صفحة الكاتب : حبيبة المحرزي

قراءة في رواية (القضبان لا تصنع سجنًا)‎‎ - الجزء الثالث
حبيبة المحرزي


علاقة العنوان بالنّصّ لغويّا وتركيبيّا :
"القضبان لا تصنع سجنا"عنوان سيجده القارئ في كلّ مؤثّثات النّصّ تامّا مضمرا أو مجزًءا مصرّحا به كمسرح بركح  يبدو للقارئ استثنائيا لا يهمّ إلاّ المجرمين ولا يحوي بين جدرانه إلاّ المارقين المذنبين واجمالا فهو في حلّ منه لكنّه سيسعى إلى تعقّب السّارد الّذي سيأخذ بيده لجولات وصولات ظلميّة إجراميّة موجعة نازفة لأنه هو أحد  "أبطالها" الشاهدين المتضرّرين . لكنّ الكاتب ومن موقعه لحظة الكتابة البعيدة عن زمن الأحداث يعتبره ركنا من أركان الماضي الذي خزّنته الذّاكرة بوجع شديد مازال متمكنا من الوجدان  وهذا ما ستؤكده الجملة الاولى التصنيفيّة في النص الداخلي أو ما يسمّيه جيلبير جوليت بالنّصّ الفوقي والٌتي عنها ستتداعى  أكثر من 420 صفحة  من الرّواية بوقائع هي من الكمّ الموروث المشترك إن لم يكن واقعا معيشا فهو ثابت متاكد عند القارئ ولو من باب الشهادة والمتابعة التسجيليّة .. ويمكن للمتلقّي أن يتوقّف مستفسرا عن الدافع الذي جعل العنوان على هذه الشّاكلة. هل هو للتاريخ ؟ هل هو موضوع النّصّ وتيمته ؟ هل هو خلاصة تجربة ذاتيّة مرّة؟
 العنوان وبلونه البرتقاليّ "الإعداميّ" سيأسر القارئ وقد تومض تلك الصّور التي خزّنتها الذّاكرة لملابس بذات اللون ساعات الذبّح وإراقة الدّماء...
وعلى المستوى اللغوي وكعلامة سيميائية  "السّجن " كمعظلة عنفيّة يطقّ منها تاريخ ملوّث والام واحزان وانتهاكات لا تنسى . أما على المستوى التركيبي فهو مفعول في جملة اسمية مركبة إخبارية تقريرية  تكونت من مبتدأ وخبر .
الرّكيزة الّتي تنتصب مبهمة أمام المتلقّي الّذي ينتظر إخبارا عنها كمتمّم يوضّح غموضا مقصودا ،غموض بمفارقة متعمدة بين مصطلحين متلازمين متلاحمين في المخيال البشريّ المطلق. غير أن تركيب الجملة سيربك المتلقي إدراكيٌا وهو يعاين مفارقة نفي ما هو في الأصل مثبت .
المبتدأ "القضبان " وهو جمع تكسير مفرده قضيب .وهو شكلا ذو بعد طوليّ  يحوي إحالة على المادّة التصنيفيّة المتعارف عليها عند الباثّ والمتلقّي ومن حولهم . فالقضيب هو حتما من حديد دون حاجة إلى تمييز نوعيّ يصنفه في خانة أخرى  فهو ليس من الذهب ولا من الفضة ولا من الخشب. واذا وردت القضبان معرفة بالألف واللام فليس لإحالة مختصرة خاصة بل لتعميم الحكم الدّلاليّ الّذي أخبر به المتلقّي. فالقضبان خرجت من حيّز الرّواية ومن حيّز العراق ومن حيّز العصر المثبت في النص بتفاصيله إلى التّعميم والإطلاق والتّمدّد في الزمان والمكان وبين الفئات والمجموعات والشّعوب والأمم .هذا التّعريف الّذي سيحيد بالعنوان من مجرّد دلالة آنيّة ظرفيّة إلى المعادلة الازليّة الابديّة كحكم باتّ قارّ بنفس حكميّ وعظيّ إرشادي. وعبر المخيال الانسانيّ فإن كلمة "القضبان " تهرول بالذّاكرة مباشرة إلى "السّجن " كدلالة حتميّة لا تحتاج تفسيرا ولا تعليلا ولا سوابق ولا لواحق وهي جزء من كلّ لا يتجزأ أي القضبان تعني السّجن بكلّ أهوالهواغواله وان اختلفت تخريجاته التّاديبيّة أو العقابيّة او الظّلميّة ...لكن هذا الانصهار بين التّسمية ودلالتها الشّائعة سيبطل مفعول الاصطلاح والتعريف والتصنيف بالخبر .
