صفحة الكاتب : حسين فرحان

مظاهر ومصاديق الانقلاب على الأعقاب في خطبة الزهراء (عليها السلام)
حسين فرحان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 كثيرة هي الأحداث التي شهدها التاريخ الأسلامي، وكثيرة هي التدوينات لمجرياتها، وقد خضع هذا التاريخ -كغيره- للتأثيرات الخارجية الضاغطة باتجاه اثبات حقيقة أو نفيها لتتماشى نتائج ذلك التدوين مع الاهواء والرغبات والمصالح عبر تبريرات تضطر البعض الى التوسل باللامعقول من القول والفعل في سبيل رضا سلطان حاكم يغدق على وعاظه بمقدار ما يسطرون، فلم يبق أمام الخط الآخر الذي يمثل الجانب المشرق لتوثيق الحقائق الا بذل الوسع في سبيل تقديمها كما هي دون تدليس أو رتوش ولا تبريرات كاذبة لأجل منفعة في دنيا هي عندهم أزهد من عفطة عنز.
لم تكن قضية اثبات المجريات التاريخية بشقيها (الواقعي والمزيف) لتتخذ هذا الجانب من الأهمية لولا تعلقها بنمطين من المصلحة، نمط يتعلق بتثبيت قواعد هذا الدين الحنيف، وآخر يتعلق بالمعاول الهدامة التي سعت وتسعى لجعله أثر بعد عين،.. وبالنظر للعلاقة الوثيقة بين نشأة المعتقدات وبين هذه الوقائع تكمن أهمية أن يقدم التاريخ الاسلامي بهذه الطريقة أو تلك، ولو امعنا النظر في الاسباب التي تدفع بالبعض الي تحريف الحقائق وتزويرها لوجدناها مرتبطة بمصالح شخصية ومكاسب دنيوية لم تكن لتتحقق لو أنها قدمت كما هي، أضف اليها عوامل اخرى كالثأر والانتقام والحسد، ولعل في كتاب منهاج السنة الذي ألفه ابن تيمية خير شاهد على الآثار الكارثية التي خلفها هذا الارث التاريخي المخالف لكل ما جاء عن طريق مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) وقد كان بيئة ملائمة لهذا الرجل في الاسترسال بنصبه العداء لهم، بل أنه لم يكتف بهذا الموروث ليعمل رأيه في نفي ماثبت من مناقبهم بل واثبات بعضها لغيرهم في حال بان عجزه عن النفي المطلق لها.
لم يجد أرباب التحريف والتزوير منفذا الى النص القرآني للعبث بمفرداته فهو الذكر الذي تكفلت السماء بحفظه، لكنهم وجدوا طرقا أخرى للعبث بتأويله فلم يكن أمام أهل الذكر الا القتال على تأويله، وقد نالهم مانالهم من الأذى في سبيل ذلك كما كان الامر مع حفظ سنة النبي الاكرم (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومع كل ما بذلوه (صلوات الله عليهم) الا اننا نجد خطا كبيرا مخالفا قد شق طريقه عبر التاريخ يقف ندا بوجه تلك الحقائق التاريخية الناصعة ليصنع أجيالا من المغرر بهم، ويعلن عن نفسه ككيان قائم يمثل الدين الاسلامي ولكن من وجهة نظر أمة أسست أساس الظلم والجور على أهل البيت وأزالتهم عن مراتبهم التي رتبهم الله فيها.
لقد علم هؤلاء أن من ضرورات السلطة والنفوذ ومن ضرورات اتمام عملية الانتقام للجاهلية الموءودة على يد خاتم الانبياء (صلى الله عليه وآله) أن يعد منهج جديد لذلك الامر يعيد الناس الى ما كانوا عليه بطريقة أخرى يكون ظاهرها الاسلام.
ولعلمهم بأن الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الدالة على اتباع أهل البيت (عليهم السلام) ستهدم مشروعهم فقد عمدوا الى استخدام هذا المنهج الخطير في تغييب الحقائق وتشويه صورة المراد منها، فآيات كآية التطهير أو التصدق بالخاتم وأحاديث كالغدير أوالثقلين وغيرها لو قدمت للناس بمعناها الحقيقي فأن ذلك سيفوت الفرصة عليهم لاتمام مشروع هدم بنيان الدين، فما كان منهم الا الشروع باجراءات كمنع تدوين الاحاديث بحجج واهية أو التدليس بأضافة أحاديث وتفاسير لم يسمع بها أحد، أوالاعتذار بعذر النسيان في بعضها أوالتذرع بالداجن الذي أكل بعض الآيات التي انشغلوا كثيرا في كونها مما نسخ حكمه وتلاوته أم تلاوته فقط !
