صفحة الكاتب : صدى الروضتين

الكاشي الكربلائي.. أصالة واكبتِ التطورَ المعماري الحديث
صدى الروضتين

 ما من حِرفةِ قديمة إلا ودثرها الزمانُ بترابه، وطواها بصفحاته الماضية، وعبر أيامه التي تدوِّن بأرشيف قد يُنسى يوماً بعد يوم... أما حرفة الكاشي الكربلائي فهي من الحرف القديمة جداً في كربلاء، وتعتبر فناً من فنون هذه المدينة المقدسة، لكنها تتجدد مع تقادم السنين، بعكس الحِرف التي كانت تُمارس قديماً في كربلاء، مثل مهنة: الصفارين والچراخين و(المشاط) الذي يقوم بصناعة المشط الخشبي القديم، وغيرها من الحرف التي كانت تمتاز بها كربلاء قديماً.
كل أنواع الفنون جميلة ورائعة، ولكن لهذا الفن (الكاشي الكربلائي) لمسة مميزة وسحر خاص، فألوانه أبهرت الناظرين، وخطوطه المتداخلة بأشكالها الهندسية حيَّرت العقول، وأثارت في نفس المشاهد الكثير من الأسئلة والاستفسارات على مرِّ الزمن. فما أروع تلك الأنامل التي أبدعتْ وصمّمتِ النقوشَ والزخارف والآيات التي زيّنت الجدران العالية، والمنارات والقباب الشاهقة التي عانقت السماء منذ مئات السنين... فقد امتاز الكاشي الكربلائي بتحمله ومقاومته العالية لأصعب الظروف المناخية، وهذه الميزة أعطته صفة الاستمرارية والدوام لفترات طويلة...
ولمزيد من التفاصيل حول هذه الحرفة الرائعة والجميلة والمميزة، وللكشف عن ميزات الكاشي الكربلائي وبعض أسراره، كان لنا هذا اللقاء مع السيد (أيسر علي هاشم ياسين الموسوي) وهو وإخوته مُلقبون بأولاد السيد علي الرسام:
 هناك مرحلتان مهمتان في تاريخ صناعة الكاشي الكربلائي. الأولى: مرحلة الصناعة اليدوية البدائية القديمة. والثانية: هي مرحلة الصناعة الحديثة. والمرحلة الأولى أي القديمة تتلخص بعدة أمور: تبدأ من استخدام المواد الأولية الأساسية، حيث يُخلط (التراب والرمل) بنسب معينة، ويُوضع بعد ذلك في أحواض خاصة، ويُضاف إليه الماء لغرض التنظيف والتخمير. 
بعد ذلك يتم تصنيع الكاشي حسب طلب الزبون، وللغرض الذي يروم استعماله، إذا كان يريد عمل قبة أو تغليف منارة أو واجهة وما شاكل ذلك... نقوم في البداية بتصنيع القالب، وبعد ذلك نبدأ بعمل القطع وتهيئتها كي ندخلها فرناً أولياً، ومن ثم نقوم بتلوينها حسب المطلوب، وبعدها تدخل الفرن مرة أخرى، وهذه المرحلة الأخيرة.  
ويضيف السيد أيسر الموسوي: لقد تميّزت هذه الحرفة وذاعت شهرتها عالمياً، فقد وصل انتاج الكاشي الكربلائي إلى مختلف دول الخليج: كالإمارات العربية، والبحرين، ودولة الكويت، بالإضافة إلى جمهورية ايران... كما وصلت الى أميركا، ولندن، ومدن أُخَر من بقاع العالم.
صدى الروضتين: هل هناك قوالب معينة تُستخدم لصناعة الكاشي؟
 توجد قوالب عديدة ومنوعة كل حسب حاجته ومنها (المربع): ويُستخدم هذا النوع من القوالب في إعداد الزخارف والكتابة. و(النر): وهو بأطوال مختلفة ويقسم إلى (النر) الطويل الذي يتراوح طوله ما بين (7-21سم)، و(النر) العادي الذي يكون طوله ما بين (10-15سم)، وهذا النوع من القوالب يستخدم لتغليف القباب. و(ألجوك): وهي قولب خاصة تُستخدم للإطارات الخارجية، وهي غالباً ما تكون بلونين هما: (الأصفر والأسود أو الأبيض والأزرق). و(الانكلي): وهو قالب خاص يُستخدم لفتحات الشبابيك، ويكون بأشكال معينية، ويكون داخله مصباحاً للتزيين.
