صفحة الكاتب : د . عبد الحسين العنبكي

البنك المركزي العراقي.. جزيرة منعزلة
د . عبد الحسين العنبكي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

في عهد الطاغية فقد البنك المركزي العراقي كامل سلطته النقدية وصار العوبة بيد الحكومة بحيث لم يعد يعرف كم هو عرض النقد وقد وجد النظام الدكتاتوري ضالته في الاصدار النقدي المفرط لانه يؤدي الى هيمنة الحكومة على ثروات المجتمع حيث كل دينار يطبع يأخذ قيمته من الدنانير الموجودة في جيوب الناس أصلاً - في ظل تراجع حاد للنقد الأجنبي نتيجة الحصار-  فتنخفض قوتها الشرائية واستمر يسرق القوى الشرائية الى ان جعل معظم العراقيين يعيشون في فقر مدقع وصار الاقتصاد العراقي كالرجل المريض يرقد في المستشفى يسقى الدواء ويعطى الغذاء ، وكان ذلك سبباً حتمياً لتشوهات هيكلية اكبر جعلت التضخم يتزامن مع البطالة ( التضخم الركودي ) ووضع الاقتصاد في عنق الزجاجة ، فضلاً عن إن ارتفاع كلف الإنتاج يقلل الكفاءة الحدية لرأس المال ، وإذا كانت صدمة العرض الكلي مرتبطة بارتفاع أسعار المواد الأولية للإنتاج المحلي فيتحول منحنى العرض الكلي  إلى اليسار مع ارتفاع كلفة إنتاج الوحدة الواحدة من الإنتاج ، وعندما يكون المكون الاستيرادي كبير من المواد الأولية والسلع الاستثمارية سيكون ذلك سبباً في اتساع فجودة النقد الأجنبي ينعكس في معدلات تضخم اكبر فتزداد كلفة استيراد المدخلات للعملية الإنتاجية فتحصل صدمة في العرض ناهيك عن الاستيرادات الاستهلاكية المتعاظمة وما نجم عنها من اقتصاد ريعي راكد يحتاج الى تنمية حقيقية بدفعات كبيرة من اجل اعادة التوازن ، لقد استمر الاداء للسياسة النقدية بطريقة خاطئة بعد تغيير النظام ولكن هذه المرة عندما صار كمن يعرف الحرية على انها انفلات وتمرد فقد عرف الاستقلالية كما لو انه يعمل لوحده بعيدا عن محيطه الذي يعنيه بوصفه بنك الحكومة ومستشارها ويتولى ادارة دينها العام وبنك البنوك والمعني بواحدة من اهم السياسات الاقتصادية الكلية التي يفترض ان تكون متناسقة ومتكاملة مع بعضها.
وبعد مرور ثمان سنوات على النظام الجديد ، وبعد ان تخلصنا من الجزء الأكبر من المديونية وبالتبعية يفترض تخلصنا من ضغوط وتحكم صندوق النقد الدولي الذي وضع وصفت إصلاح وتحفظ كان البنك المركزي أكثر غلوا في التمسك بها مما يطلب الصندوق ، وقد سجلت في كتابات سابقة وهنا أسجل مآخذ على السياسة النقدية في السنوات الماضية والى اليوم كما في الأتي :
1.    يعتقد البنك المركزي خطأ ان الاستقرار الاقتصادي هو عدم وجود ضغوط تضخمية (فقط) ولم يلتفت او يذكر في أدبياته الضغوط الانكماشية (البطالة ) مطلقا في حين ان كلاهما سبب في حصول عدم الاستقرار ، ولذلك كان يمارس سياسة متحفظة جدا ويتصور انه يسطر على التضخم في حين ان التضخم في العراق ليس فقط نقدي وإنما هيكلي ناجم عن ارتفاع كلف الإنتاج وكلف المعيشة بسبب تهتك البنى التحتية وتخلي الحكومة عن مسؤولياتها في تقديم الخدمات العامة.
2.    يعتقد البنك المركزي خطأ ان متانة الاقتصاد وقوته هي متغير تابع لمستوى سعر الصرف للدينار، فيرفع الدينار بعكاز ويجعله يأخذ سعر وهمي غير حقيقي خلاف قوى العرض والطلب ويتسبب بالنتيجة في تعزيز ظاهرة الاقتصاد الريعي لأنه يجعل السلع المستوردة ارخص وكأنما يمارس دعم للمنتج الأجنبي على حساب المحلي واستمرار طرد المنتجات العراقية من السوق وتحويله الى (الاقتصاد النائم )، في حين ان سعر الصرف هو متغير تابع لقوة الاقتصاد كما لو ان الاقتصاد يرى نفسه في المرآة فمن غير المعقول ان يكون الاقتصاد بشع ومشوه بينما صورته جميلة وناصعة وقوية .
3.    يعتقد البنك المركزي خطأ ان الاستقرار في الأمد القريب يمكن ان يفضي الى تنمية ، وهذا ممكن في بلد مكتمل المؤسسات والبنى والقاعدة الإنتاجية ويحتاج الى نمو وليس تنمية اما بلد كالعراق تنقصه  تنمية كبيرة بفجوة تمتد الى أربعين سنة كان فيها إجمالي تكوين راس المال الثابت اقل من معدل الاندثار وتتآكل قواه الإنتاجية لا يصح ذلك مطلقا ، لان الاستقرار عند مستوى متخلف جدا هو( استقرار مكبوت ) يمكن ان يصمد بعض الوقت في أنظمة دكتاتورية اشتراكية إلا انه لا يستمر مطلقا في أنظمة حرة ، والصحيح ان إحداث تنمية كبيرة تشبع حاجات الناس وتبني القاعدة الإنتاجية هو الكفيل بتحقيق الاستقرار فيما بعد وليس العكس.
