صفحة الكاتب : الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

القرآن الكريم بين الشفاهي والمكتوب
الشيخ ليث عبد الحسين العتابي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

المقدمة

لقد كانت أطروحة ميلمان باري(1902ـ1935) (النعت التقليدي عند هوميروس) في عام (1928م) بمثابة الوثيقة المؤسسة لدراسة الفرق ما بين الشفاهي والمكتوب، فإن من أهم الأفكار التي طرحها (ميلمان باري) والتي ظلت مرجعاً مهماً لدراسة شفاهية الشعر (الشعر الشفاهي يكون إيقاعيا)؛ لأن الإيقاع يساعد على التذكر من الناحية الفسيولوجية، إن الأقوال في الثقافات الشفاهية تعتمد على الصيغ (الكليشيهات) و(الأمثال)، وهذه لا تعد مجرد زينة مضافة إلى الشعر بل تشكل هي نفسها (القانون) ويتميز الشعر الشفاهي بالأسلوب الإطنابي الغزير والمبالغات البلاغية الكلاسيكية.

بعده يعد ولتر أونج (1912ـ2003) المتمم للنظرية الشفاهية والكتابية في الأدب بعد ميلمان باري، والذي قدم أول تجميع لإرهاصات سابقيه فيها عبر الدراسات الانثروبولوجية، وهي نظرية حسب تعريف (أونج) لها: إننا من ينتمون إلى الثقافة الكتابية لنا من وسائل التفكير ما يختلف عن أسلافنا الشفاهيين الخلص الذين لا يعرفون الكتابة، ولا يعرفون حتي أن هناك صورة أخرى للقول في شكل كتابي.

نعم، فإذا كان المجتمع الانساني برز إلي الوجود منذ 50 ألف سنة تقريبا فان أقدم شكل كتابي مخطوط لدينا يرجع تاريخه إلي 6 ألاف سنة فقط. ولقد تطور الفكر الانساني بين مراحل شفاهية خالصة، ثم كتابية، ثم مرحلة عصر الميديا والتي يعتبرها (أونج) الشفاهية الثانوية، إلا انه يري أن العصر الالكتروني هو الذي مكننا من إدراك الفرق بين الثقافة الشفاهية والكتابية. فهل هناك عقل شفاهي وعقل كتابي؟ هذا ما أجاب عنه (أونج) مؤكدا علي أهمية ذلك بإحداث وعي خاص لنا، ووعي عام بماضينا الثقافي دون خلط السياقات([1]).

كما ويري (أونج) أننا ككتابيين ننظر إلي الكتابة بوصفها الشكل الاساسي للغة، وذلك حسب نظرية فرديناند دي سوسير (1857ـ1913) أبو علم اللغة الحديث، بينما الأصل في اللغة هو الشفاهية، فالكلمة المنطوقة، وسط كل العوالم الرائعة التي تتيحها الكتابة لا يزال لها حضور وحياة. فهي رغما عنها تتصل بعالم الصوت الموطن الطبيعي للغة.

ثم جاءت الكاتبة والمستشرقة الألمانية أنجيليكا نويفرت (1943 ـ ....م) لتطبق نظرية الشفاهي والمكتوب على ما يسمى بـ(القرآن والمصحف).

بعد ذلك تلقف الحداثيون العرب هذه النظرية (الشفاهي والمكتوب) ليطبقوها في كل مقالاتهم واطروحاتهم، ويعدوها من المسلمات ـ عندهم ـ وكأنها الفتح الكبير!؟

في هذا البحث سنتطرق لبعض كلماتهم وللرد عليها بما يسمح به المقام وما يتوافق مع طبيعة وحجم البحث.

انطلاقة الحداثة: اطلالة عامة

يُعد ديكارت هو من أطلق عصر الحداثة، وذلك عندما أسس لمركزية الإنسان([2])، وجعل باقي الأشياء تدور حوله، بعد ان كان الوجود هو المركز. فـ(إن الحداثة التي يؤسس لها ديكارت تجعل الإنسان نقطة الانطلاق من أجل الوصول إلى العالم، وليس العكس كما كان سائداً. والكوجيتو هو الصيغة التي يستخدمها أب الحداثة الغربية للإشارة إلى مبدأ الانطلاق من بذور الحقيقة التي وضعها الله فينا دون أن تولد منا)([3]).

