صفحة الكاتب : محمد الرصافي المقداد

أربعين الامام الحسين .. محطّة تجديد العهد
محمد الرصافي المقداد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

تقترب ذكرى أربعين الإمام الحسين عليه السلام، فتهفو قلوب مفعمة بالإيمان لها مجددة العهد معه في كربلائه وثورته المباركة التي اعطت زخما فريدا من نوعه في التواصل الرّوحي بين هذا الإمام الفذّ الذي لم يبخل بشيء من أجل الإسلام العظيم، فاستحق أن يكون مُلهَم الثائرين، وقصّاصي أثر الصالحين، عندما يتناهى نظرك إلى هذه الموجات الطوفانية من المحبّين وهي تترادف تباعا بلا انقطاع، من أبعد الأمكنة عن كربلاء إلى أقربها ملبّية، وشاقّة طرقها على الأقدام متأسّية بركب السّبايا، وان كان ذلك لا يُقارن في حقيقة الأمر، ولكنه تعبير تضامني بسيط، يفرح أهل البيت عليهم السلام كمدّ تضامني معهم في مصيبتهم، ويفزع منه أعداء الإسلام المحمدي الأصيل ويرونه نذير شؤم لأنظمتهم الفاسدة.

لقد كان بالإمكان أن يزداد تاريخ الخلفاء - وتسميتهم هكذا مغالطة كبرى وتلك سيرة الحكام في المغالطات- زورا فوق ما حصل فيه من تزوير، لو أن الإمام الحسين عليه السلام رضي بحكم يزيد الطليق، لأُضيف إلى إمامة المفضول مع وجود الفاضل، فصل في جواز إمامة الفاسق على الأمّة، إذا رضي به الأولى بالإمامة، لتكون تلك الحالات الطارئة في الحكم، سلطة عامة تحكم رقاب جميع المسلمين واقعا لا مفرّ منه، ولانقبر كل أمل في أن ينصلح حالنا، من أمّة آمِرة بالمعروف وناهية عن المنكر، إلى أمّة خانعة ذليلة خاضعة مستكينة، يسيطر عليها كل حين فاسق من فسّاقها، ليعبث بمقدّساتها ويستعبد أهلها.

إذا فإن لمسيرة هذا المصلح العظيم من مدينة جده إلى مكة، ثم من مكة إلى العراق دور وغاية، أراد بهما أن يُحدِث رجّة في ضمير أَحياءِ هذه الأمّة، لعلّهم ينهضون من تقاعسهم لأجل دينهم، وهو بنهجه الذي سطّره بجهده وعرقه وعطشه ومعاناته وآلامه وأحزانه ودمه، قد صدق مع ربّه ووفّاه حقّه، قانعا بنتيجة ما سيؤول إليه أمره في هجرته إليه، مِنْ قتْلٍ له ولشباب أهل بيته، وخيرة أصحابه، وسبي لنسائه وفيهم أخته العقيلة زينب، ولابنه المتبقّي الإمام علي زين العابدين عليهم السلام، في سبيل أن تكون حركته الإصلاحية في مُحصّلها ذلك أكثر تأثيرا في القلوب الحيّة،

لقد شكّلت مسيرة الإمام الحسين عليه السلام إلى العراق، بحدّ ذاتها بُعْديْنِ إثنين:

- بعد ذاتيّ نابع من شخص هذا الإمام، في قُدُسِيّتيه، قداسة القرآن، وهو الذي أحصى الله فيه معانيه ومقاصده وأحكامه وآدابه وغيْبه، واحدٌ من إثني عشر إماما من عترة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ثقل كتاب الله(1)، وقداسة البيت النبوي الذي خرج من عُقْرِهِ مصلحا، ليتحقّق بها صلاح الأمّة واستفاقتها (إنّ الحسين مصباح هدى وسفينة نجاة الأمّة )(2).