من الاحداث الكبيرة والمهمة في تاريخنا الاسلامي حدث وفاة الرسول الاعظم (صلى الله عليه وآله)، ولعله من اقسى المفترقات التي واجهت خط الرسالة حيث ابتدأت مرحلة الخلافة المتممة الحافظة لهذا الخط، ولم يترك النبي (صلى الله عليه وآله) الامة دون أن يشير الى خليفته من بعده، بل جعل لذلك الأمر الخطير من الأهمية ما بلغت به حدا كبيرا من الاحاديث المتواترة المتفق عليها والتي لم يستطع أحد انكارها، لكنها خضعت ومنذ الساعات الاولى لذلك المنهج الجديد الذي دبر امره بليل التآمر، فابتدات مرحلة الانكار والنسيان وتعدد وجوه الاحتمالات وظهور نظرية (حسبنا كتاب الله) وابتدأت معها رحلة أهل بيت النبوة في التصدي لهذا الانقلاب الذي ذكره الله تعالى في محكم التنزيل يوم وقعة أحد التي انهزم فيها الجمع وولوا الأدبار، فقال جل شأنه: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ)، وهي الآية التي أحدثوا فيها برأيهم ما ينزه المنقلبين عن هذه المثلبة، فأصبح الرأي -كل الرأي- أنها مختصة بأولئك الذين بان ضعف عقيدتهم عند ذلك الجبل المنفرد بين الجبال، وأنها لا تشمل الذين غصبوا الخلافة ومنعوا مواريث الانبياء.
كان للسيدة الزهراء عليها السلام موقف آخر لم يكن في حسابات القوم، ولم يكن ضمن دائرة توقعاتهم في منهجهم الغاصب للحقوق أن يجابهوا بمثل هذا المنطق الذي بينت فيه ( صلوات الله وسلامه عليها) المصداق الحقيقي لهذا الانقلاب وبينت فيه مظاهره، لتثبت أمرا كانوا يحذرون بيانه ويحرصون أشد الحرص على اخفائه ولكن يأبى الله الا أن يتم نوره.
خطبت الزهراء ( عليها السلام) خطبتها وهي تعلم أن أيامها معدودة بعد فقد أبيها المصطفى (صلى الله عليه وآله) وهي المبشرة بأنها أول من يلحق به لكنها أرادت أن تلقي بالحجة على هؤلاء ولتبين ظلامتها، أرادت أن تمنح لكل مؤمن ومؤمنة سلاح المواجهة الذي لا يعترف بقوة الطغاة ولا مناهجهم، أرادت أن تنسف نظرية عدالتهم التي جرت على هذه الأمة ويلات الخنوع والخضوع لعجول حرص السامري على أن يكون خوار غوايتها مستمر لا انقطاع له.
خطبت فكانت تزين البلاغة بكلماتها وابتدأت بالحمد :( الحمد لله على ما أنعم، وله الشكر على ما ألهم، والثناء بما قدّم، من عموم نعم ابتدأها، وسبوغ آلاء أسداها، وتمام منن أولاها..)، ثم شهدت بأن محمدا (صلى الله عليه وآله) اباها.. (وأشهد أنّ أبي محمداً(النبي الأمي)(ص) عبده ورسوله، اختاره وانتجبه قبل أن أرسله، وسمّاه قبل أن اجتباه، واصطفاه قبل أن ابتعثه..)، ثم بعد كلام طويل عادت لتؤكد من هي (أيها الناس، اعلموا أنّي فاطمة وأبي محمد(ص)، أقول عوداً وبدواً، ولا أقول ما أقول غلطاً، ولا أفعل ما أفعل شططاً..) اتماما للحجة، ثم أنها (عليها السلام) ذكرتهم بما كانوا عليه في جاهليتهم وذكرتهم بفضل الله عليهم حين أرسل لهم خاتم الأنبياء (ص) لينقذهم فقالت: (وكنتم على شفا حفرة من النار، مِذْقَة الشارب ونهزة الطامع، وقبسة العجلان، وموطئ الأقدام، تشربون الطرق، وتقتاتون القدّ، أذلة خاسئين صاغرين، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم، فأنقذكم الله تبارك وتعالى بمحمدٍ(ص) بعد اللّتيا والتي..)، حتى كأن ذلك التذكير كان بمثابة المقدمة لكشف حقيقة كونهم المصداق الواضح لمفهوم الانقلاب على الاعقاب الذي كان من جملة ما يغيضهم معرفته فقالت عليها السلام وهي تفسر آية الانقلاب قبل أن تتلوها: (فلما اختار الله لنبيّه دار أنبيائه، ومأوى أصفيائه، ظهر فيكم حسيكة النفاق، وسمل جلباب الدين، ونطق كاظم الغاوين، ونبغ خامل الأقلّين، وهدر فنيق المبطلين، فخطر في عرصاتكم، وأطلع الشيطان رأسه من مغرزه هاتفاً بكم، فألفاكم لدعوته مستجيبين، وللغرّة فيه ملاحظين، ثم استنهضكم فوجدكم خفافاً، وأحمشكم فألفاكم غضاباً، فوسمتم غير إبلكم، ووردتم غير مشربكم..)، ثم ذكرتهم: ( هذا والعهد قريب والكلم رحيب، والجرح لمّا يندمل، والرسول لمّا يُقبر) واسترسلت لتذكر ظلامتها ومنعها ارثها، حتى رمت بطرفها نحو الانصار مخاطبة اياهم: (ما هذه الغميزة في حقي والسِّنةُ عن ظلامتي؟) الى أن بلغت
(سلام الله عليها) الآية الشريفة: (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين)، لتثبت بذلك أن هؤلاء هم المصداق الحقيقي للمنقلبين على أعقابهم، وأن كل محاولة لهم -بعد هذه الخطبة- لدفع هذه المثلبة عنهم لن تجدي نفعا، وان بذلوا ما بوسعهم لتمرير أطروحة عدالتهم المطلقة في كتب اتباعهم، فالصديقة الطاهرة (ع) وهي أم أبيها العالمة بالوحي لم تكن لتقرأ هذه الآية في شأن انقلابهم وهي تعلم أنها نزلت فيمن ولى الدبر في واقعة أحد كما يحاول سماسرة التاريخ المزيف أن يصور ذلك ليستثني من يشاء، وقد وقع مثل هذا الأمر في مراحل مختلفة لاحقة كان الأئمة من ذرية الزهراء ( صلوات الله عليهم ) بالمرصاد لردها فقد ورد عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام): إن العامة تزعم أن بيعة أبي بكر حيث اجتمع لها الناس كانت رضا لله، وما كان الله ليفتن أمة محمد من بعده، فقال أبو جعفر (عليه السلام): وما يقرؤون كتاب الله؟ أليس الله يقول (وما محمد إلا رسول قد خلت من قبلهالرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم) قال: فقلت له: إنهم يفسرون هذا على وجه آخر قال: فقال: أوليس قد أخبر الله عن الذين من قبلهم من الأمم أنهم اختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات حين قال ( وآتينا عيسا بن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) الى قوله: ( فمنهم من آمن ومنهم من كفر).. ففي هذا ما يستدل به على أن أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام قد اختلفوا من بعده، فمنهم من آمن ومنهم من كفر.
أما الرأي الثاني في تفسير هذه الآية وهو مما يصرون عليه وقد أشير اليه في الرواية السابقة بعبارة : (إنهم يفسرون هذا على وجه آخر)، فأنه جاء بألفاظ عدة تفيد المعنى ذاته بكون الآية قد نزلت في شأن واقعة أحد ولا مجال لتعميمها- بحسب رأيهم- ونذكر بعضا مما ورد في تفسير ابن كثير وهو نموذج مما عليه اجماعهم:
"لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحد وقتل من قتل منهم، نادى الشيطان: ألا ان محمدا قد قتل،ورجع ابن قميئة الى المشركين فقال لهم: قتلت محمدا، وانما كان قد ضرب رسول الله فشجه في راسه، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس، واعتقدوا ان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك –كما قد قص الله عن كثير من الانبياء عليهم السلام- فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال، ففي ذلك أنزل الله تعالى ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل ) أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه، قال ابن أبي نجيح عن أبيه: ان رجلا من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له: يا فلان اشعرت أن محمدا صلى الله عليه وسلم قد قتل، فقال الأنصاري: ان كان قد قتل فقد بلغ، فقاتلوا عن دينكم فنزل ( وما محمد الا رسول قد خلت من قبله الرسل) رواه الحافظ البيهقي في دلائل النبوة، ثم قال تعالى منكرا على من حصل له ضعف ( أفأن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ) أي رجعتم القهقرى...).
لقد بينت الزهراء (عليها السلام) في جوانب مهمة من خطبتها الفدكية أن قضية السقيفة والبيعة ومنع الأرث وانكار حق أمير المؤمنين (عليه السلام) في الخلافة وغيرها من أحداث ماهي الا مظاهر متعددة للانقلاب على الاعقاب وأن المصداق الحقيقي لهذا الانقلاب السافر هو تلك الوجوه الغاصبة لحقها وأنه سيشكل –كنتيجة حتمية- اساس الظلم والجور على أهل البيت وعلى الاسلام عموما حتى يقال لهم أن في الدار فاطمة فيكون الجواب: ( وأن )، وليعقب ذلك وصية سفيانية ستفتح الباب لملك عضوض يرتكز الى :( تداولوها.. فلا خبر جاء ولا وحي نزل).
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حسين فرحان
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/21



كتابة تعليق لموضوع : مظاهر ومصاديق الانقلاب على الأعقاب في خطبة الزهراء (عليها السلام)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net