إن هذه العقلانية([4]) الديكارتية تلتقي مع التجريبية والوضعية ولا تفارقها، بل تسير معها ان لم تكن تتماها فيها.

لقد تأسست جذور التنوير في أوربا على منهج فرنسيس بيكون (1561ـ1626م) في كتابه (الأورغانون الجديد)، والذي دعا فيه إلى اعتماد المنهج الاستقرائي و(التجربة) في الكشف عن قوانين الطبيعة وتطويعها لمصلحة الإنسان.

كما ولقد أسهمت آراء كوبر شافتسبري (1671ـ1713م) في إبعاد الدين عن الحياة عندما طالب بفصل الأخلاق عن الدين.

كذلك ساهم ديفيد هيوم (1711ـ1776م) في نشر العقلانية المادية عندما تبنى التجريبية في جميع المجالات، كما وقد جعل من الحواس مصدراً وحيداً للمعرفة اليقينية.

نعم، ان هناك ترابطاً ما بين العقلانية والتنوير، وتعد العقلانية أساساً للتنوير، وهما معاً يمثلان جوهر الحداثة.

أما كانط فقد كان يدين الكنائس التي تطوق العقل بمقدساتها، وكان يقول عنها بأنها مؤسسات تدوس بأرجلها على حقوق البشر المقدسة([5]).

إن الحداثة وبفعل نشأتها المادية تحولت بأجمعها إلى التجريبية والاستقراء والنسبية ليصبح كل شيء عندها نسبياً.

كما وقد اسهمت الحركة البروتستانتية بظهور الحداثة، فلقد (كانت الثورة البروتستانتية انتفاضة من الداخل قادها قساوسة وكهنة رفضوا فساد طبقة الكهنوت وظلمها، ورغم بعض الشكوك حول الحركة البروتستانتية، بسبب ميولاتها اليهودية، إلا أنها تبقى البؤرة التي ستفجر حركة الحداثة برمتها. لقد أراد لوثر أن يكسر احتكار الكهنوت للمقدس، وان يجعل من كل مسيحي قادراً على قراءة كتابه المقدس بنفسه، وعلى مواجهة ربه بشكل مباشر، وعلى التوبة إليه من دون وساطة. وربما كان ذلك أول بذور النزعة الفردانية التي ستكون واحدة من خاصيات الثقافة الحداثية)([6]).

إن البروتستانتية قد ساهمت عبر نشرها للتأويل الحر للنص الديني بانتشار التأويل الفردي الذي حول الآراء الضعيفة والشاذة إلى آراء قوية وأصيلة، ليختلط كل شيء بعد ذلك.

نعم، (لقد كانت الحداثة وليدة سياقها الغربي، متلبسة بالشك والقلق والعقل المزدحم بتمزقاته وانشراخاته في إضفاء التجسيد والحسية على عالم الموجودات عبر التعايش المأزوم الكامن داخل الإنسان الحديث الذي يعيش التناقض بين نزعة مضادة للطبيعة وحنين متعاظم تجاه هذه الطبيعة الضائعة والمضاعفة، حيث لا أفق سوى سديم العدمية والاستلاب)([7]).

ثم كان لنيتشه ونظرياته الأثر في تطور فكر الحداثة، فـ(يمثل فردريك نيتشه 1848ـ1900م، القادم من خارج الفلسفة، منعرجاً له أهميته في تاريخها. فهو بحسب الكثيرين يمثل حداً فاصلاً بين الحداثة والمعاصرة في تاريخ الفلسفة. وجد نيتشه أن سقراط يمثل الكارثة في تاريخ الحضارة الإنسانية، لأنه هو الذي أسس لمرجعية العقل وحده، وهو ما أنتج خضوع الإنسان للقيم والأخلاق والعقائد التي طالما كبلته وأفقدته حريته. وربما كان لتخصص نيتشه في فقه اللغة والآداب اليونانية واللاتينية أثره في إطلاق قدراته العاطفية والخيالية وحتى العقلية التي كانت عاصفة هوجاء أطاحت بكل ما قيل حول الإنسان حسب وصفه. هاجم نيتشه الدين الذي عايشه والأخلاق المنطلقة على أساسه، فالأخلاق عنده نسبية، ليس فيها شيء مطلق، أنها لا تتحرك خارج الزمان، بل داخله)([8]).

