كَتب السيد منير الخباز؛ علاقة القرآن الكريم بشهر رمضان المبارك
بسم الله الرحمن الرحيم ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾.. صدق الله العلي العظيم
حديثنا من خلال الآية المباركة في نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: تعبير الآية المباركة بالإنزال.
المفسّرون التفتوا إلى أنَّ التعبيرات القرآنية أحيانًا تعبّر بلفظ الإنزال: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾، ﴿حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ﴾، ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾، وأحيانًا تعبّر بلفظ التنزيل: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا﴾، ﴿وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ﴾، إذن فهنالك تعبير بالإنزال والتنزيل، فما هو سر الفرق بين الإنزال والتنزيل بالنسبة للقرآن الكريم؟
القرآن الكريم مرَّ بمرحلتين: مرحلة الإحكام، ومرحلة التفصيل. القرآن الكريم مجموعة من القواعد العامة، مجموعة من الأصول العامة، سواء كانت أصولًا في مجال القانون، أو في مجال التربية، أو في مجال التأريخ، القرآن الكريم مجموعة من الأصول والقواعد والمبادئ، هذه المرحلة التي كان القرآن فيها مجموعة من الأصول والمبادئ عبّر عنها بمرحلة الإحكام، كتاب محكم، كتاب حكيم، الإحكام يعني أنه مجموعة من الأصول والقواعد.
تلتها مرحلة أخرى، وهي مرحلة التفصيل، تلك القواعد فصّلت إلى قصص تاريخية، فصلت إلى مناسبات، فصلت إلى مواعظ وإرشادات، فالقرآن خرج من المرحلة الأولى – وهي مرحلة الإحكام – إلى مرحلة التفصيل، تفصيل القواعد إلى قصص ومواعظ وإرشادات وأحكام جزئية، فالمرحلة الأولى – وهي مرحلة الإحكام – يعبر عنها بالإنزال، والمرحلة الثانية – وهي مرحلة التفصيل – يعبّر عنها بالتنزيل، وقد أشار القرآن الكريم إلى هاتين المرحلتين: ﴿كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ﴾، أولًا كان مجموعة من الأصول والقواعد، ثم دخل عليه التفصيل والتقطيع، وقال في آية أخرى: ﴿وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا﴾، كان مجموعًا ثم جعلناه قطعًا من القصص والمواعظ والإرشادات.
إذن، فالقرآن نزل مرتين: مرة بشكل محكم، نزل على قلب النبي في ليلة القدر في شهر رمضان المبارك، ومرة أخرى بشكل مفصّل، نزل على النبي بشكل مفصّل منذ السابع والعشرين من شهر رجب في السنة الأخرى، إلى مدة ثلاث وعشرين سنة، إلى أن قُبِضَ النبي .
النقطة الثانية: التأثير الروحي والعقلي للقرآن.
نلاحظ أن الآية المباركة عندما تعرضت لآثار القرآن قالت: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، فما هو الفرق بين التأثيرين؟ القرآن له تأثيران: تأثير روحي، وتأثير عقلي، تأثير يخاطب الروح، ويناغي الروح، وتأثير يخاطب العقل ويناغي العقل، التأثير الذي يخاطب الروح عبّر عنه بأنه هدى للناس، هذا تأثير يخاطب أرواح الناس، والتأثير الذي يخاطب العقل عبر عنه بأنه بينات من الهدى والفرقان، فما هو الفرق بين التأثيرين وبين النهجين؟
التأثير الأول: التأثير الروحي.
التأثير الذي يخاطب الأرواح، قراءة القرآن، التدبر في القرآن، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾، قراءة القرآن تفك الأقفال، قراءة القرآن ترفع الحجب، قراءة القرآن تجعل النفس المغلقة، النفس القاسية، النفس المتصلبة، تفتحها، تشرح صدرها، تفتح أعماقها ووجدانها، قراءة القرآن لها تأثير سحري على القلوب، تزرع الهداية، تزرع الاطمئنان، ﴿أَلَا بِذِكْرِ اللهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾، تزرع بذور التقوى، تزرع بذور الإقبال على الله والشوق إلى الله عز وجل، إذن قراءة القرآن لها تأثير روحي سحري، وهو زرع الهداية، وغرس التقوى، وشد الإنسان، وربطه بالله عز وجل.
