صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

الحج جِهَادُ الضُّعَفاء!
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم
 
المبالغة والمغالاةُ: سِمَتان غريبتان، يتَّصِفُ بهما أقوامٌ، ينسبون لأنفسهم مكانةً ليست لهم، ثمَّ يطعنون بأصحاب الكمال، وسادة الخلق، أو يُظهِرون الحِرص أكثر منهم.
 
ومِن ذلك ما قاله رجلٌ يوماً للإمام السجاد زين العابدين عليه السلام حينما خاطبه بقوله: تَرَكْتَ الْجِهَادَ وَخُشُونَتَهُ؟! وَلَزِمْتَ الحَجَّ وَلِينَهُ؟!
 
كان الإمامُ متَّكئاً فجلس، وقال للرجل: وَيْحَكَ، أَ مَا بَلَغَكَ مَا قَالَ رَسُولُ الله (ص) فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ؟
.. إِنَّ رَبَّكُمْ تَطَوَّلَ عَلَيْكُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ فَغَفَرَ لِمُحْسِنِكُمْ، وَشَفَّعَ مُحْسِنَكُمْ فِي مُسِيئِكُمْ، فَأَفِيضُوا مَغْفُوراً لَكُمْ.. إِنَّ الله عَدْلٌ يَأْخُذُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ (الكافي ج4 ص258).
 
يتساءل المؤمن: ما الرَّبط بين سؤال السائل وجواب الإمام؟
إذا كان الله تعالى يغفر للحجيج، فهل يعني هذا تقديم الحجِّ على الجهاد؟ بل تَركُ الجهاد رأساً وملازمة الحج؟!
 
هل يصحُّ تعطيلُ فريضةٍ واجبةٍ لنَيلِ الثواب عبر فريضةٍ أخرى؟!
 
لقد كان القائلُ صوفياً يُدعى عبّاد! والمتصوِّفَةُ أبعَدُ النّاس عن الجهاد! وأجهَلُهم بكتاب الله، رغم ذلك يحتجُّ أحدُهم على الإمام بآيات القتال في سبيل الله، لكنَّه يجهل أنَّ لهذا القتال شروطاً، فيُبيِّنُ له الإمامُ أنَّ الجهادَ لا يكون مع أيِّ أحد، بل مع مصداق آية: ﴿التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ..﴾، ويقول له: إِذَا رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ فَالْجِهَادُ مَعَهُمْ يَوْمَئِذٍ أَفْضَلُ مِنَ الحَجِّ (الفقيه ج2 ص219).
 
فما الصلة بين الحجِّ والجهاد؟
 
إنَّ الجهادَ على أقسام، فمِنه جهاد النَّفس الأكبر الذي يجبُ في كلِّ حين، ومِنهُ الجهاد مع العدوِّ بالسلاح عند توفُّر شروطه، ومتى لَم تتوفَّر الشروط سقَط وجوب الجهاد هذا، وكان الحجُّ باباً من أبواب الجهاد فتَحَه الله تعالى للضُّعفاء من عباده، الذين لا يقدرون على الجهاد.. لذا استشهدَ الإمامُ عليه السلام بحديث النبيِّ يوم عرفة (إِنَّ الله عَدْلٌ يَأْخُذُ لِلضَّعِيفِ مِنَ الْقَوِيِّ)..
 
فمن هو الضعيف؟
 
قال تعالى: ﴿وَنُريدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوارِثينَ﴾ (القصص5).
 
أهلُ الآية أئمةٌ ضُعفاء! فقد نزلت هذه الآية في آل محمد عليهم السلام، فكان الأئمة الأطهارُ مُستضعفون في الأرض ولا يزالون، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وآله: الحَجُّ جِهَادُ الضَّعِيفِ!
 
وقال الصادق عليه السلام: نَحْنُ الضُّعَفَاءُ، وَنَحْنُ الضُّعَفَاءُ (الكافي ج4 ص259).
 
لقَد أوجَبَ الله تعالى على الأمَّة أن توالي وليَّهُ، فإذا انقادَت لهُ وخَضَعَت حثَّها على الجهاد حيثُ يجب، فالجهادُ الذي يستلزم سفكَ الدِّماء لا بدَّ أن يكون تحت إشرافِ إمامٍ معصومٍ، وبأمرِه وتوجيهه، وإلا سادَ الهرجُ والمرجُ في الأمّة، أو الظلمُ والقهرُ والاستبداد.
 