إن هذا باختصار مفيد وعام هو بيان لانطلاق ونشأة الحداثة في أوربا، والتي فتحت الباب للكثير من النظريات والاطروحات التي لا ولم تنتهي حتى يومنا هذا.

ما بين الكتاب والمصحف

إن جميع الاطروحات النقدية للقرآن الكريم من زمن نزوله وإلى يومنا هذا هدفها رفع القداسة عن القرآن الكريم، فالمشركون في زمن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم قالوا بأن هذا القرآن ليس من عند الله، وأنه كلام مفترى، وأنه مصنوع، وأنه من تعليم غير العرب، وما شاكل ذلك.

إن الهدف الرئيس من هذه الأطروحات هو ضرب قداسة القرآن الكريم، ولأجل ذلك تجد أعداء القرآن الكريم وفي كل يوم يأتون بنظرية جديدة، فيسرقون نظريات الأدب ونظريات الشعر ونظريات النقد ويلونونها بألوان باهتة ويلبسونها ملابس ليست لها ليسقطوها على القرآن الكريم، والمصيبة أنهم يتفاخرون بذلك وكأنهم جاءوا بفتح جديد!؟

على أثر ذلك يكتب الكاتب التونسي يوسف الصديق اطروحاته التي ليست إلا تكرار واجترار لمقولات المستشرقين وغيرهم ممن أشكل على الإسلام وعلى القرآن الكريم.

يقول يوسف الصديق: (إن ما كان مخفياً ولغزاً دوماً عصياً عن أن يكون مادة للتفكر، ذلك الذي لا نقوى إلا على "ترتيله"، هو ذاته الشيء الذي يتحدد به كل نتاج ديني صار كتابة مقدسة، ذلك ما يسبغ عليه شرعية أبدية لكونه موحى من السماء)([9]).

يدعي يوسف صديق ان كل مخفي وعصي على الفكر سيلبس ثوب القداسة وذلك بسبب صعوبته!؟

ان هذا قياس هو وضعه بالنظر للإنجيل في أوربا في زمن سيطرة الكنيسة، فهو يسقط تلك الحالة على حالة القرآن الكريم وعلى حال المسلمين، وهو قياس مع الفارق، بل هو كذب وتجني لا دليل عليه إلا في عقله هو فقط.

كما ويقول يوسف صديق: (ان علاقة التخاطب التي تصل النبي بالله كانت تتحقق من خلال فجوة يمتنع وصلها، تفصل أبداً الكلم الموحى عن متلقيه ذي الطبيعة البشرية. تفتح تلك الفجوة نفسها الباب أمام خطر التشوش والخلط والتسللات الخداعة الذي يطال قولاً مغايراً تنزل على أنه ذو مصدر إلهي. أنها كذلك الفجوة التي دأبت مؤسسة التفسير على رأبها وهي التي أعطت كل ذلك الحجم لنبي حل على طراز جديد، نبي مفكر مختلف عن نحل أنتج عسلاً وأرض تزلزلت، يحمل عبء الأمنيات في سعيه للتأمل في العالم المشوش وإدراكه)([10]).

إن يوسف صديق يريد ـ هنا ـ قطع المصدر الغيبي عن الرسالة الإسلامية، ويريد ان يسميها بـ(الفجوة)، وهي بالحقيقة فجوة في تفكيره؛ كونه لا يتقبل غير المحسوس، وسؤالنا له: هل ان اعتقادك بوجود فجوة محسوس أم غير محسوس؟

إن كان محسوساً فدعنا نراه، وان كان غير محسوس فكلامك ساقط عن الاعتبار؛ ذلك ان هناك الكثير من الأشياء في الحياة نؤمن بها ونعمل وفقها وهي ليست موجودة كالحب والكره والغضب والجوع والعطش.. الخ

كما ويقول يوسف صديق: (واقع الحال أن كل فكر يدور حول حيثيات هذا الوحي يجد نفسه مجبراً على التعامل مع الوضع كما ورد، أي مع هذا التباين الفجّ بين الشفوي والمكتوب غداة إنجاز ما دُفعنا إلى تسميته بالمصحف)([11]).

