة الناس في بغداد وما يطعمونه ويلبسونه حتى الاردية المرقعة , ويعرض علينا صور طبقاتهم الدنيا من خبازين وحمالين وشوائين وشحاذين , ومن هنا كانت تكثر في شعره الفاظ العامة , فهو ليس شاعر الملوك والقصور من مثل البحتري , وإنما هو شاعر شعبي , يعرض علينا بغداد في حياتها المتواضعة وصورها الشعبية ). 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ماجد عبد الحميد الكعبي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/05/09



كتابة تعليق لموضوع : الطغيان صناعة أعرابية بامتياز! / الجزء الثاني
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net