وهذا ما أشارت إليه النصوص المختلفة، فمثلًا: الوليد بن المغيرة عندما سمع هذا القرآن قال: إن له لحلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإن إعلاه لمثمر، وإن أسفله لمغدق، وإنه يعلو ولا يعلى عليه. الجن يتحدث عنهم القرآن: ﴿قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا * يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾. إذن، التأثير الروحي للقرآن هو الذي تقصده الآية المباركة: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾، هذا عبّر عنه القرآن بأنه هدى للناس.
التأثير الثاني: التأثير العقلي.
التأثير العقلي الذي يخاطب العقل ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾، البينات هي الشواهد والدلائل، القرآن الكريم يقول: ﴿وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ﴾، ﴿أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ﴾، البينات هي الشواهد والدلائل، وهي لا تخاطب الروح، وإنما تخاطب العقل، البينات هي الدلائل والشواهد التي تخاطب العقل، ولكن كيف تخاطب العقل؟
هنا دقة في المطلب، علماء التربية يقولون: إذا أردت أن تصوغ بحثًا علميًا، أنت أمامك شخص تريد أن تقنعه بفكرة معينة، تريد أن توصل إليه فكرة معينة، إذا أردت أن تصوغ بحثًا معينًا للإقناع بفكرة ولإيصال فكرة معينة، لا بد أن تتخذ أسلوبين: الأسلوب الأول: أسلوب الاستدلال المباشر، تطرح له الفكرة، تطرح له البرهان والدليل عليها، والأسلوب الثاني: الاستدلال المقارن، وهنا نسمع بالفكر المقارن، وبالأصول المقارن، أي: تطرح حجة الطرف الآخر وتناقشها، قبل أن تطرح حجتك تقوم بطرح حجة الطرف الآخر وأدلة الطرف الآخر وتناقشها، أنت إذا جمعت بين الأسلوبين، أسلوب الاستدلال المباشر، وهو البرهنة على فكرتك ونظريتك، وأسلوب الاستدلال المقارن، وهو استعراض حجج الطرف الآخر ونقدها ونقضها، الجمع بين الأسلوبين يعمّق الفكرة، ويؤصّلها في ذهن الطرف المقابل.
القرآن الكريم أشار إلى هذين الأسلوبين: ﴿وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى﴾ استدلال مباشر ﴿وَالْفُرْقَانِ﴾ استدلال مقارن؛ لأن الفرقان هو ما يميز ويفرق بين الحق والباطل، فكلمة الفرقان تشير إلى أسلوب الاستدلال المقارن، طرح الحجة الأخرى ومناقشتها. مثلًا: القرآن الكريم تارة يتحدث عن السماء وعن الله بالشكل المباشر، بالاستدلال المباشر، فيقول: ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ * لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ * أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ﴾، هذا استدلال مباشر على خالقية الله ووحدانية الله تبارك وتعالى، القرآن الكريم مثلًا يقول: ﴿وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ * لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾، هذا استدلال مباشر على حكمة الله، على وحدانية الله، على خالقية الله، هذا نسميه بينات من الهدى، أي: شواهد ودلائل على الهدى.
نأتي إلى الفرقان، الاستدلال المقارن. يقول القرآن: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ﴾. القرآن الكريم مثلًا يقول عن المنافقين: ﴿وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ﴾ يعيبون على النبي أنه أذن، يسمع كل ما يقال إليه، يصغي إلى كل ما يقال إليه، ثم ينقض الحجة: ﴿قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾. القرآن الكريم يقول: ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾، إذا كان هذا افتراء فائتوا بعشر سور مفتريات! إذن، التعرض لكلام الآخر والنقض عليه يسمى بالفرقان. إذن، في القرآن نوعان من الاستدلال: الاستدلال المباشر هو بينات من الهدى، والاستدلال المقارن هو ما يعبّر عنه بالفرقان، وهذه من مميزات القرآن الكريم.