المقرنصات: ويُستخدم هذا النوع من القوالب لأحواض المنائر، وأعالي سقوف الأبواب. أما (الشيف): فيستخدم هذا النوع من القوالب لقباب المآذن، والنوعان الأخيران يعملان يدوياً، ويحتاجان إلى مهارات ودقة عالية في العمل.
وأضاف السيد ايسر الموسوي:
 بعد إتمام هذه العملية تنقل القوالب المُعدة إلى أماكن خاصة معتدلة الحرارة، لغرض تجفيفها، مع ملاحظة ضرورة أن تجفَّ بنسبة (100%)؛ كي تكون جاهزة لعملية (الفخر).
صدى الروضتين: كيفية عمل الألوان، وطرائق تحضيرها، وإعدادها للاستعمال؟
عملية تحضير الألوان في السابق كانت صعبة ومعقدة، وتحتاج إلى جهد ومهارة ودقة في العمل، حيث كان يُطحن (الزجاج والرمل والحصى)، وتخلط بمواد خاصة وبنسب معينة، ثم تحرق هذه المواد مجتمعة في كُوَر خاصة تعرف بكور(السبج)، ومن ثم تستخرج ليتم طحنها مرة أخرى بمطاحن قديمة تسمى(الرحى)، لتخلط بعد ذلك بالأكاسيد الملونة (كالنيلي والأزرق والأسود).
والألوان المستخدمة في عمل الكاشي متعددة ومختلفة، فهنالك اللون (الأزرق) الذي يُستخدم في كاشي (النر) العادي الخاص بتغليف القباب. كما توجد ألوان أُخَر خاصة بالنقوش والزخارف والآيات القرآنية، وهي متعددة من أهمها: (أللون النيلي، والشذري، والأخضر، والأصفر، والأسود). وبعد الطلاء باللون المخصص يدخل مرة أخرى إلى (الكورة) وبدرجة حرارة تتراوح ما بين (850-950 درجه مئوية)، وذلك لتثبيت الألوان وإظهارها بمظهرها النهائي، وتعتبر هذه المرحلة آخر مراحل تصنيع الكاشي الكربلائي يدوياً.
أما عن البدايات الأولى لصناعة الكاشي الكربلائي، حدثنا أمير غازي عباس المعموري مدير معمل لصناعة الكاشي الكربلائي:
يُقال أن بداية صناعة الكاشي الكربلائي كانت في بابل، وتحديداً في مدينة كانت تعرف باسم (كيش)، إذ كانوا سابقاً يستخدمون القطع المربعة الصغيرة على شكل فسيفساء، والآن هي موجودة في بوابة بابل، وبعد ذلك انتقلت هذه الحرفة إلى إيران، فشهدت هناك تطوراً من حيث الشكل واللون؛ لأنهم كانوا في السابق يستخدمون المربع الصغير واللون الأخضر أو الأزرق فقط. 
أما بداية استخدام هذا النوع في كربلاء، فكان في العتبتين المقدستين، ومن ثم دخل في تغليف المساجد والحسينيات.
صدى الروضتين: كيف يتم نقش اللوحة أو الكتابة على الكاشي؟
أولاً مرحلة الطبع واختيار النقوش: حيث تُرسم هذه النقوش والزخارف والآيات على أوراق، وبأيدي أساتذة ماهرين ومتخصصين، وبعد ذلك تُخرم وحسب ما مثبت بها من رسومات ونقوش وآيات، لتثبت بعد ذلك وتُوضع على الكاشي المزجج المطلي باللون الأبيض لغرض طبعها، ويُستخدم في عملية الطبع (الفحم) المطحون.
وبعد إكمال عملية الطبع ولصق النقوش، تأتي عملية التحديد باللون الأسود والمُسمّى بـ(ألمغن) وهو أوكسيد المغنيسيوم المطحون والمخلوط بالماء، وتتم عملية التحديد بواسطة أقلام مُدبّبة خاصة لهذا الغرض.