- وبعد آخر وجد نفسه فيه ملبّيا، ما جاءت به رسائل ركبان العراقيين الرّاجين تحرّكه، وقدومه إليهم، فمن التجأ إليه في حال ضيم الإسلام وأهله، لم يكن بوسعه أن يتأخر عن الإستجابة، لقيام الحجة بوجود النّاصرظاهرا، وهو يعلم يقينا أنّ هؤلاء الذين طلبوا مجيئه إليهم سيخذلونه، ومعرفة الإمام الحسين عليه السلام بهذا الأمر من بديهيات علمه، وتهيئة وإعداد آبائه لهذا القرْبان العظيم.

لقد شكّلت ملحمة كربلاء النّادرة في تاريخ الإنسانية، مشهديّة فداء القِيَمِ الإلهية التي جاء بها الإسلام، قد تقاسم فيها مخيّم الإمام الحسين جميع تلك القِيَمِ، هجرة إلى الله تعالى، وثبات على مبادئه، وتضحية بالنفس والنّفيس من أجل دينه، وصبر جميل في مواجهة قضاء الله وقدره، ينصهر فيه جميع أهل المخيّم، قلبا واحدا وإرادة واحدة وراء إمامهم، ملبّين تلبية حق (لبّيك يا حسين)، تلك التلبية التي لا تعني غير أن مقصدها (لبّيك يا محمد بن عبد الله) امتثالا لأمره في مودة أهل بيته ونصرتهم بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: (إن ابني هذا يقتل بأرض من أرض العراق فمن أدركه منكم فلينصره) (3)هذه التّلبية التي ظلّت تتردد، كلما قام ثائر عرف حقّ سيد شباب أهل الجنّة عليه السلام، وتوفّرت له فرصة إطلاقها على واقع فاسد يُريد تغييره، وستظلّ كلذلك متوارَثة من جيل لآخر، إلى أن يتحقق العدل الإلهي على يدي صاحب العصر والزمان الإمام المهدي عليه السلام.

  • يرى أتباع أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله وسلم، في كربلاء محراب الشهادة ومدرسة الثورة، وهي مستلهم ثوّار الأمّة والإنسانية، من لوحات فدائها ترتوي القلوب بعَبَقِ أريج قرابين الهُدَى، ومن محصَّلِها تتجلّى عِبَرُ كل واحدة منها، منظومة القِيَمِ التي جاء لإحيائها خاتم الأنبياء صلى الله عليه وآله وسلم، كربلاء التي أفجعت أهل البيت عليهم السلام، وأحزنت قلوبهم وقرّحت جفونهم، لم تختلف في شيء من ذلك مع شيعتهم وأتباعهم ومحبيهم، وبُعْدُها الرّوحاني لا يزال متّقدا لهَفًا وحبّا وعشقا، في كلّ قرارة كل نفس كانت مع الإمام الحسين عليه السلام، في مسيرته الفدائية من أجل الإسلام، حتى وإن تباعدت المسافات والأزمنة بينها وبينه.

ويبدو أن الفيلسوف المسلم (روجيه غارودي)(4) قد ذهب بعيدا عن مدرسة كربلاء الإمام الحسين عليه السلام، عندما كتب متسائلا عن البعد الرّوحاني، المفقود في عامة الأمّة الإسلامية بقوله: (ولا بد من معاودة اكتشاف بعده الروحاني، والعشق الالهي، الذي دافع عنه المتصوفون الكبار، من ذي النون إلى ابن عربي، في مواجهة كل المذاهب الشكلية والعبادية الحرفية الجافة، فأركان الإسلام هي روافع هذا الشكل من الحياة، الصلاة للإتحاد بالله، الزكاة للإتحاد مع الناس، الحج للإتحاد مع الأمة، الصوم لأجل استذكار الله والجوعى في آن.)(5)