إن يوسف صديق يتبنى نظرية الفرق ما بين (الشفاهي) وبين (المكتوب)، وهو ليس بالكلام الجديد مطلقاً، بل هو مكرر، أو مسروق، ولو تتبعنا قوله وقول سعيد ناشيد ـ على سبيل المثال ـ لم نعرف من الذي سرق من الآخر؟

كما ويقول يوسف صديق: (إن ما أصر عليه القرآن في نزوله ضمن لغة "مختارة"، وهي العربية، لا يمكن أن يفسر على ضوء ما أراد له الموروث بالقول بنيّة إلهية في تحريك مشاعر الفخر لدى جماعة لغوية أضحت القائمة على الكتاب المنزل. ولكن كيف لهذه اللغة العربية التي لم يسبق لمستخدميها أن مروا بمواجهات حضارية وثقافية وتجارية ودينية، ولا هم قد ساهموا أيضاً في الثورة الكتابية، كما يؤكدون، كيف أمكنها أن تحمل كلما أفلحت في ترويجه وتشكلت به رسالة إلهية حولت العالم وقد كان وليد هذه المواجهات نفسها التي غيبها عرب ذلك العصر)([12]).

إن هذا الكلام قال به قبله الكثير من المستشرقين، ولقد تبناها المدعو كريستوفر لكسمبورغ، والذي لديه إشكالات على اللغة العربية، وعلى مسألة نشأة قواعدها، وعلى نشأة المعاجم، وما شاكل ذلك، ليأتي يوسف صديق ليأخذها أو يسرقها ويتبناها وكأنها من بنات أفكاره.

رفع القداسة عن القرآن الكريم

على منوال من سبق من مستشرقين وحداثيين ينطلق الكاتب المغربي سعيد ناشيد مقلداً لمن سبقه في طعنهم على القرآن الكريم، من خلال اطروحات مستنسخة ومجترة ومكررة.

يقول سعيد ناشيد: (يعبر القرآن الكريم عن ثلاث قضايا متفاوتة، لا يجوز بأي حال من الأحوال أن نستمر في الخلط بينها: أولاً، قضية الوحي الإلاهي؛ ثانياً، قضية القرآن المحمدي؛ ثالثاً، قضية المصحف العثماني)([13]).

نقرأ هنا مدى الخلط الكبير والكثير عند سعيد ناشيد، فهو يقسم القرآن الكريم ـ بحسبه ـ إلى ثلاثة أقسام: قرآن إلهي، وقرآن محمدي، ومصحف عثماني.

إننا لو دققنا النظر في مقولته هذه فإنها خليط من السرقة لنظريات ثلاثة علما هم: ميلمان باري، وولتر أونج، وأنجيليكا نويفرت.

إن سعيد ناشيد لم يأت بجديد من حيث الطرح العام، لكنه زاوج بسرقته بين خليط من الطروحات التي لا يمكن ان تتمازج في بعض جوانبها، وما ذلك إلا لقلة معرفته وانعدام ادراكه لحقيقة القرآن الكريم، فتطبيق النظريات يحتاج لتشابه (النماذج)، ذلك ان عماد كل نظرية هو (النموذج) وإلا فإن النظرية ميتة.

ثم نجد سعيد ناشيد يقول: (اننا نعتبر قضية الوحي الإلاهي بمثابة قضية منفصلة ومستقلة عن قضية القرآن المحمدي، فالقرآن خطاب لغوي قام به النبي القرشي للصور الوحيانية، خضع في كل صوره وأطواره للظروف الذاتية والموضوعية لشخصية الرسول عليه السلام:

ـ الظروف الذاتية، تتعلق بمزاج وثقافة وشخصية وانفعالات الرسول، وهذا ما يفسر التفاوت العاطفي والانفعالي والنفسي بين مختلف آيات الخطاب القرآني. وهذا باعتراف الخطاب القرآني نفسه كما سنرى.

ـ الظروف الموضوعية، تتعلق عموماً بأسباب النزول وسياق التنزيل وملابسات الأسئلة، والظروف الواقعية والتاريخية، وهذا ما يفسر اختلاف الأحوال وتضارب الأحكام واشتباه المعاني واحتمال الأوجه. وهذا مرة أخرى، باعتراف الخطاب القرآني نفسه كما سنرى)([14]).

إن سعيد ناشيد يجعل من ظروف القرآن الكريم ـ بحسب مدعاه ـ ظرفين هما: الظرف الذاتي، والظرف الموضوعي، ويدعي التضارب ما بين الظرفين؟!

أما عن مرحلة المصحف العثماني كما يسميها سعيد ناشيد يقول: (وهناك أيضاً قضية المصحف العثماني من حيث كونها قضية منفصلة ومستقلة في الزمان والأحوال، وفي المضامين والأشكال، عن قضية الوحي الرباني بكل تأكيد، وأيضاً عن قضية القرآن المحمدي على وجه التحديد، وهي ثمرة اجتهاد تاريخي أنجزه المسلمون على مدى سنوات طويلة. إذاً، نحن لا نعرف القرآن الكريم على وجه الدقة والتحديد إلا من خلال تمظهره الأخير: المصحف العثماني)([15]).

فيدعي ان المصحف الموجود حالياً هو المصحف العثماني، وليس المصحف الأول الذي جاء به النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.

ويقول في موضع آخر: (إذا دفعنا مسلمة "كلٌ من عند الله" إلى حدودها القصوى فسنقع في مستنقع الآراء الأكثر سذاجة، والتي تظن بأن المصحف بخطه وأوراقه، وربما بمداده أيضاً، كلٌ من عند الله! ومن ثم فقد كان الأجدر بنا أن نسميه بالمصحف الرباني أو الإلهي! إلا أن الواقع يؤكده الاصطلاح نفسه: المصحف العثماني)([16]).

إن سعيد ناشيد يذهب إلى الإسقاط والسفسطة ليمرر قضية ان المصحف بورقه وحبره مقدس!!!

ما هذا إلا طرح مضحك بكل معنى الكلمة، ومن خلال هذا الطرح تتبين طبيعة فكر وعقل وطرح سعيد ناشيد.

يقول الأستاذ خليل عبد الكريم بهذا الصدد: (لم يجد الأمويون محمدة يضيفونها إلى جانب عثمان سوى أنه جمع القرآن ودونه في مصحف وحدّ المسلمين عليه، ثم تولى جهاز دعاية الأسرة الأموية تضخيم هذا العمل ونشره على أوسع نطاق. لم يقف الأمر عند ذلك بل أخذوا ينسبون المصحف الإمام إليه فقالوا: مصحف عثمان، أو المصحف العثماني والخط العثماني والرسم العثماني، وللأسف ابتلع المسلمون الطيبون المخمومو القلوب هذا الطعم وخاصة أهل السنة والجماعة وما زالوا)([17]).

نعم، فلقد رافق ما يسمى بـ(المصحف العثماني) دعاية أموية نسبته إلى عثمان بن عفان، وهذه الدعاية انطلقت من مروان بن الحكم، وتبناها كل آل أمية، بل كل اهل السنة والجماعة من بعدهم وإلى يومنا هذا.

أما عن بشرية القرآن الكريم وتوجيه الانتقادات له يقول سعيد ناشيد: (إن القرآن ترجمة بشرية للصور الوحيانية التي لها مصدر إلهي ورباني بالفعل، غير أنها ترجمة أنجزها الرسول نفسه في خطاب وجهه إلى الناس في تلك العصور القديمة الماضية وفق ثقافتهم وظروفهم ومدركاتهم. ولأن الأمر كذلك، فقد تمت صياغة الوحي الرباني باستعمال المعطيات التالية:

أولاً، باستعمال لغة عربية بالفعل، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل قواعد النحو.

ثانياً، باستعمال مفاهيم سياسية واضحة بالفعل، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل دولة المؤسسات.

ثالثاً، باستعمال مفاهيم علمية يدركها الناس، غير أنها تنتمي إلى مرحلة ما قبل مناهج العلم.