النقطة الثالثة: علاقة القرآن بشهر رمضان.
لماذا ربطت الآية المباركة نزول القرآن في شهر رمضان مع آثار القرآن؟ ما هو الربط؟ لو قال قائل: لماذا لم تكتف الآية بأن تقول: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ﴾ من دون أن تتعرض لآثار القرآن؟ ما هو الربط بين شهر رمضان وبين هذه الآثار: ﴿هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾؟ وبعبارة واضحة: لماذا أنزل القرآن في شهر رمضان ولم يُنْزَل في غيره من الشهور؟ ما هو الربط بين شهر رمضان وبين القرآن الكريم كي ينزل في هذا الشهر المعظّم المبارك؟ ما هو الربط بينهما؟
من أجل أن نعرف الجواب عن هذا السؤال، أذكر لك وجهين:
الوجه الأول: حاجة الفيض إلى المحل القابل.
علماء العرفان يقولون: الفيض يحتاج إلى المحل القابل، لا يمكن أن يفاض على الإنسان نوع من الفيض إلا إذا كان قابلًا مستعدًا متهيئًا لهذا الفيض، فمثلًا: العلم لا يمكن أن يقذفه الله في قلب أي شخص، بل العلم يقذف في قلب شخص ذكي نبيه نشيط، إفاضة علم تحتاج إلى محل قابل للعلم، مستعد للعلم، مهيئ لهذا العلم، ولذلك القرآن الكريم يؤكد على هذه النقطة، ﴿وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ﴾، ويقول في آية أخرى: ﴿قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ لا كل شخص، ويقول في آية أخرى: ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾. إذن، المسألة مسألة لب، أن يكون لب، وإذا كان له لب كان مستعدًا لإفاضة العلم، ولنيل العلم.
نفس الكلام في الهداية، الهداية لا تقذف في قلب أي شخص، الهداية تحتاج إلى محل مستعد لها، تحتاج إلى روح تتقبلها، تحتاج إلى نفس تظمأ لها، الهداية تختص بأناس تهيؤوا لها، ولذلك القرآن الكريم يقول: ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ﴾، هم ما أرادوا الهداية، الهداية ليست جبرًا، ﴿فَمَنْ يُرِدِ اللهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ﴾ يجعل له استعدادًا للهداية ﴿وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ﴾. إذن، إفاضة التقوى، إفاضة الهداية على قلب الإنسان تحتاج إلى المحل المستعد المتقبّل لهذا الفيض.
ولذلك، صار القرآن في شهر رمضان أقرب إلى الهدف من أي شهر آخر. الإنسان في شهر رمضان صائم، والصوم ليس عملية حسية يقوم بها الإنسان، بل واقع الصوم هو عملية روحية وليس عملية حسية، واقع الصوم هو الردع، الصوم يعني الردع، ردع الإنسان لشهواته، ردع الإنسان لغرائزه، ردع الإنسان لنوازعه، الشهوة تنزع إلى لذيذ الطعام والشراب فيردعها الإنسان، النفس الأمارة تميل إلى المعصية والفسوق فيردعها الإنسان، عملية ردع الإنسان للشهوات والغرائز هي التي يعبّر عنها بالصوم، الصوم عملية ردع، ولذلك الصوم تقوى عملية، تقوى تدريبية، ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، لعلكم تخوضون عملية التقوى بشكل تدريبي، بشكل عملي، خلال 29 يومًا أو ثلاثين يومًا، تخضعون لعملية التقوى بشكل تدريبي عملي، كما ورد عن أمير المؤمنين : ”وإنما هي نفسي أروضها بالتقوى“، التقوى العملية، التقوى الرياضية يمارسها الإنسان من خلال صوم شهر رمضان.