فكل ما عدّده من أركان عبادية واعتبرها - وهي كذلك لدى عموم المسلمين- جافة خالية من روحانياتها، هي خلاف ذلك تماما في مدرسة كربلاء، مليئة بعمقها اليقيني بالله، وأكثر قربا له في أدائها طوال الأيام الشداد من الحصار، وخاتمتها اليوم العاشر من المحرّم، ولا اعتقد أنه بالإمكان العثور على بعد روحاني أكثر أثرا وعمقا من كربلاء الامام الحسين عليه السلام، والباحث عن هذا التوقّد الروحاني، بقيمته التي أنزلها سيد شباب أهل الجنة عليه السلام، لدى كبار متصوّفة العصور، لن يعثر عليه عندهم وان عثر عليه فنظريا أو جزئيا، أما عمليا وتطبيقيا فلا محيص للباحث من دخول مدرسة كربلاء.

من يمّم وجهه قاصدا طريق الهدى، بما مثّله الأمام الحسين عليه السلام، من مخزون علم محمّدي صاف من كل درَنٍ، وجد فيه نِعْمَ الهادي إلى الله، وربّان سفينة النجاة الوحيدة في ذلك الموقف، فاستشعر أيها العزيز أنك مع الحسين عليه السلام في كربلائه، عش معه هناك كل يوم، وكن بحقّ في حياتك من خير ناصري دينه، وناصري حفيده مولى المؤمنين صاحب الزمان عجل الله فرجه، أقرن توجّهك بتوجّهه، ونيتك بنيّته، ويقينك بيقينه، وأحسن ظنّك بالله كما أحسن هو، فإن في اتّحاد قلوب الموالين مع أوليائهم، رضى لله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم وأئمة أهل بيته عليهم السلام، ومن كربلاء يتميّز أتباع علم الهدى من أتباع أعلام الضلالة، فهي الفارق الذي ميّز به الإمام الحسين الإسلام المحمّدي الأصيل، بمسيرته التصحيحية، من الإسلام السّلطوي الذي لا يرى غضاضة في الباطل وارتكاب المظالم، وبذلك نكون مع الامام الحسين عليه السلام، وبقية أئمة أهل البيت الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا. قال تعالى: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون* لهم البشري في الحياة الدنيا وفي الآخرة لا تبديل لكلمات الله ذلك هو الفوز العظيم) (6)

المصادر

1 – قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في حديث رواه أكثر الفرق الإسلامية: ( تركت فيكم ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وانهما لن يفترق حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما) الترمذي ج5ص663 حديث3788 / خصائص النسائي ص41 / سنن الدارمي ج2ص431/ مصنف ابن أبي شيبة ج11 ص452 حديث11725 / السنة لابن أبي عاصم ج 2ص336 ح 754 و628 و630 وحديث 1548-1549 – 1553/ طبقات بن سعد ج2ص194 / مشكل الآثار ج2 ص368/ حلية الاولياء لابي نعيم ج1 ص355 / المعجم الكبير للطبراني ج5 ص153-154 ح4921-4923 وص169-170 ح 4980-4982

2 – عيون الأخبار الشيخ الصّدوق ج 1ص62 / بحار الأنوار المجلسي ج36 ص205 وج91ص184

3 – الإصابة في تمييز الصحابة ابن حجر العسقلاني ج1 ص271/ ترجمة الامام الحسين ابن عساكر ص347/ البداية والنهاية ابن كثير ج8ص199/ أسد الغابة ابن الأثير ترجمة أنس بن الحارث ج 1ص146

4 – روجيه غارودي(1913/2012) فيلسوف فرنسا اسلم أوّلا ثم اتّبع منهج أئمة أهل البيت عليهم السلام

5 – كتاب روجي غارودي (الأصوليات المعاصرة أسبابها ومظاهرها ص96

6 – سورة يونس الآيات 62/ 63/64


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد الرصافي المقداد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/09/14



كتابة تعليق لموضوع : أربعين الامام الحسين .. محطّة تجديد العهد
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net