ولقد تخاذَلَت الأمَّةُ عن أوَّل الأئمة دَهراً، ثمَّ تذبذبت في اتِّباعه بعدما انقضت أيام الثلاثة، فدعا الناس إلى الجهاد ليلاً ونهاراً، وسرَّاً وإعلاناً، لكنَّهم تخاذلوا عن نُصرَته مراراً، ثمَّ جاء بعضهم يدعو حفيدَه السجّاد للجهاد وهو مكبَّلُ اليدين، مُستضعفاً مِن أُمَّةٍ ظالمةٍ قَتَلَت أباه الشهيد!
 
يا لِهَوانِ الدُّنيا على الله!
 
يُسلَبُ الأئمةُ فيها حقَّهم، ويُجارُ عليهم، ويُمنعوا من بيان ظلامَتِهم، ويُحجبوا عن شيعتهم، ثمَّ يُعيَّرون بتَرك الجهاد!
 
أيُّ دَنَاءَةٍ وحقارَةٍ يواجهُها المعصومون في هذه الأمّة؟! ثمَّ شيعتُهم من بعدهم.
 
ولقد كان أصحابُ الأئمة يسألونهم عن ذلك فيبيِّنون لهم حكمَهم، ومِن ذلك ما قيل لبعض الأئمة:
إنَّ فِي بِلَادِنَا مَوْضِعَ رِبَاطٍ يُقَالُ لَهُ قَزْوِينُ، وَعَدُوّاً يُقَالُ لَهُ الدَّيْلَمُ، فَهَلْ مِنْ جِهَادٍ؟ أَوْ هَلْ مِنْ رِبَاطٍ؟
 
فَقَالَ: عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْبَيْتِ فَحُجُّوهُ! .. أَ مَا يَرْضَى أَحَدُكُمْ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِهِ يُنْفِقُ عَلَى عِيَالِهِ يَنْتَظِرُ أَمْرَنَا:
 
1. فَإِنْ أَدْرَكَهُ كَانَ كَمَنْ شَهِدَ مَعَ رَسُولِ الله (ص) بَدْراً.
2. وَإِنْ لَمْ يُدْرِكْهُ كَانَ كَمَنْ كَانَ مَعَ قَائِمِنَا فِي فُسْطَاطِهِ! (الكافي ج4 ص260).
 
لقد صارَ الميزانُ حتى في القتال وتركه هو آل محمدٍ، فولايتهم هي التي لم ينادَ في الإسلام بشيء مثلها، فإذا نُحِّيَ آلُ محمدٍ عن حقِّهم حَرُمَ الجهادُ مع مَن سواهُم، لذا اعتقدَ الشيعةُ أنَّ: الْقِتَالَ مَعَ غَيْرِ الْإِمَامِ المَفْرُوضِ طَاعَتُهُ حَرَامٌ مِثْلَ المَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلحمِ الْخِنْزِيرِ (الكافي ج5 ص23).
 
إلا أن يكون ذلك دفاعاً عن النَّفس، أو كان فيه حِفظُ الإسلام من الإندراس، فإن المؤمن: إِنْ خَافَ عَلَى بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ وَالمُسْلِمِينَ قَاتَلَ، فَيَكُونُ قِتَالُهُ لِنَفْسِهِ وَلَيْسَ لِلسُّلْطَانِ.. يُقَاتِلُ عَنْ بَيْضَةِ الْإِسْلَامِ لَا عَنْ هَؤُلَاءِ، لِأَنَّ فِي دُرُوسِ الْإِسْلَامِ دُرُوسَ دِينِ مُحَمَّدٍ (ص) (الكافي ج5 ص21).
 
وبهذا ينقسمُ النّاسُ إلى فئتين:
 
1. فئةٌ اتَّبَعَت سلاطين الجَور، فسوَّغَت الجهادَ ولو لم يأمُر به آلُ محمد عليهم اسلام.
2. وفئَةٌ علِمَت أنَّ في ذلك تقدُّماً على المعصوم، والمتقدِّمُ له مارقٌ مِنَ الدِّين.
 
وليس يشفعُ جهادٌ ولا حَجٌّ لأحدٍ ممَّن لم يتَّبعهم!
فمَن قُتِلَ في الثغور منهم كان ممَّن: يَتَعَجَّلُونَ قَتْلَةً فِي الدُّنْيَا وَقَتْلَةً فِي الْآخِرَةِ! (تهذيب الأحكام ج‏6 ص126).
 