هذا الإنسان الصائم الذي يخوض عملية التقوى يوميًا بشكل تدريبي هو أقرب للقرآن من أي شخص آخر، الإنسان في هذا الشهر هو أقرب لعالم القرآن من أي شهر آخر، هو أقرب لأنفاس القرآن ولأجواء القرآن من أي شهر آخر، هذا الذي يخوض عملية التقوى إذا انفتح على كتاب الله قراءة وتدبرًا وتأملًا تفاعل مع هذا الكتاب، وصار لآيات الكتاب تأثير سريع على قلبه وعلى روحه وعلى صقل شخصيته، ﴿وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ﴾.
إذن، إنما أنزل القرآن في شهر رمضان لأن شهر رمضان شهر الصوم، وشهر الصوم يعني شهر التقوى العملية، والتقوى العملية عامل يهيئ الأرض، يهيئ النفس، يعد الروح لأن تتقبل القرآن، ولأن تتنفس بأنفاس القرآن، ولأن تعيش أجواء القرآن. لذلك، لا يصح من الإنسان أن ينفصل عن القرآن في هذا الشهر الذي هو شهر التزود بالقرآن الكريم.
الوجه الثاني: التأثير الروحي للقرآن.
الكثير من الكتاب يطرحون هذه المسألة، يقولون: لا يعقل تأثير القرآن في النفس، القرآن من مقولة الصوت، القرآن حروف، والحروف صوت، بينما النفس من مقولة الجوهر، كيف يؤثر الصوت على الجوهر؟! هذا شيء غير معقول، فمثلًا: لو قال لك إنسان: النار تولّد تفاحة، هل تصدق بعقلك؟! تقول: لا، النار تركيب كيميائي معين، التفاحة تركيب كيميائي آخر، كيف يؤثر أحدهما في الآخر؟! هذا غير معقول، الشيء الأجنبي لا يؤثر فيما هو أجنبي عنه، القرآن أصوات، والعقل جوهر، فكيف يؤثر الصوت القرآني في العقل، وكيف يؤثر الصوت القرآني في النفس؟! هذا أمر غير معقول.
هذه النظرية، وهذه المقالة، القرآن الكريم يرد عليها، يقول: معقول، القرآن وهو صوت وهو حروف يبث أثره تكوينًا على العقل وعلى النفس، سواء أحسست بذلك أم لم تشعر، لماذا؟ الإنسان مخلوق مادي، ولأنه مخلوق مادي فدائمًا إطار تفكيره إطار مادي، دائمًا الإنسان يعتقد أن المادة لا تؤثر فيها إلا المادة، الشيء المادي لا يؤثر ولا يتأثر إلا بما كان ماديًا مثله، وأما إذا لم يكن ماديًا مثله فلا يعقل أن يؤثر أو يتأثر به، القرآن الكريم يقول: هذه النظرية خاطئة.
كل شيء – حتى الماديات، وحتى الحجر – له ظاهر وله باطن، ظاهر مادي يسمى عالم الملك ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ﴾، وباطن غيبي، حتى الحجر له باطن غيبي، والباطن الغيبي هو عالم الملكوت المتصل بالله عز وجل، فمثلًا: اقرأ قوله تعالى: ﴿وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ﴾، كل شيء له نطق، نحن لا نرى نطقه؛ لأننا نرى الظاهر المادي ولا نرى الباطن الملكوتي، فلا ندرك النطق، القرآن الكريم يشير إلى هذا، ليس هذا شيئًا نعرضه نحن، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ﴾، أنتم تقرؤون الظواهر المادية، تقرؤون الظواهر الملكية، وتغفلون عن البواطن الملكوتية.