لهذا السبب، لا يجوز لنا بأي حال من الأحوال أن نقيّم القرآن بمقاييس الحداثة السياسية والثورة العلمية وحقوق الإنسان، ولا يجوز لنا أن نتعامل معه كنص في العلم أو السياسة أو الأخلاق. وإذا فعلنا ذلك فإننا سنقترف جرماً كبيراً)([18]).

فهو هنا يتبنى نظرية التفريق ما بين الكتاب والمصحف التي قال بها المستشرقون، وقال بها قبله محمد شحرور، إذ لم يأت سعيد ناشيد بأي جديد، بل طرحه مجرد اجترارات لمقولات من سبقه.

وفي هذا المجال ورداً على دعوى بشرية القرآن الكريم يقول الأستاذ محمد عبد الرحمن سلامة: (فالوحي القرآني ليس كلاماً بشرياً لتطبق عليه نظرية تقابل الشفاهية ـ الكتابية. ذلك أن هذا التقابل قائم في شقه الشفاهي على البحث عن أدوات التفكير والتعبير لدى من لا يعرفون الكتابة. والوحي القرآني ليس ناتجاً عن تفكير بشري، وليس نتاجاً بشرياً، بل كلام إلهي نصاً ومعنى، والدور البشري مقتصر على التلقي والحفظ، وإن كان يمكن إطلاق لفظ الشفاهية على مشافهة الرسول الملكي للرسول البشري بالوحي، فالقرآن لم ينزل كنص مكتوب من السماء، بل منجماً سماعاً من الرسول الملكي. ومن هنا يمكن القول بأن الشفاهية بمعنى التلقي الشفاهي ـ لا بمعنى الناتج الشفاهي ـ أصل الوحي القرآني، وهو ما تؤكده النصوص الصحيحة الثابتة عن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذا الشأن وعدم الانطلاق من هذه المسلمة يحوجنا إلى الدخول في نقاش عقدي لإثبات صحة الوحي مما يخرج بنا عن موضوع البحث)([19]).

نعم، ان القرآن الكريم ليس كلاماً بشرياً، وليس هناك دليل على انه كلام بشري، بل ليس هناك أي دليل وجود تفاوت فيه، وإلا فإنه ومنذ 1400سنة اطلق القرآن الكريم التحدي للإتيان بمثله أو بسورة من مثل سوره، ولم يستطع أحد أن يأتي بذلك، ولو استطاع أحد ذلك لانتشر كلامه ولوصلنا، فإن ذلك أكبر دليل على عدم قدرة البشر على معارضته أو نقضه.
([1]) يراجع كتاب: الشفاهية والكتابية تأليف ولتر أونج طباعة عالم المعرفة ـ الكويت.

([2]) مركزية الفكر الإنساني.

([3]) فتنة الحداثة، قاسم شعيب: 12.

([4]) العقلانية المادية.

([5]) الإجابة عن سؤال ما التنوير؟، إيمانويل كانط، ترجمة: عبد الغفار مكاوي: 285ـ292.

([6]) فتنة الحداثة، قاسم شعيب: 20.

([7]) فتنة الحداثة، قاسم شعيب: 21ـ22.

([8]) فتنة الحداثة، قاسم شعيب: 22ـ23.

([9]) هل قرأنا القرآن، يوسف الصديق: 8.

([10]) هل قرأنا القرآن، يوسف الصديق: 10.

([11]) هل قرأنا القرآن، يوسف الصديق: 17ـ18.

([12]) هل قرأنا القرآن، يوسف الصديق: 158.

([13]) الحداثة والقرآن، سعيد ناشيد: 10.

([14]) الحداثة والقرآن، سعيد ناشيد: 10.

([15]) الحداثة والقرآن، سعيد ناشيد: 10.

([16]) الحداثة والقرآن، سعيد ناشيد: 17.

([17]) إلا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، خليل عبد الكريم: 72.

([18]) الحداثة والقرآن، سعيد ناشيد: 11.

([19]) الشفاهية والكتابية والوحي القرآني (بحث)، محمد عبد الرحمن سلامة، مجلة جامعة المدينة العالمية، العدد الثامن عشر ـ أكتوبر 2016م: 62.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ ليث عبد الحسين العتابي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/19



كتابة تعليق لموضوع : القرآن الكريم بين الشفاهي والمكتوب
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net