ولمعرفة المزيد، التقينا بأحد العاملين في هذا المجال وهو الأخ (علي حمزة عباس) وهو عامل فني:
الكاشي الكربلائي يُقسم الى قسمين مجسم، ومستوٍ أو مسطح، ويقصد بالمستوي المخطوط والمنقوش والسادة. ويقسم المجسم الى (الشيف) ويمر بمراحل تحضير الطين والعجن وتقطيعه الى قوالب بأشكال وأحجام وأنواع وقياسات معينة... وبعد أن تتم عملية الصبّ بالقوالب، تدخل إلى أفران كي تجفّ، وبعدها تتم مرحلة الصقل والتنعيم... تأتي بعد ذلك مرحلة التلوين حسب المرسوم في اللوحة المراد عملها، وتعاد الى الفرن، بشرط أن تكون درجة حرارة الفرن عالية جداً، كي يتم تثبيت اللون جيداً على القطعة.
وأضاف الأخ علي حمزة :
 إن مهنتي منحصرة في تكحيل العيوب التي تطرأ على القطعة بعد الصبّ في القالب من حيث المسامات التي تظهر في بعض الأحيان، أو التشققات، عندئذ أقوم بمعالجتها وصقلها، وإظهارها بالوجه الحسن والمطلوب.
كما كان لنا لقاء مع صاحب معمل لإنتاج الكاشي الكربلائي هو السيد (عباس احمد عبد الله) وقد حدثنا قائلاً:
إن عمل الكاشي الكربلائي يجب أن يكون مدروساً من ناحية اختيار التربة الصالحة للعمل، كونها خالية من الشوائب والأملاح؛ لأنها تضرّ بعمل الكاشي إذا كانت تحتوي على أملاح كثيرة.
صدى الروضتين: ما هي طبيعة الأفران التي يتمّ فخر الكاشي بواسطتها؟
تحتوي الأفران (الكورة) على أربع فتحات، إضافة إلى الفتحة الرئيسية التي يدخل ويخرج منها الكاشي. وتستخدم في عملية الفخر مشاعل نفطية قديمة، حيث يوضع النفط داخل براميل ترتفع عن مستوى بناء (الكورة)، وتنزل من هذه البراميل أنابيب تدخل في فتحة تعرف باسم (بيت النار). ويفخر الكاشي الكربلائي بدرجة حرارة تتراوح ما بين (1000-1100 درجة مئوية). ويجب ملاحظة ضرورة ترتيب الكاشي داخل الكورة، فلكل قالب وضعية خاصة وطريقة في الترتيب، وهذه الملاحظة تجنبنا الوقوع في الخطأ قد تتسبب في تلف الكاشي.
وأضاف السيد عباس:
 بعد إتمام عملية الفخر وإخراج الكاشي من الكورة، تأتي عملية أو مرحلة أخرى مهمة تعرف بمرحلة (التزجيج). ويختلف التزجيج مع اختلاف القالب المصنع. ويستخدم في هذه العملية (الزجاج المطحون) والممزوج مع بعض الأكاسيد وحسب الألوان، حيث يُخلط بالماء، ويُطلى به الكاشي المراد تزجيجه، وغالباً ما يكون باللون الأبيض، ويستخدم بكثرة في الكاشي الربع.
وعن بعض التسميات الخاصة بالنقوش قال السيد عباس: 
هناك عدة تسميات منها: (النقش النباتي، والنقش السلمي، والنقش الهندسي). وبعد إتمام التحديد تأتي مرحلة استخدام الألوان الخاصة بهذه النقوش والزخارف والآيات.

وفي ختام جولتنا هذه نقول: إن كلّ هذه السمات والميزات الرائعة والجميلة اجتمعت في قطع مترابطة تعرف بـ(الكاشي الكربلائي)، هذا التراث والفن الأصيل الذي تميزت به مدينة كربلاء منذ زمن بعيد، حتى أصبح من فنون المدينة المقدسة، فمن عِظَم كربلاء المقدسة أتت شهرة الكاشي الكربلائي، الذي أصبح مضرب الأمثال في مختلف بقاع الأرض... لذا ينبغي مراعاة الجانب التراثي العريق لهذه المدينة المقدسة، وذلك باستخدام الكاشي الكربلائي في معظم الطرز المعمارية الحديثة، لإبقاء هذا النمط من الأصالة حياً ينبض بالتراث، وتتناقله الأجيال جيلاً بعد جيل.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صدى الروضتين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/07/02



كتابة تعليق لموضوع : الكاشي الكربلائي.. أصالة واكبتِ التطورَ المعماري الحديث
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net