4.    يعتقد البنك المركزي خطأ ان استقلاليته تعني ان يكون (جزيرة منعزلة ) عن الحكومة في كل قراراته الأمر الذي انعكس في تقطيع قنوات التنسيق بين منظومة السياسات الاقتصادية الكلية ، وبما ان الدستور في المادة (110ثالثا ) جعل من الاختصاصات الحصرية للسلطة الاتحادية ممثلة بالحكومة المركزية ( رسم السياسة المالية ، والكمركية وإصدار العملة  ،وتنظيم السياسة التجارية عبر حدود الأقاليم والمحافظات في العراق، ووضع الميزانية العامة للدولة ، ورسم السياسة النقدية وإنشاء البنك المركزي وأدارته)، والأدبيات الاقتصادية هي الأخرى تشير إلى ان البنك المركزي هو بنك الحكومة ومستشارها وهو الذي يدير الدين العام ويسوقه نيابة عنها ، فيما يراكم البنك المركزي احتياطي كبير يتباهى به كون السياسات التنفيذية غير قادرة على تنفيذ التخصيصات وترجمتها إلى مشاريع حقيقية ويمارس عسر مالي يزيد من التحديات ولا يوفر المرونة في إتاحة التمويل في الزمان والمكان والنشاط ويثقل استثمارات القطاع الخاص بتعقيدات وتحفظ كبير دون انب لتفت لا من قريب ولا بعيد إلى موضوع احتياج البلد إلى التنمية.
5.    يعتقد البنك المركزي واهما ان سياسته النقدية ناجعة وناجحة بدليل أنها تنعكس مباشرة على الجمهور في الأمد القصير وتؤثر في حركة الاقتصاد ، والحقيقة ان ذلك متأتي من عدم نجاعة السياسات التنفيذية في القطاع الحقيقي التي ان ظهر أثرها فهو يظهر في الأمد الطويل بينما السياسة النقدية في القطاع النقدي يظهر أثرها أنيا ، فهو بوصفه المحتكر الأكبر والوحيد للنقد الأجنبي المتأتي من إيرادات النفط يستطيع التحكم كأي محتكر في السوق حيث يؤثر في سعر الصرف من خلال (مزاد العملة ) ، وبما إن (الاقتصاد نائم ) يبيع النفط ويستورد كل احتياجاته فقد أصبحت السياسة النقدية تشبه الى حد كبير (الرجل البخيل ) الذي يسكن أولاده في دار خربة لا تتوفر فيها ابسط ظروف العيش و23% منهم في فقر ويعيشون في عتمة انقطاع الكهرباء وسوء الخدمات وفي حي فقير شوارعه بائسة وحدائقه ميتة وأرضه متصحرة وحرفه وصناعته متوقفة وبالية وهو يراكم مليارات الدولارات في خزائنه ، وبين الحين والأخر يمارس سياسته النقدية الحكيمة والوحيدة العاملة من بين السياسات الأخرى يفتح الخزانة ليوزع الدولارات التي تحول الى الخارج مباشرة ليشتروا فيها قوت يومهم  (الاستيرادات ) وهكذا بلغ احتياطي الرجل البخيل في الشهر الأول من 2012 قرابة (65) مليار دولار وبلغت استيرادات أبنائه الجياع النيام (50) مليار دولار في السنة 2011 وهو لا زال يمعن في (تنويم الاقتصاد) بدل تنويعه ليرفع سعر صرف الدينار مقابل الدولار (4 مراتب جديدة ) لتبدو السلع المستوردة ارخص لأبنائه الجياع وليستسلموا للنوم أكثر فأكثر ، والمشكلة يسمي البعض ذلك بالسياسة النقدية الناجحة .
 ترى لمصلحة من يجب ان ينام الاقتصاد العراقي على وسادة النفط المريحة ، أليست هذه الوسادة نقمة وليست نعمة ، أليس هذا الأسلوب في التصرف بالايرادات النفطية هو الأسوأ لثروة نفطية ناضبة ولقطاعات إنتاجية تتراجع أكثر .
         وأخيرا قرر الرجل البخيل اعتماد سياسة نقدية حكيمة ووجد ان شكل الدينار لم يعد يعجبه ، ليس شكل الاقتصاد وإنما شكل الدينار، ليس تجميل وتطوير الاقتصاد ليبدو في المرآة او في الصورة (العملة) جميلا وإنما الإبقاء على الاقتصاد مشوها والتركيز كل التركيز على تحسين الصورة (بالفوتوشوب) فقرر رفع الاصفار من الدينار وتغير تصميمه لينسجم والمرحلة ، ولنضحك على أنفسنا وليس على العالم ونقول ان اقتصادنا هو الذي تطور وتجمل ،كيف لا ، اذا كان الائتمان المصرفي للقطاع الخاص وبالتبعية في تمويل التنمية يساهم فقط بنسبة (9%) من الناتج المحلي الإجمالي في العراق بينما أكثر من 48% في السعودية و70 % في الأردن و 82% في الكويت كما يتضح من الشكل ادناه، وعلينا ان نقدر كم هو تخلف الجهاز المصرفي العراقي ، وكيف ولماذا ؟ يحتل حذف الاصفار أولوية قصوى مقارنة بتطوير القدرات الأقراضية والائتمانية في العراق.
بمقارنة بسيطة قامت المصارف الاهلية برؤوس اموالها المحدودة بايجاد محفظة أئتمانية لاقراض المشاريع الصغيرة  واسست شركة مساهمة خاصة للكفالات المصرفية تتولى ضمان 75% من القروض المقدمة فعززت بذلك قدرة المصارف على التوسع في الاقراض وقللت المخاطر وقد قامت باقراض المشاريع بمبلغ 14.4 مليار دينار ساهمت في خلق 15490 فرصة عمل للفترة من 2006-2011  ، فما بالك لو سعى البنك المركزي في التنازل عن (مليار دولار ) من الاحتياطي واقرض المصارف الأهلية ووضع لوائح وأولويات قطاعية للاقراض وبفائدة لا تتعدى الكلف الادارية لكان العراق اليوم خالي من البطالة ولزدادت الدخول الموزعة لعناصر الانتاج وتحسن مستوى معيشة الناس.


