صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

الميمون قصة قصيرة
ستار عبد الحسين الفتلاوي

الأرض مكفهرة ,كأنها قاعُ صفصفُ. السماء مدلهمة يمور فيها غضب اسرافيل وعزرائيل .. أجساد مجزرة , وأعضاء مبعثرة .. يشع منها نور يشبه انبلاج عمود الفجر ,فيتلاحم مع عنكبوت الشمس . حبات الرمال تتلآلآ بالوان الفاجعة , كثبان كأنها العقيق المدملج , ضحايا حقد دفين , وثأر من غير ترات . ساحة الوغى لانبض للحياة فيها , الا من هيكل اللاهوت , يسبّح في غمرات العلى . ثابت الأقدام كأنه برزخ يصد هجمات الظلم والعدوان عن حرم النبوة والقداسة . يقف الجواد على مقربة من الجسد المسجى . يحمحم هائجا بوجوه القوم . تقدح عيناه شررا . يقول احدهم: عليكم بالجواد فانه من أصائل الجياد . يجازف واحد منهم . يقترب حذرا , وبعينيه نظرة ذئبية خبيثة . يرفسه الجواد بقائمتيه الخلفيتين , فيرديه صريعا . يحجمون عن الاقتراب منه , خائبين عن الفوز بالغنيمة . يتصايحون فيما بينهم : ان لم تستطيعوا الفوز به فارضخوه بالحجارة او ارشقوه بالسهام .
يضرب حوافره في الأرض , تاركا أثرا عميقا في الرمال الساخنة . يثب منفعلا وثبات قصيرة . السهام تمخط من جانبه حينا وتصيبه حينا , رشق الحجارة يتوالى ..يتقهقر الى حيث جسد فارسه , الذي ترجل عن صهوته رغما عنه  الحيوان الأعجم يستشعر خبث القوم ودغل سرائرهم . ينكس رأسه بين قائمتيه الأماميتين . يدور حول الجسد المسجى كالقربان . يتشممه بعرفه . يمسح ناصيته بالجروح النازفة , فتتلون غرته البيضاء بلون احمر . تربكه رائحة الدماء الزاكية , ينفخ الهواء من منخريه , مستحثا فارسه على النهوض , وانى له النهوض وقد أرهقته كثرة الجراح , وألم هواكثر إيلاما من جراحاته .. ان امة جده قد خانت أمانتها . يرمق مخيم عياله بطرف غشيته سحب الموت المتدافعة  .  الجواد يطلق صهيلا موحشا وعاليا ,يسلب الأرواح من الأبدان . كأنه يقول : انهم يأتمرون بك ليقتلوك . ماهذا أوان نومتك ياحسين السماء المربدة تظلم شيئا فشيئا . الأفلاك المتصادمة تبدو واضحة في عز الظهر , تمتد يد عظيمة من عمق غير مرئي .. تصبح قاب قوسين او ادنى من رؤوس الكائنات الممسوخة , التي فقدت إنسانيتها عند أول منعطف . صوت اصطكاك يصم الأذان الموقورة تصرخ مجموعة منهم : القيامة قامت لموت ابن فاطمة !!                                                                                  
  يصيح بهم شمر : لايهولنكم سحر ابن ابي تراب , لطالما سحروا اعين الناس .                                          قلب زينب المعنّى بحب الولي يزداد وجيبه .. عمود النور المنبثق من سبحاته الى عنان السماء .. بدأ يخفت تدريجيا , وسحب  كأنها الغرابيب السود تتدافع راكضة نحو عين الشمس الدامية . غمامة من الغبار تتصاعد من صعيد الرمال . تسمع النسوة صهيل الميمون , فتشرأب أعناقهن  متطاولات ,وإحداهن تلوذ بالأخرى . زينب تبصر جواد اخيها من خلال غشاوة دموعها , وقد عاد مخزيا وسرجه ملويا . تضع يديها على رأسها  , وتصرخ مولولة : هتك والله ستر النبوة المسدل .                                              
  تحدث نفسها بصوت مسموع : انقضى زمن عزك وسرورك  يازينب .  صهيل الميمون يطغى على بقية الأصوات , وكأنه عويل امرأة ثكلى ذبح وحيدها في حجرها . زينب تجرجر أذيالها وقد ارتعدت اعضائها : اخي ياحسين احقا رشح جبينك للموت . الجواد صافن , وقد نكس رأسه المعفر بالدماء . تسقط متكومة عند قدميه ,غارقة في دوامات حزنها . تتذكر نداء اخيها لما خلت الخيام من الرجال : الا من يقدم لي جوادي .                              ينشعب قلبها من الأسى . تتجرع غصتها , وتأتي بالجواد قائلة : ماأقسى قلبي , بيدي أقدم لك فرس المنية .           سهمت عيناها , تتراءى لها خطوات الفراق الأولى , والميمون يخب الى ارض المعركة . وجع مصيبتها يذبحها بموس صدئة مرارا وتكرارا .. صراخ الأيتام المروعين , والنساء الثكالى يضج في رأسها .                           قالت تخاطب الميمون : أراك عدت خاليا .. أين خيّالك .. اين تركت أخي ؟                                              يهمهم الجواد كأنه فهم مغزى كلامها . تدمع عيناه  . ترجع مذهولة تناشده : تركت حسينا صريعا على الرمضاء ,تصهره حرارة الشمس , هذا الذي كان جده يتأذى لبكائه صغيرا .                                                        عند هذه الكلمات , رأت جدها قابضا على شيبته الشريفة . ينظر تارة يمينا وتارة شمالا . صاحت مفجوعة : ياجداه يارسول الله .. هذا حسينك صريع بالعراء .
 قالت المرأة المسبية بالهم : أين انت  ياحسين عن صواوينك ,أما ترى مايفعل القوم بنا , أما ترى خيامنا تحترق ؟    ومن هناك , عبر صحراء الالم الشاسعة . ودروب الفراق المتقاطعة ,رقد حسين وقد صنع له وسادة من الرمال . محدقا بعياله , وروحه تتلجلج بين جنبيه مؤذنة بدنو الرحيل . تقف زينب وحيدة .. مكدودة . ترفع إمارات العزة شعارا , ومظلومية الغريب دثارا, تردد صوتها نواويس كربلاء : الا من ذاب يذب عن حرم رسول الله ؟ فتأن لها  صم الصخور , وتعجب لصبرها ملائكة السماء .يستشيط الميمون غضبا ويعدو .. صارخا في عروش الاحقاف الخاوية .. الظليمة .. الظليمة .  
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/04/08



كتابة تعليق لموضوع : الميمون قصة قصيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net