صفحة الكاتب : محمد جعفر الكيشوان الموسوي

التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء الأول
محمد جعفر الكيشوان الموسوي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

هو الإمتداد الطبيعي لعقدة الشعور بالنقص والدونية التي تكلمنا عنها بإيجاز في مقال السخرية من الآخرين. فالمتسلط إنسان فوضوي يحب الظهور بمظهر الأعلم والأكمل والأجمل والأفهم والأجدر بذلك الموقع الذي تبوأه على حين غِرَّة. وإن كان هو في واقع الأمر عكس هذه الصفات. لا يخفى على القاري الكريم ان إهمال النفس وعدم محاسبتها وترك مواجهتها هي عوامل تشجع وبدرجة كبيرة المتسلط على الإعتداد بنفسه والنظر إليها بأنها مثالية و(خرافية)، كما أن الخطر الآخر يكمن في البيئة الحاضنة لهذه الأمراض والفيروسات الفكرية المعدية مما يزيد من سرعة التكاثر  ومن ثم الإنتشار والعدوى. البيئة الحاضنة هي تلك المجاميع التي لا تنفك تُظهر المزيد من الإعجاب والتشجيع لتك الشخصية المتسلطة مما يزيدها طغيانا وعلوا وإستكبارا في الأرض. الطاغية فرعون لم يتسلط على موسى النبيّ عليه السلام ولا على أصحاب موسى الذين آمنوا به وصدقوا بما جاء به من عند ربه تعالى. بل لم يمتثل لفرعون الطاغية مَن أتى بهم من السحرة ليدحض بسحرهم حجة موسى، لكن فرعون إستغل أولئك الجهلة وضعاف العقول فأصبحوا بيئة حاضنة لطغيانه وجبروته فإزداد عنادا وكفرا وازدادوا حماقة وسخفا وفسقا. "فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ۚ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ". قد نكون سببا في طغيان البعض من خلال إظهار الإعجاب لسوء أفعالهم وقبيح أقوالهم، أحيانا كثيرة من حيث لا نشعر ولا نلتفت. نتذكر جيدا ماذا فعلت قصائد مدح الشعراء بطواغيت إزدادوا علوا في الأرض بغير الحق. لا نكتب هنا في السياسة وإلاّ فالذاكرة مزدحمة بالمواقف المخزية والمخجلة لبعض الشعراء وهم يمتدحون الطاغية ويهزأون بعلماء الدين بأبيات يستحي المرء من ذكرها لأن رائحة العفن تفوح منها ولا تليق ان يسمعها القاري الكريم.

العراق اليوم يعد بيئة حاضنة وبإمتياز لكل أنواع التلسط والإستعلاء. هذه ظاهرة خطيرة وستزداد خطورة مع غياب التسلح بالوعي والإيمان. اصبحنا وللأسف الشديد مصنعا لتصنيع شخصيات متسلطة لا نرى منها إلاّ العبوس وتقطيب الحاجبين والمزيد من الإستهانة والتنكيل لنصبح رويدا رويدا موضع سخرية ينال منا أولئك الذين لم يعتنوا يوما بأنفسهم ولم يراجعوا ما نطقوا به من جراحات ألسنتهم ليتداركوا أمورهم ويعتذروا قبل ان  يأتي يوم يٌقال لهم فيه :"لا تعتذروا"!!! لأولئك جميعا نقول أن أبسط برنامج لمحاسبة النفس ومواجهتها بكل شجاعة هو تسجيل سيئات الأفعال والأقوال في كراس خاص يضعه (من يريد ان يحاسب نفسه ليكون راقيا فعلا) كل ليلة قرب رأسه ويحصي أخطاء النهار وما صدر منه من قول أدخل الكرب على قلوب من سمعه ، وما فعله من فعل سيء تأذى به من وقع عليه. وبعد إمتلاء السجل بالسيئات عليه ان يجهد نفسه بمحوها. كيف السبيل لمحو تلك السيئات من ذلك السجل الذي وضعه قرب رأسه؟؟ إليكم القصة:

 العالم الجليل والشاب المتعلم..

ذكرنا في مناسبة سابقة قصة ذلك العالم الجليل الذي سأله أحدهم عن كيفية وصوله إلى ذلك المقام الرفيع والدرجة العالية من التقوى، أرى من المفيد ان أذكرها هنا للإفادة والدرس.

سأل أحد الشباب عالما جليلا ورعا : كيف وصلت يا مولانا الى هذه الدرجة من التقوى والزهد والعلم؟

أجاب العالم : تلك قصة طويلة سأقص عليك مختصرها بعد ان ينفض الناس من المسجد. فهل لك أن تبقى معي إلى حين؟

أجاب الشاب : بكل سرور أيها المولى فالإستماع إليك يزيدني قربا من الآخرة.

حسنا أيها الشاب الموفق. إبقَ مكانك وسأكون في خدمتك بعد سويعة.

سمعا وطاعة سيدي. أجابه الشاب.

بعد ان خرج آخر مصلٍّ من المسجد تقدم الشيخ نحو الشاب وبدت على وجهه أمارات الكآبة والحزن وقد أغرورقت عيناه بالدموع وهو يقول : يامن يعلم إغفر لمن لا يعلم.

إزداد فضول الشاب فنهض واستلم يد الشيخ وأجلسه مكانه وقال له : خير ان شاء الله يا مولانا!!