  الإقراض المصرفي للقطاع الخاص (2010) كنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي
 

لم يحصل في ظل السياسة النقدية الحالية التي تفتقد لمنطق التعاطي مع اقتصاد السوق ودعم القطاع الخاص والتي يفترض ان تمارس اقصى درجات (الانضباط الوقائي ) لمنع المصارف الأهلية من التهور في التوسع في الائتمان والمصارف الحكومية من الاستهتار بالمال العام لضمان ادارة كفوءة للمخاطر والمحافظ الاستثمارية ، ذلك قبل وقوع الازمة او التلكؤ في السداد ونقص السيولة ،فيما تمارس اقصى درجات المسؤولية تجاه الاقتصاد العراقي والمتعاملين والمساهمين والمودعين وتضع خطة انقاذ بعد وقوع الازمة لتفادي انهيار المصرف المتلكأ دون استفزاز ثقة الجمهور لان ذلك ينسحب على الثقة بالجهاز المصرفي برمته والاقتصاد العراقي بالتبعية ، لا ان يبقى البنك المركزي ضعيف الإدارة والإرادة معا في تفادي الخطر وكأنما ينصب الشراك لتسقط بها المصارف ليسارع الى وضع الوصاية عليها ، فما هكذا تورد الإبل ، ولا تصدقوا انكم جزيرة منعزلة عن الاقتصاد العراقي نستخرج نفوطنا لنضع إيراداتها تحت تصرف جزيرتكم العامرة .
 

الدكتور عبدالحسين العنبكي
رئيس منظمة اقتصادنا


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الحسين العنبكي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/11



كتابة تعليق لموضوع : البنك المركزي العراقي.. جزيرة منعزلة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : عقيل قاسم العنبكي ، في 2012/04/15 .

استاذي العزيز اسمعت لو ناديت حياً ولكن لاحياة لمن تنادي
اتذكر ان من ضمن العبارات التي بقيت عالقة في ذهني من ايام الدراسة الجامعية (كلية الادارة والاقتصاد/جامعة بغداد/قسم الادارة الصناعية) ان الاقتصاد القوي يقاس بنشاط القطاع الخاص او يعتبر قويااذا كان قطاعه الخاص قوياً ...رغم اني لست اقتصاديا...الا ان هناك عدة امور اكاد لاافهمها ولا اجد لها اجابات لافي الصحف ولافي نشرات الاخبار ولاعلى لسان المتحدث الرسمي (باسم دولة القانون) عفوا الحكومة العراقية من جملتها ...
1- من الجهة المسؤولة عن وضع موازنة البلد؟
2- من المسؤول عن وضع السياسة النقدية ؟
3- من الجهة المخولة عن مراقبة الشركات التي تملء الشوارع واغلبها وهمية؟
4- ارتفاع مستوى الصادرات النفطية الا يجب ان ينعكس على قوة الدينار العراقي ؟
5- الاصرار على حذف الاصفار هل سيدخل العراق ضمن موسوعة غينس للارقام القياسية ام هو انجاز يندرج ضمن اجتمعات وزراء التجارة والاقتصاد العرب ؟
6-الكثير من هذا الاسئلة موجود ولايوجد من يضع الاجابات ........تحياتي
عقيل العنبكي




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net