إذن، حتى الحجر الأصم له باطن ملكوتي، له نطق، له تسبيح، أنت لا تفقهه، فهو بظاهره الملكي يتأثر بالماديات، وبباطنه الملكوتي يتأثر بالمجردات، كل شيء من خلال ظاهره ومن خلال ملكيته يتأثر بالماديات فقط، ولكن من خلال باطنه، من خلال عالمه الملكوتي يتأثر بالأمور الروحية، ويتأثر بالأمور التجريدية. إذن، لا تتصور أن هذه الأصوات القرآنية هي مجرد أصوات! هو أصوات بظاهرها الملكي، ولكنها نفحات بباطنها الملكوتي، القرآن بظاهره مجرد كلام، ولكنه بباطنه أنوار ونفحات تنبث إلى قلب الإنسان، وتنغرس في روح الإنسان، وتنزرع في داخل الإنسان، فالقرآن له جانبان: بجانبه الملكوتي يؤثر في روح الإنسان، ويؤثر في قلب الإنسان.
ولذلك، القرآن الكريم يقول: ﴿وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾، كيف يكون شفاء وهو أصوات؟! أنت تأتي إلى شخص مريض مصاب بمرض عدوي في جهازه الهضمي أو في دماغه، تقول له: صر إنسانًا جيدًا، فيصبح كذلك؟! لا، كيف يؤثر الصوت في شفاء مرض عضوي؟! إذا قصرت النظر على العالم المادي فسوف ترى أن التأثير غير معقول، وأما إذا انطلقت إلى ما هو أعمق مما وراء المادة فسوف ترى أن تأثير القرآن بباطنه الباطني في شفاء المريض أمر معقول.
وهناك آية أعظم من هذه الآية، وهي: ﴿لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللهِ﴾، الإنسان إذا قرأ هذه الآية ماذا يقول؟ هل القرآن يبالغ؟! القرآن يتحدث عن أمور مجازية؟! لا، يتكلم عن حقيقة، هذا الجبل الأصم، هذه الصخرة الصماء لها باطن ملكوتي أنت لا تفقهها، تأثير الروحي يلتقي بباطنها الملكوتي.
إذن، للقرآن تأثير على أرواحنا، على قلوبنا، على عقولنا، ومن المراسم المعروفة في بلادنا، من المراسم الطيّبة الخيّرة: إشاعة القرآن في شهر رمضان، المجالس الكثيرة، مساجد وحسينيات وبيوت، كلها ترفع صوت القرآن ونداء القرآن في شهر رمضان المبارك، هذه المراسم مراسم عظيمة جدًا، حبذا لو نشيعها في بيوتنا أيضًا، كما أذهب إلى المسجد أو الحسينية لأستمع القرآن، كذلك أيضًا في بيتي ومع أطفالي أقرأ القرآن، أي مانع يمنعني من أجلس في بيتي ثلث أو نصف ساعة في اليوم لأقرأ القرآن بصوت مرتفع لأشيع صوت القرآن في منزلي؟! إذا أشعت صوت القرآن في منزلي يؤثر على قلوب أطفالي، يؤثر على قلوب عائلتي، يربطهم بالأجواء الروحية، يربطهم بالعالم القرآني، يربطهم بالسماء، يربطهم بالله عز وجل.
إذن، علينا أن نؤكد هذه المستحبات، وأن نشيعها، وأن نروّجها، إشاعة القرآن، إشاعة صوت القرآن، إشاعة نداء القرآن، في بيوتنا، في غرفنا، مع أطفالنا، مع عوائلنا، حتى تبقى العلاقة مع القرآن، يبقى الالتحام مع القرآن، نبقى في شهر القرآن مع القرآن لسانًا وفمًا وقلبًا وعقلًا وجنانًا وتفاعلًا وتعاطفًا، وأن نكون من المتدبرين في القرآن، ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾.
ورد في الحديث عن النبي محمد : ”درجات الجنة بعدد آيات القرآن، فكلما قرأ الإنسان آية رقى درجة“، ”من قرأ عشر آيات لم يكتب من الغافلين، ومن قرأ عشرين آية كتب من الذاكرين، ومن قرأ ثلاثين آية كتب من الخاشعين، ومن قرأ أربعين آية كتب من القانتين، ومن قرأ خمسين آية كتب من المسبّحين“، اقرؤوا القرآن، والتحموا بالقرآن، وأشيعوا صوت القرآن، ونداء القرآن، في شهر القرآن.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat