صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 13 ) النبي يعقوب (عليه السلام) في سورة يوسف
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 من بين الموارد التي تطرقت لها سورة يوسف (عليه السلام) هي بعض خصوصيات الانبياء (عليهم السلام) وقد مر الحديث عن بعضها اثناء الحديث عن يوسف (عليه السلام)، وفي هذا المقطع من السورة الشريفة سلطت الاضواء على بعض خصال يعقوب (عليه السلام).
الآيات الكريمة في اوائل سورة يعقوب (عليه السلام) بينت طبيعة التعاطي السلبي لبني يعقوب (عليه السلام) مع ابيهم، وفي المقابل موقف الاب الحاني من بنيه، ويبدو ان موقف بني يعقوب لم يتغير تجاه ابيهم بعد ان ابعدوا يوسف (عليه السلام)، بل انهم استمروا في نهج الايذاء تجاه بنيامين وهو ما اشارت اليه الآية الشريفة في قوله تعالى:
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَىٰ يُوسُفَ آوَىٰ إِلَيْهِ أَخَاهُ ۖ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ 
ففي الآية دلالة واضحة الى ان بنيامين كان متألماً جداً من اخوته، وليس ذلك الا من سوء معاملتهم اياه، وبالتالي ينعكس على طبيعة تعاطيهم من ابيهم.
يوسف (عليه السلام) في هذه الآية يعمل على تخفيف الاسى الذي عاشه بنيامين مع اخوته، وانه سوف يعوضه عن سنوات الايذاء والحرمان التي تعرض لها في فترة بُعد يوسف (عليه السلام) عن ابيه ﴿ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾.
وفي مقابل كل انواع الايذاء النفسي التي كان يتعرض لها يعقوب (عليه السلام) من بنيه كان صابراً محتسباً، واحد اسباب ذلك الصبر  ـ مضافاً الى كمالاته الروحية لمقام النبوة والعصمة التي يتحلى بها الانبياء (عليه السلام) فهم عباد الله المخلَصون ـ هو العلم الذي وهبه الله تعالى نبيه يعقوب (عليه السلام) حيث امتدحه تعالى بقوله:﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ﴾.
فالعلم الذي علمه الله تعالى يعقوب (عليه السلام) كان يجعله يستشرف الامور ويعلم بمجريات الاحداث، وقد بدأت قصة يوسف (عليه السلام) بالحديث عن الرؤيا التي فسرها يعقوب (عليه السلام) لولده واخبره ان الله تعالى سيعلمه من تأويل الاحاديث وانه سيتم نعمته عليه كما اتمها على ابويه من قبل ابراهيم واسحق، وقد تحقق كل ذلك فكان يوسف (عليه السلام) معبراً للرؤيا مخبراً عن الغيب ثم تسنم اعظم سلطة في بلاد مصر، وكما مكن الله ابراهيم واسحق واسماعيل (عليه السلام) في نشر ديانة التوحيد في ربوع بلاد الشام وجزيرة العرب، فكذلك مكن الله تعالى ليوسف (عليه السلام) لتتحول مصر بعد حادثة القحط الى ديانة التوحيد، فهذا من مظاهر تمام النعمة على ابراهيم واسحق (عليهما السلام) اذ كانت لهما سلطة روحية على شعوب كثيرة ومناطق شاسعة، فكان ليوسف (عليه السلام) ما كان لهما (صلوات الله عليهما).
كما اخبر يعقوب (عليه السلام) ابناءه بخبيئة انفسهم، عندما الحوا عليه بأخذ يوسف (عليه السلام) معهم الى الصحراء ليرتع ويلعب، فقال لهم اني اخاف ان يأكله الذئب وانتم عنه غافلون، فلم يلتفت بنوه الى ما كان يرمي (عليه السلام)، ثم بعد ذلك بين لهم انه لا يطمئن اليهم عندما راودوه على اصطحاب بنيامين، فهذا المجموع يدلنا ان يعقوب (عليه السلام) كان يعلم بمجريات الاحداث قبل وقوعها، ولم يكن امامه الا التسليم لأمر الله تعالى.
العطف والرحمة ببنيه العصاة
فمن خصوصيات يعقوب (عليه السلام) التي اشارت اليها الآيات الكريمة في سورة يوسف (عليه السلام) العلم والتسليم، والخصوصية الثالثة هي العطف واللطف ببنيه على الرغم من كل ما قاموا به من تصرفات ملأت قلبه حزناً وابكت عينيه سنيناً طوالاً، فنراه يطلب من بنيه ان لا يدخلوا من باب واحد وان يدخلوا من ابواب متفرقة، ثم يشفع بعد ذلك قوله انه لا يغني عنهم من الله شيئاً وان الحكم لله تعالى وحده:
﴿وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ ۖ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۖ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ ۖ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ﴾ 
فيعقوب (عليه السلام) كان على علم بما ينتظر بنيه، والمأساة الاخرى التي ينتظرها قلبه الطاهر، الا انه لم يكن له بد من التسليم لأمر الله تعالى، واظهر لهم ما يعتقده من انه بهذا التدبير لن يغني شيئاً عنهم فيما قدره الله تعالى عليه وعليهم.
