صفحة الكاتب : الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

لَوْ وُلِّينَا.. لَعَدَلنَا !
الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بسم الله الرحمن الرحيم

لَوْ وُلِّينَا لَعَدَلْنَا !

كَلِمةٌ بَل فِكرةٌ تُراوِدُ النّاس بأصنافهم المختلفة، حيث يَخَالُ العالِمُ أن لو قُدِّرَ لَهُ حُكمُ بلاد المسلمين لَبَسَطَ العَدلَ كما أراد الله تعالى !

ومِثلُه العابد.. والوَرِع.. والتقيّ..

وكذا العاملُ الكادِحُ الفقير.. يرى أنّه لو ثُنيَت له الوسادة لأحسَّ بأَلَمِ الفقراء وأنصَفَهُم..
ويرى الغنيُّ أنَّ غِناهُ يؤهله للاستغناء عمّا في أيدي الناس، فلو أتيحت له الفرصة لكان أعدَلَ مَن عليها..

وهكذا لا تبقى فئةٌ من الناس إلا وهي تُمَنِّي النَّفس بالحُكم تمهيداً للعدالة.. هذا فيمن يُنشدُ العدلَ ولا يطلُبُ السُّلطان رغبةً وطمعاً.

ولكن..
لله الحجة البالغة..

فالله تعالى، العالمُ بالسرائر، الذي لا تخفى عليه النجوى، هيَّأ كلَّ أسباب إتمام الحجة على العباد إلى يوم القيامة، فعن الصادق عليه السلام:
مَا يَكُونُ هَذَا الْأَمْرُ حَتَّى لَا يَبْقَى صِنْفٌ مِنَ النَّاسِ إِلَّا وَ قَدْ وُلُّوا عَلَى النَّاسِ، حَتَّى لَا يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّا لَوْ وُلِّينَا لَعَدَلْنَا !

ثُمَّ يَقُومُ الْقَائِمُ بِالْحَقِّ وَالْعَدْلِ (الغيبة للنعماني ص274).

ستُتاح الفرصة إذاً أمام كلِّ أصناف البشر للولاية، وذلك قبل ظهور الإمام العادل !

سيكتشفُ كلُّ الخلق عجزَهم عمّا يقدرُ عليه الإمام، وضعفَهم كلٌّ مِن جهةٍ أو جهات، حين تتاح لهم الفرصة المنشودة يوماً، فلا يقدرون على إحقاق الحقّ ورفع راية العدل !

ليس هذا الأمرُ مختصاً بمن لم يؤمن بالنبي صلى الله عليه وآله، ولا بمن لم يؤمن بالوصي أمير المؤمنين عليه السلام.
فجميع البشر، سواءٌ في أيامنا أو فيما تقدَّمَ عنها أو يأتي، كلُّهم سواسيةٌ كأسنان المشط في ذلك.

ولا يُعدَمُ الباحثُ نماذجَ ذلك منذ أيام الإسلام الأولى وحتى أيامنا هذه..

ومن نماذج ذلك ما جرى بين بعض المسلمين مع رسول الله صلى الله عليه وآله، وبعض الشيعة مع أمير المؤمنين عليه السلام.

النموذج الأول: الإكراه على الإسلام !

روى الشيخ الصدوق رحمه الله عن أمير المؤمنين عليه السلام أنَّ المسلمين قالوا لرسول الله (ص):

لَوْ أَكْرَهْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ قَدَرْتَ عَلَيْهِ مِنَ النَّاسِ عَلَى الْإِسْلَامِ لَكَثُرَ عَدَدُنَا ! وَقَوِينَا عَلَى عَدُوِّنَا !

هؤلاء المسلمون يشيرون على النبيِّ صلى الله عليه وآله باستعمال القوّة، لا للدفاع عنهم وعن المقهورين في الأرض، بل لإكراه غير المسلمين على الإسلام !
يرى هؤلاء أن انتسابهم للدين الحقِّ يخوِّلهم التسلُّط على عباد الله! وفرض دين الله تعالى بالقوة !
قوة السيف كانت أو قوة الاقتصاد أو أيَّ سبيلٍ من سُبُل الإكراه..