"لا تصنع سجنا"الخبر الّذي ورد جملة فعليّة منفيّة نفيا قاطعا يطوّح بالدّلالة المستخلصة من المبتدإ "لا " هذا النّفي الذي سبق ذكر صنو له في عجز البيت الثّاني للشاعر الدكتور أمين الياسي والذي استثنى الماضي والحاضر ليجعل أداة النفي "لن" الدّالّة على اليقين من نفي الحدث في المستقبل نفيا تاما. والكاتب "جبار عبّود آل مهودر" مدّد النّفي ليكون مطلقا ماضيا وحاضرا ومستقبلا ب"لا" الّتي بها أبطل مبتدأ مثبتا متمكّنا من المخيال البشريّ ليهدم المنظومة السّجنيّة ويطوّح بمخزون  اصطلاحيّ معرفيّ. والفعل المنفيّ " تصنع" دلاليا يعني صنع الشيء أي تشكيله وتكييفه من موادّ أوّليّة لاستخدامه لغرض ما . "تصنع" عوض تبني أو تشيد لتأكيد النّيّة الإجراميّة بما ستصنعهايادي المجرم في أماكن مغلقة أو هي زنازين وعنابر ووسائل تعذيبية ظلمية قد تكون من صناعة موادّ حديدية أو كهربائية أو ناريّة. لأن الصّنع متعدّد الأساليب والمحتويات بقصد مضمر . ""تصنع" مضارع غير منقض في الزّمان اي انّ النّفي مستمرّ في المطلق  بل هو حكم باتّ يهوي بما ظنّه القارئ ثابتا "سجنا" والتنكير المحض مقصود احتقارا وتتفيهاوتقويضا لمفهوم متمكّن غارق في المآسي والمواجع  المتكرّرة منذ خلق الانسان" ليكون بعضه عدوّا لبعض"  ..
إذن فالعتبةالاولى في الرواية الغير عادية عنوان غير عادي أيضا.عنوان عليه اتّكا جسد النص المرهق الذي أثقل الذّاكرة الفردية للمؤلف كجزء لا يتجزأ من معاناة جماعية ثابتة صاحبته أو سبقته أو لحقت به. والسجن ورد في مقام مجرّد متمّم  مفعول به منصوب لا هو بالفاعل في الجملة الفعليّة الواقعة خبرا ولا بالعنصر الأساسيّ في الجملة الاسميّة المركّبة.  لكنّ الرّوائيّ سيستمدّ أحداثه الّتي ارتبطت بالسّجن ارتباطا مباشرا كمكان مغلق استثنائيّ فيه سالت الدماء وازهقت الأرواح وتعرت النساء  والسّجن سجون توزّعت على مناطق متقاربة متباعدة من أرض وطن مستباح شعبه معذّبة بعض طوائفه. والكاتب يجعل المكان فاعلا بمحتويّاته بقصدية مبيّتة  لأنها تعكس تجربة سجين في سجن بقضبان  لم يؤمن بها ولم تردع من كانوا خلفها عن النّضال والإصرار والثّبات على المبدإبنسفها نسفا طبيعيّا ارتبط بانبثاق نور الحقّ مثلما تثبته الصّورة على أعلى واجهة الغلاف "الاسود" هذا الحكم المبطل لفاعلية آثمة سالبة للحرّيّة دون وجه حقّ. حكم صار مصطفى كحكمة تعكس التّجارب الإنسانيّة الّتي خطّت حقائق ودلائل لو كنه  الإنسان وخاصّة الجبابرة والطّغاة مغزاها ما بنوا سجونا بقضبان لأنها لن تلجم صوت الحقّ ولن تحبط عزيمة من تساوى عنده الموت والحياة في سبيل معتقد يؤمن به ويدافع عنه دون أن يضرّ بالآخر ..هي ارتعاشة السّلطة يين المتشبّثين بكراسي الطّغيان ب"قضبان" عاجزة عن تأدية الوظيفة القمعيّة الكيديّة للاانسانيّة.
عنوان مركّب بكمّ من الأسى الذي تمخّضت عنه حكمة مستمرّة غير منقضية في الزّمن المطلق لتصبح مؤشّرا عكسيّا محبطا لكلّ الحركات القمعيّة الّتي تتفنّن في تشييد السّجون بقضبان لن تقدر على كبح جماح من هم على حقّ . لتصل إلى أنّ القضبان مهما غلظت واستطالت وتكثًفت وان سجنت الأجساد واخفتها عن العالم الخارجي فلن تكبح جماح الحقّ والتّوق إلى الحرّيّة والًتي يظلّ قمعها أمرا مستنكرا مضرّجا يهوي بالفواعلإلى الدّرك الأسفل وكأنّهم لم يسمعوا قول علي ابن ابي طالب رضي اللّه عنه " متى استعبدتم النّاس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارا ؟
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حبيبة المحرزي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2022/05/17



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في رواية (القضبان لا تصنع سجنًا)‎‎ - الجزء الثالث
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net