ولعل الذي يتبادر الى الذهن من طلبه اليهم في ان يدخلوا من ابواب متفرقة ان لا تتعرف عليهم جنود عزيز مصر، كي يتمكنوا من الإمتيار والعودة دون ان يلتقي عزيز مصر ببنيامين، الا انه (عليه السلام) شفع ذلك بقوله ﴿وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ۖ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ﴾ الذي يوحي بأن الأمور تجري في المسار المحدد لها من الله تعالى وان تدابير العباد اذا تعارضت مع ارادة رب الكون فإن ارادته هي الماضية وهي المتصرفة في الاشياء، ولكن الانسان القدوة عليه ان يدرب الناس على اتخاذ التدابير ومن ثم الارادة لله يفعل ما يشاء.
ومن ثم تفصل الآية اللاحقة ان الارادة الالهية ماضية على كل حال، مع تقرير واقع يعقوب (عليه السلام) في اطلاعه على ما قدر في عالم الغيب، حيث نسبت الآية الشريفة اطلاع  يعقوب (عليه السلام) وعلمه الى تعليم الله تعالى اياه، وهذا يدل على ان مقام النبوة يقتضي الاطلاع على الغيب بالقدر الذي يشاؤه الله تعالى، وان واجبهم (صلوات الله عليهم)  التسليم لإرادة التكوينية لله تعالى في تقدير امور خلقه.
﴿وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا ۚ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ 
يعقوب (عليه السلام) محور الارادة الالهية على الارض
الامر الاخر في شخصية يعقوب (عليه السلام) الذي اشارت اليه الآية الكريمة، ان من يتصدى الى مقام القيادة عليه ان يعلم الناس ما ينبغي عليهم فعله وان كان يعلم ان الارادة الالهية ماضية على كل حال، فان النبي في مقام القيادة والزعامة والرئاسة عليه ان يبين للامة ما عليهم فعله، وهذا ما قام به يعقوب (عليه السلام) حينما امرهم بأن يدخلوا من ابواب متفرقة، وفي الوقت نفسه اعلمهم بأنه لا يملك لهم من الله شيئاً وان هذا الاجراء الذي اتخذه ربما لن يكون مؤثراً في تغيير التقدير الالهي من وقوعهم في يد السلطان.
كما انه من خلال مطالعة سورة يوسف (عليه السلام) والتأمل في الاطار الكلي للأحداث المؤثرة في المجتمع البشري يمكن ان يقال ان يعقوب (عليه السلام) كان يمثل المحور الالهي في حركة المجتمع نحو الهداية والكمال، فلو نظرنا الى طبيعة تعامل الله تعالى مع خلقه وتعامل يعقوب (عليه السلام) الاحداث التي عاصرها، نجد ان الله تعالى هو من افاض على المخلوقات الوجود وان كل ما لديها من فيض جوده تبارك وتعالى، وفي ال يعقوب كان الموقع الاجتماعي العظيم الذي في نفوس الناس لأولاد يعقوب مستفاض من مقام يعقوب (عليه السلام) في نفوس ابناء ذلك المجتمع وحبهم له واعتزازهم بهم واعتقادهم بأنه من الانبياء الكرام، وانهم يرجعون اليه في شؤون دينهم باعتباره حلقة الوصل بين الله وبين الخلق، فإذن كل ما لأبناء يعقوب (عليه السلام) من مقام هو من فيض وجوده، ومع ذلك نجدهم قد عصوه في ما كان له فيه الاثر المباشر، ونجد ان سنة الله تعالى في خلقه هي العطف والرعاية وعدم المعاجلة بالعقاب، وهذا بعينه ما كان من يعقوب (عليه السلام) تجاه بنيه مع كل ما ارتكبوه في حقه من تقصير متعمد.
كما ان المتتبع لسنة الله تعالى في الخلق يجد ان الله تعالى يبعث الانبياء والمرسلين ويقفوهم بالأوصياء لإدامة التذكير بالله والدعوة اليه ويستمر المجتمع البشري بالمعصية والبعد عنه تعالى الا ما رحم ربي فلا يصدر منه تعالى الا اللطف بهم 
﴿يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ ۚ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ﴾
وكذلك كان يعقوب (عليه السلام) كان يفيض عطفاً وحناناً ورعاية لبنيه على الرغم من كل ما كان يصدر عنهم من جهالة في حقه (صلوات الله عليه) وكما ان الله تعالى كان بعلمه ينظم حركة السير البشري نحو التكامل، كان يعقوب (عليه السلام) بما احاطه الله تبارك وتعالى من علم يرعى سير ذرية ابراهيم (عليه السلام) التي من عقبه نحو الكمال المعد لهم اذ انهم اباء الذرية التي سيختارها الله لتكون امة التوحيد على الارض بعد قرون من الزمان. ومن هنا يمكن استخلاص قضية في حياة الانبياء (صلوات الله عليهم) وهي ان من الضروري ان لا تدرس سيرتهم في حدود الوضع الظرف الزماني الذي عاشوه بل بمدى تأثيرهم في الجانب الكلي في حياة المجتمع الانساني وتهذيبه وتقريبه من دائرة الحقيقة، ومن خلال هذه القراءة السريعة في دلالات ايات سورة يوسف على منهجية يعقوب (عليه السلام) يتضح لنا ان تعاطيه مع ابنائه كان على اساس المنهج الالهي في رعاية اصحاب الخطايا من خلقه للوصل بهم وبالمجتمع الى سبل الكمال الموصلة اليه.                                                                                                                        
     لمتابعة مقالاتنا على التلكرام يمكن الانضمام عبر الرابط                                                                                                                                                                                                                          https://t.me/abdulsettarquranstudys


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/04/11



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) ( 13 ) النبي يعقوب (عليه السلام) في سورة يوسف
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net