ثم يقترحون ذلك على النبيِّ صلى الله عليه وآله.

لكنَّ رسول الله (ص) يجيبهم: مَا كُنْتُ لِأَلْقَى اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ بِبِدْعَةٍ لَمْ يُحْدِثْ إِلَيَّ فِيهَا شَيْئاً !

فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: يَا مُحَمَّدُ: (وَلَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً) عَلَى سَبِيلِ الْإِلْجَاءِ وَالِاضْطِرَارِ فِي الدُّنْيَا، كَمَا يُؤْمِنُونَ عِنْدَ الْمُعَايَنَةِ وَرُؤْيَةِ الْبَأْسِ فِي الْآخِرَةِ.

وَلَوْ فَعَلْتُ ذَلِكَ بِهِمْ لَمْ يَسْتَحِقُّوا مِنِّي ثَوَاباً وَلَا مَدْحاً.
لَكِنِّي أُرِيدُ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْمِنُوا مُخْتَارِينَ غَيْرَ مُضْطَرِّينَ لِيَسْتَحِقُّوا مِنِّيَ الزُّلْفَى وَالْكَرَامَةَ وَدَوَامَ الْخُلُودِ فِي جَنَّةِ الْخُلْدِ (أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ) (التوحيد للصدوق ص342).

ليس دينُ الله دينَ إكراهٍ وجَبرٍ كما تصوَّرَ هؤلاء، وسارَ على نهجهم كثيرٌ من المسلمين إلى اليوم.
لقد انتظم آلافُ المسلمين في تيّاراتٍ وأحزابٍ وأنظمةٍ صُبِغَت باسم الإسلام، وأرادت إكراه المسلمين على منهجها وسبيلها، رغم انحرافه، والرَّسول قد امتنع عن إكراه الناس ! لئلا يلقى الله ببدعة !

لكنَّ هؤلاء سيلقون ربَّهم ببدعةٍ أحدثوها خالفوا فيها أمرَ الله عزَّ وجل، وقد ورد في الحديث: كُلُّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وَكُلُّ ضَلَالَةٍ سَبِيلُهَا إِلَى النَّار ! (المحاسن ج1 ص207)

وهذا من أوضح النماذج لما أراده هؤلاء قبل أن يتولوا نظام الحكم.. ولِما فعلوه بعد أن حان دورُهم ليتولوا أمور الخلق، فشاهدت الأمم ما يندى له جبين الإنسانية باسم الاسلام، ولا يزال الأمر يتكرر إلى يومنا هذا !

النموذج الثاني: طَلَبُ النَّصرِ بالظُّلم والجور !

ليس الجَورُ والظلم عند الحُكم مِن خصائص المخالفين، فإنَّ غير المعصوم مُعَرَّضٌ للسقطات ولو كان شيعياً !

فقد روي أنّ رهطاً من الشيعة أتوا أميرَ المؤمنين عليه السلام فقالوا:

يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، لَوْ أَخْرَجْتَ هَذِهِ الْأَمْوَالَ فَفَرَّقْتَهَا فِي هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ وَالْأَشْرَافِ، وَفَضَّلْتَهُمْ عَلَيْنَا، حَتَّى إِذَا اسْتَوْسَقَتِ الْأُمُورُ عُدْتَ إِلَى أَفْضَلِ مَا عَوَّدَكَ اللَّهُ مِنَ الْقَسْمِ بِالسَّوِيَّةِ، وَالْعَدْلِ فِي الرَّعِيَّةِ !

يُريدُ هؤلاء أن يستقيم أمرُ أمير المؤمنين عليه السلام بأيِّ ثَمَن، يرون أن الإمامة والخلافة هي عزُّ الإسلام والمسلمين، فلا بدَّ من الحفاظ عليها، ولو أدى ذلك للتضحية بشيء من حقوقهم وحقوق إخوانهم..

فطلبوا من أمير المؤمنين عليه السلام أن يُفضِّلَ غيرهم عليهم ! ولو بشكلٍ مؤقت حتى تستتبَّ الأمور، فيعود إلى سابق عهده.

