صفحة الكاتب : طالب عباس الظاهر

نظرات في القصة القصيرة ... 5
طالب عباس الظاهر

القصة القصيرة هي لحظة من لحظات التوهج الإبداعي في القلب والعقل معاً، ودالة على التنظيم المعجز فيهما داخل الذات الإنسانية، أي ذات القاص المبدع، رغم فوضى المؤثرات/ الملّدات الإبداعية على المستوى الخارجي، فما يشغل القلب، لابد وأن ينعكس على توجهات العقل، ويؤثر في قراراته اللاواعية ويصوغها حسب صبغته السائدة فرحاً كان أم حزناً، أم تقلباً ما بينهما .. بل هي ومضة من ومضات التجلي في فضاءات الأدب، وفلتة من فلتات الشعور الممنهج بالفكر، باتجاهات فضاء الكمال المادي المستحيل على البشر كونهم محكومون بمجموعة من الرغائب والغرائز، والمستحكمة في أفعالهم وردودها مثل تلك الميول الأرضية، والاستعاضة عنه بالحسّي الممكن، وسبر مديات اللانهاية .. العائمة في سديم المجهول، للتأسيس لآتي المعرفة، عن طريق فتح آفاق جديدة في الشعور، وتدشين عذراء المعابر، وبكر الطرائق الشعورية، التي لم تطأها من قبل شاردات الخواطر، ولم تفضها بعد فحولة الإدراك، من أجل لملمة شتات أفكار التائهين في وهاد الغفلة والتيه، والملفعة نزعاتهم بجلابيب الأنانية، وشهوة الدم، من أجل ترويض وحشية الاستئثار .. المتأصلة في تراب ذواتهم السفلية، وبالتالي الاغناء لخزين التجربة الإنسانية .. برفدها بالجديد من تراكمات الخبرة الحياتية، اللازمة لمواكبة تطور الحياة بالاتجاهات الصاعدة، عبر توغلها في الأكوان الداخلية التي أبدعها الله ـ سبحانه وتعالى ـ في مخلوقاته، وأتمها في خليفته الإنسان .. لخلق المعادل الموضوعي لعظمة تكوينه لهذا الوجود.
ولئن تكللت بالنجاح بعض خطوات العلم بغزو الفضاء، والنفاذ نحو الكون الخارجي بسلطان المعرفة، فوطئت أقدام البشر سطح القمر، وبعض الكواكب الأخرى، إلا إنها ستظلّ عاجزة عن اختراق الكون الداخلي للإنسان .. بل ستظل تحبو أبداً عند تخوم ضحضاحه .. وقد جاء في الحديث الشريف: (من عرف نفسه فقد عرف ربه)، وعن أمير البلاغة والبيان قوله بهذا الاتجاه:
دواؤك فيك وما تشعر*********** وداؤك منك وما تبصر
وتحسب إنك جرم صغير******* وفيك انطوى العالم الأكبر
وكذلك قال الحكماء قديماً:(اعرف نفسك).
فالقصة بهذا المعنى؛ محاولة لفهم مكنونات الذوات، وكشف النقاب عن أسرار الخلق في نفس هذا المخلوق العجيب الغريب، أجل، هذا الجرم العظيم القابع في الأعماق، الذي يدعى (الإنسان)، من خلال محاولة عرض ردود أفعاله اتجاه المؤثرات لتفسيرها، وحقيقة صراعه مع أخيه الإنسان، أو مع الموجودات الأخرى، وأزلية تصارع الخير والشر في نفسه، ومثلما أعتقد قدماء العرب بوجود شيطان للشعر؛ أي لحظة للإبداع الأدبي، تراود الشاعر العربي في لحظة بقت غير محسوبة، وغير مفهومة؛ فالقصة أيضا لها مثل تلك اللحظة، وإن اتخذت سبيل ليس بمعلن ضمن هذا الإطار، وقد أسهبوا قديماً في الوصف، وصوروا الأمر وكأنه هبوط لوحي الشعر أو الإلهام الإبداعي من السماء، بينما نحسبه ليس إلا توهجاً من الذات المبدعة، نحو سمو الحياة مع عنف التجربة.
إذ إن القصة ما هي في حقيقتها، إلا استكناه لما يعتمل ويمور في دهاليز العقل الباطن، وإفصاح بليغ عن تراكمات انكساراتنا الخرساء، بدرجة لعلها أرفع من درجة الوعي ذاته، وقد سمي خطأً بـ(اللاوعي)، واختراق الحجب، وارتياد جنة التخليق المحرّمة، إلا على النابهين فقط ـ أحياناً ـ للخروج من منطقة الوعي المألوفة، صعودا باتجاه الأعلى منها، فبينما الوعي ربما يكون بالإمكان تهيئة أسبابه أنى شاء الكاتب دونما مشقة، وحسب الظروف الشخصية بطقوس الكتابة، ولكن وبذات الوقت سيكون من الصعب تجاوز منطقته نحو المنطقة التالية الأعلى منه، إلا نادراً في لحظات بزوغ الإبداع الحقيقي، وهو ما يمكن أن ننسب إليه لتلك النوعية من ردود الفعل العميقة في الإنسان، والتأدية للنشاطات اللاإرادية، ولا يمكن عزوه إلى اللاوعي المزعوم، فثمة سؤال يتبادر إلى الذهن هنا:
يا ترى هل إن هذا اللاوعي الذي يسندوا إليه فعل الإبداع الأدبي، بقادر على تحريك يد الكاتب لتسطير جملة مفيدة واحدة، فضلا عن قصيدة أو قصة مكتملة العناصر، من دون اللجوء إلى الوعي ذاته في ذلك؟!
وبصيغة أخرى: أبالوعي ذاته يرتفع الوعي؟ أم كيف يمكن تصور اللاوعي يقود الوعي؟! وأي وعي ذاك الذي يقوده اللاوعي..!!
فالقصة القصيرة إذن، ببنائها المحكم، ورؤاها العالية، وصدق الحياة في عروقها، ودقة الإدارة لمفرداتها الفنية؛ لابد وأن تكون وليدة معطيات راقية، ليس الفكر والعاطفة وحدهما الأبوين الشرعيين لها،كي تنتمي لأسرة الإبداع، ما لم تنضم إليهما، وتكمن خلفهما ـ وهذا الأهم ـ توهجات الموهبة.

taleb1900t@yahoo.com
 
 
 
 
     
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


طالب عباس الظاهر
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/26



كتابة تعليق لموضوع : نظرات في القصة القصيرة ... 5
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net