فقال العالم : نعم يا ولدي خير ان شاء الله . ثم قال له :

إصغِ وإستمعْ جيدا لما سأذكره لك من قصتي وخذ العبرة منها:

كنتُ مغرورا ومعجبا بنفسي أيام الشباب وكنت عاصيا لأوامر الحق سبحانه، مداوما على فعل القبائح والسيئات، لا أتورع عن منكر فعلته أو قبيح إجترحته، ففي كل يوم أعمل ما يحلو لي، ولا يحلو لي آنذاك إلاّ القبائح والمزيد من المعاصي. كانت أمي تنهاني وأحيانا تتوسل إليّ  وتطلب مني الإمتناع عن تلك الأعمال القبيحة السيئة لكني كنت لا أعير إهتماما لتوجيهاتها ونصائحها بيد أني كنت أحترمها ولا أنهرها وأقل لها قولا معروفا لا يسخطها كأن أسوّف لها بالتوبة، بعد ذلك إنتقلت أمي (أم العالم) إلى الخطوة التالية من تربيتها لي وتوجيهها فطلبت مني أن أسجل كل المعاصي والسيئات والقبائح في سجل خاص أضعة عند رأسي في الليل أدوّن فيه ما إجترحته في نهار ذلك اليوم  وأسجّل كل معصية قبل أن أنام. وافقت بسرور ( القول للعالم) على طلب أمي فهو ليس بضاري شيئا ففعلت ما طلبت مني كل ليلة دون ان أنسى سيئة واحدة. في يوم من أيام الربيع المعتدل وبينما كنت أدور في الأزقة بحثا عن منكر ومعصية لمحت من بعد امرأة ومعها بنت شابة فأسرعت إليهما وإستوقفت المرأة فإستجابت لي ووقفت مكانها وهي ترتعش وقد إصفّر وجهها فقلت لها : لماذا ترتعشين كالسعفة فنحن لوحدنا هنا لا يرانا أحد فقالت : أيها الشاب لقد أسأت الظن بي فهذه أول مرّة أقف لوحدي اكلّم رجلا لشدة ما أنا فيه وقد تأملت منك خيرا فإن كان فبه وإلاّ فأتركني أواصل طريقي فلستُ أهلا لما ترجوه. تواصل تلك المرأة حديثها: أنا وهذه البنت لم نأكل شيئا من الطعام منذ ثلاثة أيام فإن أردت أن تحسن إلينا وتتصدق علينا فسوف يحسن الله إليك ويجزيك عنا خير جزاء المحسنين وان لم يكن بيدك حيلة فعسى الله ان يجعل لنا من أمرنا مخرجا ويرزقنا من حيث لم نحتسب فقد توكلنا عليه ووثقنا به وإعتمدنا عليه. كان الشاب مطرقا برأسه وهو يصغي إليها. لما أنتهت من كلامها رفع رأسه ولم ينظر إليها مباشرة (على غير عادته) وطلب منها أن تمشي هي وابنتها أمامه ليعرف مكان سكنها. لما إنتهت إلى باب الدار قال لها ذلك الشاب المغرور (وقتها) : إنتظري لأذهب إلى البيت وأعود إليك بما سيقسمه الله لكما. دخل البيت فوجد أمه في انتظاره لتناول الطعام سوية. قص عليها القصص فإمتنعت الوالدة عن تناول الطعام وقال له : أعطِ السيدة المحترمة كل ما عندنا من طعام فسيخلف الله ما نتصدق به ونفوز بالقرب من الله في يوم الجوع والعطش. إمتثل الشاب لكلام أمه وحمل لتك المرأة ما كان عندهم من طعام وشراب وذهب مسرعا إلى تلك المحتاجة فوجدها مشغولة بالصلاة ولما فرغت إستلمت منه الرزق وقالت له : أسأل الله أن يوفقك لفعل الخيرات ويتجاوز عن سيئات ماعندك بحسن ما عنده. رجع الشاب مسرورا إلى أمه يخبرها بتلك الدعوات التي سمعها لأول مرّة في حياته، فهي المرّة الأولى التي يعمل فيها المعروف وفي موضعه ومع أهله. إستبشرت الوالدة كثيرا وقالت له : اسأل الله تعالى أن يجعلها فاتحة خير وتوفيق وبركات يا بني. ثم واصلت حديثها : قم يا بنيّ وسجلّ هذه الحسنة في نفس ذلك السجل الذي كنتً تسجل فيه السيئات كل ليلة. يقول الشاب : عندما تصفحت ذلك السجل وجدته عبارة عن صفحات بيضاء لا اثر لتلك السيئات التي كنت أدونها كل ليلة، وفي بداية كل صفحة بيضاء خالية مكتوب : " إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ".

يقول ذلك العالم الجليل: من وقتها عاهدت الله أن لا أعود لمنكر فعلته وأعتنيت بنفسي وأخذت أحاسبها حسابا عسيرا وأقو لها : كِدتِ أن ترديني لولا رحمة الله تعالى ومنّه وكرمه. أخذ الشاب الحكمة وانصرف.

تعليق..

 ان والدة ذلك الشاب المغرور كانت خير عون له وفي أشد الأوقات حرجا وهو وقت المعصية والإبتعاد عن الحق سبحانه فمواصلة التوجيه والإرشاد أمر في غاية الأهمية لأولياء الأمور والمربين والمصلحين. والأمر المهم الآخر هو الدعاء للغير وله أثر بالغ فلنرجوا من يدعوا لنا بظهر الغيب ولنحذر من يدعو علينا... قلت لأحد المعارف وهو يذكر عيوب أخيه الغائب : أحذر من ذلك فلربما الذي تذكر عيوبه يكون الآن واقفا بين يديّ الحق سبحانه رافعا يديه ويقول : "اللهم مَ أرادني بسوءٍ فَاَرِدْه" فماذا يكون وضعك وحالك فإنتبه.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد جعفر الكيشوان الموسوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/08/01



كتابة تعليق لموضوع : التسلط آفة إجتماعية مقيتة ـ الجزء الأول
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net