من سيرة الشَّهيد السَّعيد الشَّيخ جعفر المظفر (شخص هذه صفاته لا يُرضى له بغير هذه الخاتمة)
ياسين يوسف اليوسف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
ياسين يوسف اليوسف
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تميّز بصفات الأولياء والصّالحين؛ لذا تردّدتُ كثيراً في الكتابة عن شخصيّته؛ خوفاً من أنْ لا أعطيه حقّه لما رأيتُ من جميل خصاله وعمق شخصيّته، وفي مختلف جوانبها.
لا أعلم من أين أبدأ، أو أيّ شيءٍ أكتب، أو أيّ عباراتٍ أصوغ بحقّ هذا الشّهيد، لكنّني سأكتب، فتاريخ الشّهداء لا بدّ منْ أن يُكتب، وعذراً من الشّهداء سلفاً؛ فالحديث عن الشّهداء حديث عن أولياء الله، حديثٌ عن العزّة والإباء، حديثٌ عن الآخرة، فما بالك إذا كان الحديث عن عالِمٍ شهيدٍ، إنّه الحديث عن العمامة الطّاهرة التي أسهمتْ في إنقاذ العراق، إنّه الحديث عن الشّهيد السّعيد الشّيخ (جعفر عبد الكاظم المظفّر).
ولد الشّيخ جعفر المظفّر في مدينة البصرة عام 1970م، وهو ينحدر من أسرة المظفّر العلميّة المعروفة، فعاش في كنف أسرة ولائيّة محبّة للعلم والعلماء، وعُرف منذ نعومة أظفاره بنبل الأخلاق، وكان السّخاء من صفاته البارزة التي لازمته طول حياته.
التحق بصفوف الحوزة العلميّة في النّجف الأشرف عام 1998م، وإنْ كانت له اهتمامات دينيّة وعلميّة قبل هذا التاريخ؛ لما ذكرنا مِن كونه ينحدر من أسرة علميّة .
درس المقدّمات والسّطوح على يدي أستاذه السّيد أحمد الأشكوريّ في الحسينيّة الأعسميّة، ودخل البحث الخارج، وتلقّى علومه عند آية الله الشّيخ باقر الإيروانيّ، وكان مثالاً يُحتذى به عند طلبة العلوم الدينيّة، وغيرهم من فئات وشرائح المجتمع، وكان ملازماً لدرسه وأُستاذه.
لديه الكثير من التقريرات، فضلاً عن نهمه الشّديد لمطالعة كتب الأخلاق والتّاريخ، واهتمامه الكبير بدروس الحوزة، كالفقه والأصول والعقائد.. .
ينقل لنا صهر الشّهيد الشّيخ)حسين( جانباً من سجاياه، قائلاً:
«إنّ الشّهيد الشّيخ )جعفر المظفّر( كان كثيراً ما يهتمّ بقضاء حوائج الآخرين؛ ولضيق الحال كثيراً ما يضطرّ لأن يستأجر نفسه لقضاء العبادات نيابة ليقضي بها حاجة إخوانه المؤمنين، ويُضيف: لم يكن الشّيخ( جعفر( مهتماً بالسّمعة والرّياسة، بل كان مخلصاً في عمله، يعمل لله بصمت وخفاء، ويؤثِّر في مَن حوله تأثيراً فعّالاً بأفعاله قبل أقواله؛ لذا تراه محبوباً عند كلّ من التقى به، فضلاً عمّن عاشره، فكان مصداقاً بارزاً لقول الإمام الصّادق((كونُوا دعاةً للنّاس بغير ألسنتكم، ليروا منكم الورعَ والاجتهادَ والصّلاةَ والخيرَ، فإنّ ذلكَ داعية))[1].
والمتتبّع لسيرة الشّهيد رحمه الله يلمس جليّاً أنّه كان من الزّاهدين في الدّنيا الرّاغبين في الآخرة، وهذا ما أكّده الشّيخ )حسين(، الذي كان قريباً منه؛ إذ قال: ))إنّ الشّهيد كان في كلّ تعاملاته يطبّق الموازين الشّرعيّة والسّنّة النّبويّة، حتّى إنّ علاقته مع أُسرته كانتْ علاقة نابعة منْ توصيات وتعليمات أهل البيت عليهم السلام لشيعتهم، وإنّ مهر بناته كان موافقاً للسّنّة النّبويّة الشّريفة، وهذا درس عمليّ اجتماعيّ مهمّ يُحتذى به في عالمنا اليوم((.
وكان معطاءً متواضعاً ورعاً محتاطاً في دين الله في أصعب مواقفه، حتّى نراه يستأذن في أنْ يأكل شيئاً من)الخبز( وهو في مواجهة الأعداء، وهذه من صفات العارفين بالله الذين لا يبتغون إلّا رضاه.
أمّا عبادته، فقدْ كان الشّهيد من المواظبين على صلاة اللّيل، فلم يكن يتركها في أصعب المواقف، ونادراً ما كان يرى غير صائم، حتّى إنّ أحد مقرّبيه يذكر، قائلاً )) : إنّني كنتُ أتمنى أنْ يأتينا الشّيخ وهو غير صائم؛ لنحظى بتضييفه وخدمته)).