ومَن ذهبَ لبيت الله الحرام ولبَّى حول الكعبة كان ممَّن: أَصْوَاتُهُمْ أَبْغَضُ إِلَى الله مِنْ أَصْوَاتِ الحَمِيرِ! (الكافي ج4 ص541).
 
فإن قالَ قائلٌ: ما السرُّ في ذلك؟
أليس في هذا الأمر مبالغةٌ من قبلكم أيُّها الشيعة؟ أتزعمون أنَّ الحقَّ منحصرٌ فيكم دونَ سواكم؟ وأن القتل والحجَّ من سواكم غيرُ مقبول؟!
 
قُلنا:
هذه سنَّةُ الله في الأولين والآخرين، ألم يقدِّم قابيلُ وهابيلُ قرباناً ﴿فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَر﴾، ولما أراد الأول قتل الثاني قال له: ﴿إِنَّما يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المُتَّقين‏﴾.
 
إنَّ المتَّقين هم الذين حفظوا ميثاق الله الذي أخذه عليهم، وهم الذين يحجون حجَّ الضُّعفاء اليوم، ويستلمون الحجر الأسود، ويعلمون أنَّ: الله تَبَارَكَ وَتَعَالَى وَضَعَ الحَجَرَ الْأَسْوَدَ، وَهِيَ جَوْهَرَةٌ أُخْرِجَتْ مِنَ الجَنَّةِ إِلَى آدَمَ (ع)، فَوُضِعَتْ فِي ذَلِكَ الرُّكْنِ لِعِلَّةِ الْمِيثَاقِ!
 
إنَّ مِن أهمِّ ثمارِ الحجِّ تجديدُ الميثاق للإمام عليه السلام، وأكثرُ الأمَّة تحجُّ جاحدةً لإمامته! متنكِّرَةً لميثاق الله في لزوم اتِّباعه، إلا قلَّة قليلة قال فيهم الصادق عليه السلام: وَالله مَا يُؤَدِّي ذَلِكَ أَحَدٌ غَيْرُ شِيعَتِنَا، وَلَا حَفِظَ ذَلِكَ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَحَدٌ غَيْرُ شِيعَتِنَا، وَإِنَّهُمْ لَيَأْتُوهُ فَيَعْرِفُهُمْ وَيُصَدِّقُهُمْ، وَيَأْتِيهِ غَيْرُهُمْ فَيُنْكِرُهُمْ وَيُكَذِّبُهُمْ.
 
لقد أخذا لله: الْمِيثَاقَ لَهُ بِالرُّبُوبِيَّةِ، وَلِمُحَمَّدٍ (ص) بِالنُّبُوَّةِ، وَلِعَلِيٍّ (ع) بِالْوَصِيَّةِ.. فعَمِلَ المؤمنون بالميثاق، وجحده المخالفون أو أنكروه ، فشَهِدَ الحجرُ وهو ملكٌ من ملائكة الله لهؤلاء بالموافاة، وعلى هؤلاء بالكفر.
 
وسيظلُّ الحالُ كذلك، إلى أن يظهر المستضَعفُ المذخورُ لإحقاق الحقّ، وفي تلك البقعة: وَإِلَى ذَلِكَ المَقَامِ، يُسْنِدُ الْقَائِمُ ظَهْرَهُ!
 
فيكون الحجرُ هو: الحُجَّةُ وَالدَّلِيلُ عَلَى الْقَائِمِ، وَهُوَ الشَّاهِدُ لِمَنْ وَافَاهُ فِي ذَلِكَ المَكَانِ (الكافي ج4 ص185).
 
وهكذا يتميَّزُ المؤمنُ عن غيره، فإنَّ إقدامَهُ وإحجامَهُ لا يكون إلا عن أمر الله ورسوله ووليه، فيقبل الله القليلَ من عمله، وأما مَن لم يفِ بالميثاق، فإنه يصيرُ من أهل الجحود والإنكار الذين ﴿لَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ‏ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَلَوِ افْتَدى‏ بِه‏﴾.
 
وفَّقَنا الله تعالى لجهاد النَّفس الأكبر، وجهادِ الضُّعفاء في الحجّ زمن الغيبة، ثمَّ الجهاد بالسيف مع الإمام المنتظر، ليشهد لنا الحجرُ أنّا قد وفينا الميثاق.
 
عجَّلَ الله فرج ولينا، وسهل مخرجه.
 
والحمد لله رب العالمين.
 
الثلاثاء 12 ذو الحجة 1443 هـ الموافق 12 – 7 – 2022 م


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/07/12



كتابة تعليق لموضوع : الحج جِهَادُ الضُّعَفاء!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net