ليس هؤلاء من أهل الطمع ولا الغايات المُغرِضَة !

ولعلَّ كثيراً من الشيعة اليوم يتَّبعون هذا المنهج، حيث يُغَيِّرون ويُبَدِّلون في سبيل الحفاظ على ما يرونه حقاً، سيّما من تعاطى منهم بالشأن العام، وأراد أن يأخذ بيد الأمة إلى سبيل الرشاد والصلاح.

لكنَّ جواب أمير المؤمنين عليه السلام كان مفاجئاً لهؤلاء حين قال:

أَ تَأْمُرُونِّي وَيْحَكُمْ أَنْ أَطْلُبَ النَّصْرَ بِالظُّلْمِ وَالْجَوْرِ فِيمَنْ وُلِّيتُ عَلَيْهِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ؟!

لَا وَاللَّهِ لَا يَكُونُ ذَلِكَ مَا سَمَرَ السَّمِير (اختلف الليل والنهار) وَمَا رَأَيْتُ فِي السَّمَاءِ نَجْماً !

وَاللَّهِ لَوْ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ مَالِي لَسَاوَيْتُ بَيْنَهُمْ فَكَيْفَ وَإِنَّمَا هِيَ أَمْوَالُهُمْ ! (الكافي ج4 ص32).

أميرُ المؤمنين يرى في اقتراح هؤلاء (ظلماً وجوراً)، وإمامُ الحقِّ لا ينتصرُ بالظلم والجور !

إمامُ العدل يطيعُ أمرَ الله في كلِّ صغيرةٍ وكبيرة، فَرَبُّ الصغيرة رَبُّ الكبيرة، وليس من العدل والإنصاف الإجحاف بأيِّ مخلوقٍ وظلمه في سبيل هدفٍ سامٍ، فالهدفُ الشريف يحتاجُ سبيلاً وطريقاً تُناسبه.

ولا يزال فِكرُ من جاء للنبي (ص) وللوصي (ع) مبثوثاً عند كثيرٍ من المسلمين، سنَّةً وشيعة، حيث يرون لزوم الحفاظ على نفوذهم أو قوَّتهم أو رفعتهم أمراَ ضرورياً لا يصح التفريط فيه ! ولو أدى لظلم الآخرين !

فيعمدون إلى تكميم الأفواه وفرض الآراء على من يخالفهم، حتى لو أدى ذلك إلى القتل والإرهاب الفكري والجسدي ! وهم يرون أنهم بهذا ينصرون دين الله !

لكنَّ محمداً وعلياً عليهما السلام بريئان من ذلك، كما برئ منه الله تعالى.

وكما لم يكن معاوية أدهى من عليٍّ عليه السلام، فليس هؤلاء أدهى ولا أقدر من أهل الحق المنصفين.. لكنَّ أهل التقوى يحجزهم الورعُ والخوف من الله تعالى.

لن تبقى فئةٌ من الناس إلا حكمت، ولن تتمكن بعد ذلك فئة من أن تقول: لَوْ وُلِّينَا لَعَدَلْنَا !
فالعدلُ محصورٌ بالحجة بن الحسن عليه السلام..

ومَن سعى اليوم إلى إلجاء الناس وإكراههم ليتبعوه، كان كهؤلاء المسلمين الأوائل مع رسول الله صلى الله عليه وآله.

أما من سعى إلى طلب النَّصر بالظلم والجور.. كان كبعض الشيعة الأوائل مع أمير المؤمنين عليه السلام..

وقد أخطأ هؤلاء وهؤلاء.. ولا يزال الخطأ يرافقُ أقواماً.. جيلاً بعد جيل..

نسأل الله تعالى أن يعصمنا من ذلك، ويأخذ بيدنا لتستقيم أمورنا، وأن يعجِّل فرج ولينا، ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً بعدما ملئت ظلماً وجوراً.

والحمد لله رب العالمين


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد مصطفى مصري العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/11/10



كتابة تعليق لموضوع : لَوْ وُلِّينَا.. لَعَدَلنَا !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net