أمّا علاقته مع القرآن، فكانت علاقة مميّزة، فلم يفارقه إلى حين شهادته، فكان كثير التلاوة للقرآن، فلا يترك التلاوة في معظم أوقاته، وهكذا كانت علاقته بالإمام الحسين عليه السلام ، فقدْ كانت علاقة خاصّة؛ إذ كان ((زَوّاراً)) للإمام الحسين عليه السلام، يذهب إلى زيارة الإمام عليه السلام مشياً على الأقدام من النّجف إلى كربلاء، وكانت المسافة التي يقطعها البعض في يومين أو ثلاثة أيّام يقطعها الشّيخ في ستّة أيّام؛ لأنّه كان يمشي ويقف ليخدم الزّائرين عشقاً بالحُسين عليه السلام وزوّاره.
هيّأ الشّيخ جعفر نفسه واستعدّ للجهاد، وبقي ينتظر أمر المرجعيّة بذلك، وكان استعداده قبل صدور الفتوى بمدّة، ولمّا كان عارفاً باستخدام السّلاح، فلم يحتج إلى دخول دورات في معسكرات تدريبيّة. علم بصدور فتوى الجهاد وهو يؤدّي مناسك العمرة، فالتحق بعد صدور الفتوى بشهرين تقريباً، وشارك في معارك بيجي، وأصيب فيها، ومعارك الصّقلاويّة، والفلّوجة، والبشير، وكانتْ الموصل آخر محطّاته، فقدْ نال شرف الشّهادة مع رفيق دربه بالجهاد الشّهيد السّعيد السيّد)عبد الرّضا الفيّاض(بتاريخ(: (31/10/2016م، في معركة منطقة) جياع( غرب الموصل، بعد أنْ سطّر البطولات في ساحات الجهاد، وأذاق الأعداء مرارة الذُّلّ والهزيمة، وشَحَذَ الهمم بين صفوف المجاهدين، بهتافاته الحماسيّة قبل أنْ يسقط مضرَّجاً بدم الشّهادة برصاصات غدر من أعداء الإنسانيّة والدّين، استقرّتْ في رأسه الشّامخ وجسده الطاهر.
شهد جثمانه الطاهر تشييعاً مهيباً في كلٍّ من سامرّاء والكاظميّة والنّجف الأشرف والبصرة، وودّعته قوافل المؤمنين وداعاً يليق بالعلماء من أمثاله، بعد أنْ أوصى بوصيّة عميقة المعاني جاء فيها: «أوصي أحبّائي بتقوى الله تعالى الذي مرجع العباد إليه، وأوصيهم بالإخلاص في العمل، وأنْ لا ينظروا إلى كثرة ما عملوا، بل إلى العمل الذي أخلصوا فيه للباري تعالى، وأوصيهم أن يطمعوا برضا الله تعالى الذي هو نعيم ما بعده نعيم، وهو قوله تعالى: وَرِضْوَانٌ مِنَ اللهِ[2]، وأوصيهم أن يتحابّوا فيما بينهم؛ لأنّ الدّنيا أصغر من أن يحمل أحدنا على أخيه المؤمن شيئاً، أو يظنّ به سوءاً من أجل حطام الدّنيا الزائلة الفانية، وأوصيهم بذكر الله، أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ[3]، وأوصيهم بالتّسليم للباري، فهو أبصر بما يصلح عباده، والإسلام هو التّسليم، وينبغي أنْ يكون إخوتي المؤمنون كالماء الصّافي يروي العطشان، ويُطهّر من النّجاسات، وينبت به النّبات، هذا، وأستغفر الله لي ولكم. ما أروعها وأعظمها من وصيّة.
وداعاً أيّها الشّيخ الشّهيد، لقدْ غاب جسدك عن محبّيك والألم يعتصرهم، لكنّ الله يعطي الصّبر بقدر المصاب، لقدْ غاب جسدك وبقيت روحك معهم، فأنفاسك ما زالتْ موجودة، وأفعالك مازالت مؤثّرة، وذكراك الطيّبة لم تغب، ولم تكن لك أمنيات في حياتك الدّنيا إلّا حبّ الخير للآخرين.
هنيئاً لك(شيخ جعفر)، ختمتَ حياتك صابراً صائماً محتسباً، عرجتْ روحك إلى الجنان...، فسلام عليك أيّها الشّهيد.
كنتَ خفيف المؤونة عظيم المعونة.. فارقتَ محبّيك بابتسامةٍ على شفتيك ويدك على مسبحتك، التي لم تفارقها، والأُخرى على زناد سلاحك، وآخر كلمات تلوتها من كتاب الله -عزّ وجلّ-: فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين[4]، وكأنّك تقول: بدمائنا لا بقاء للمعتدين، فكنتَ بحقّ أحد العظماء الذين خفيت علينا الكثير من مناقبهم، وكنتَ أحد رجال المرحلة، رغبت في الشّهادة، ونلتها بكلّ عزّ وشموخ، فبقدر فخرنا بك تحترق قلوبنا لفقدك وفقد أمثالك، فرحمك الله وطيّب ثراك، وسلامٌ عليك مع الخالدين.
[1] وسائل الشّيعة: 1/76، ح2.
[2] منْ سورة التّوبة، من الآية (72).
[3] منْ سورة الرّعد، من الآية (28).
[4] سورة الانعام ، الآية 45
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat