صفحة الكاتب : شعيب العاملي

القُلُوبُ الْمُنْكَسِرَةِ !
شعيب العاملي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم
 
أَيْنَ اللَّهُ؟
 
سؤالٌ غريبٌ يُوَجَّهُ لخاتم الأنبياء والمرسلين محمدٍ صلى الله عليه وآله، فهو الرسول الذي أتى بِدِينٍ يُنزَّهُ فيه الله تعالى عن الحلول في الأماكن، وعن مُشَاكَلَةِ الأجسام، وعن الحلول والإتحاد..
 
لكن الأغرب منه هو جوابُه صلى الله عليه وآله، فلم يتعرَّض لتنزيه الله، إنما أجاب على سؤال (أَيْنَ اللَّهُ؟) بقوله:
 
عِنْدَ الْمُنْكَسِرَةِ قُلُوبُهُم‏! (الدعوات ص120)
 
فما معنى أن الله عند المنكسرة قلوبهم؟! وكيف ذلك؟
 
يُبيِّنُ حديثٌ آخرُ له (ص) شيئاً من ذلك حين يقول:
إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ‏.
 
القلبُ المُنكَسِرُ والحزين يصيرُ محلاًّ لرحمة الله وعطفه، وثوابه وعطائه.
ليس حُبُّ الله تعالى كحبّ العباد، فلا تطرأ على الله الحالات ولا تعرض عليه صفاتٌ نفسانية كالإنسان، فحُبُّه تعالى هو ثوابه..
 
والله تعالى (يُحِبُّ كُلَّ قَلْبٍ حَزِينٍ‏).
فلم يخصِّص الحديثُ قلبَ المؤمن الحزين، بل كلّ قلبٍ حزين منكسر، وإذا كان المراد من الحبّ هو المثوبة، فإنّ الله تعالى يثيب كلّ قلبٍ حزين ولو كان من غير أهل الإيمان، غاية الأمر أن ثواب أهل الإيمان يأتي في يوم الجزاء، وثواب غير المؤمن يكون في الدنيا، أو تخفيفاً من العذاب في الآخرة، بل قد تكون رقة القلب طريقاً وباباً للهداية..
 
إنّ القلوب القاسية بعيدةٌ عند الله تعالى، وقَسوَةُ القلب من أسوأ صفات العباد، وقد قُرِنَت في النصوص بأعظم الفواحش، حتى وصف الإمام عليه السلام زمناً قال فيه: وَرَأَيْتَ قُلُوبَ النَّاسِ قَدْ قَسَتْ وَجَمَدَتْ أَعْيُنُهُمْ.. فَكُنْ عَلَى حَذَرٍ، وَاطْلُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ النَّجَاة (الكافي ج8 ص40).
 
قسوةُ القلوب وجمود العين مدعاةٌ للحذر، لأنّ المتّصفَ بها وبغيرها من صفات السوء يصير: فِي سَخَطِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَإِنَّمَا يُمْهِلُهُمْ لِأَمْرٍ يُرَادُ بِهِم‏!
 
وما يوصل العبدَ إلى هذه القساوة إلا المعاصي، فعن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ عليه السلام: مَا جَفَّتِ الدُّمُوعُ إِلَّا لِقَسْوَةِ الْقُلُوبِ، وَمَا قَسَتِ الْقُلُوبُ إِلَّا لِكَثْرَةِ الذُّنُوب‏ (علل الشرائع ج1 ص81).
 
كلماتٌ عظيمة تستحقُّ الوقوف عندها ملياً، وتكشف أن ههنا طريقان:
 
أولّهما.. طريق المعاصي.. والمعصية يعقِبُها قسوة القلوب، ويتلوها جفاف الدموع.. ومآل ذلك إلى سخط الله تعالى.
 
ثانيهما.. طريق الطاعة.. والطاعة يعقبها رقة القلب ولينه.. ويتلوها انهمارُ الدموع.. ومآل ذلك إلى محبّة الله وقربه وثوابه.
 
فَمَن وُفِّقَ للثانية نال خيراً ليس بعده خير، فعن الإمام الصادق عليه السلام: مَا مِنْ شَيْ‏ءٍ إِلَّا وَلَهُ كَيْلٌ وَوَزْنٌ، إِلَّا الدُّمُوعُ:
كيف ذلك يا ابن رسول الله؟ فإن الدمعة كسائر الأجسام قابلةٌ للوزن بميزان اليوم؟
 
يريد عليه السلام معنىً آخر حين يقول: فَإِنَّ الْقَطْرَةَ تُطْفِئُ بِحَاراً مِنْ نَارٍ (الكافي ج2 ص481).
هكذا لا يكون لقطرةٍ من الدموع ما يعادلها في الميزان!
 
وفي رواياتنا إشاراتٌ إلى أصنافٍ من الدموع منها:
 
1. الدمعة من خشية الله:
 
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ ع قَالَ: كُلُّ عَيْنٍ بَاكِيَةٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غَيْرَ ثَلَاثٍ: عَيْنٍ سَهِرَتْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَعَيْنٍ فَاضَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ، وَعَيْنٍ غُضَّتْ عَنْ مَحَارِمِ اللَّهِ (الكافي ج2 ص80).
العين التي فاضت من خشية الله هي مصداقُ الدمع الذي تطفئ قطرةٌ منه بحاراً.
 
2. الدمعة على آل محمد:
 
عن أبي عبد الله عليه السلام: لِكُلِّ شَيْ‏ءٍ ثَوَابٌ إِلَّا الدَّمْعَةَ فِينَا (كامل الزيارات ص106).
(كلُّ شيء) يشمل كلّ أفعال الإنسان العبادية وغيرها، فلكلٍّ منها ثوابٌ إلا الدمعةُ على آل محمد، لا يعدلها شيء.. وكيف يعدلها شيء والقطرة منها لا تُكال ولا توزن، وهي التي تطفئ بحاراً من نار.
إنّ حقيقة هذه المسائل بعيدةٌ كلَّ البُعدِ عن أذهاننا، فلا نُدركُ سوى بعض مفاهيمها، أما حقيقة ذلك فإلى يومٍ تُرفَعُ فيه الحُجُبُ والأستار..
 
إنّ المؤمن حين يبكي عليهم فإنّه يتشبّه بملائكة الرحمان، فقد ورد في الحديث:
مَا رَقَأَتْ دُمُوعُ الْمَلَائِكَةِ مُنْذُ قُتِلْنَا، وَمَا بَكَى أَحَدٌ رَحْمَةً لَنَا وَلِمَا لَقِينَا إِلَّا رَحِمَهُ اللَّهُ قَبْلَ أَنْ تَخْرُجَ الدَّمْعَةُ مِنْ عَيْنِهِ، فَإِذَا سَالَتْ دُمُوعُهُ عَلَى خَدِّهِ فَلَوْ أَنَّ قَطْرَةً مِنْ دُمُوعِهِ سَقَطَتْ فِي جَهَنَّمَ لَأَطْفَأَتْ حَرَّهَا حَتَّى لَا يُوجَدَ لَهَا حَرٌّ!
 
هذه هي القلوب المنكسرة الحزينة الرحيمة، التي تبكي رحمةً لهم ولما وقع عليهم.. فيجازي الله صاحب هذا القلب الموجوع منذ لحظة موته وحتى وروده على الحوض.
 
يقول عليه السلام:
وَإِنَّ الْمُوجَعَ لَنَا قَلْبُهُ لَيَفْرَحُ يَوْمَ يَرَانَا عِنْدَ مَوْتِهِ فَرْحَةً لَا تَزَالُ تِلْكَ الْفَرْحَةُ فِي قَلْبِهِ حَتَّى يَرِدَ عَلَيْنَا الْحَوْض‏ (كامل الزيارات ص102).
هي فرحةٌ للمؤمن متَّصِلَةٌ مُستدامَةٌ منذ ساعة الموت إلى أن يوم الساعة..
 
3. الدمعة على الأحبة:
 
إنّ رِقَّةَ القلب على فراق الأهل والأحبّة وعلى ذكراهم قد تصيرُ باباً للقرب من الله تعالى بالدعاء، فقد سأل إسحاق بن عمار الإمام الصادق عليه السلام فقال:
أَكُونُ أَدْعُو فَأَشْتَهِي الْبُكَاءَ وَلَا يَجِيئُنِي، وَرُبَّمَا ذَكَرْتُ بَعْضَ مَنْ مَاتَ مِنْ أَهْلِي فَأَرِقُّ وَأَبْكِي، فَهَلْ يَجُوزُ ذَلِكَ؟
 
فأجابه الإمام عليه السلام:
نَعَمْ فَتَذَكَّرْهُمْ، فَإِذَا رَقَقْتَ فَابْكِ وَادْعُ رَبَّكَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى (الكافي ج2 ص483).
 
هكذا يكون المؤمن.. صاحبَ قلبٍ كسير.. حزين.. مهموم.. موجوعٍ على ما نالَ آل محمد.. لا ترقأ له دمعة.. ولا يلتئم جرحه..
كلَّما ذكر من مات من أهلِه رَقَّ قلبُهُ فدعا الله سبحانه وتعالى، فتُفتَحُ له أبواب السماء..
 
هكذا هو صاحبُ القلب الكسير، يتألم لعباد الله المؤمنين، ويبكي لهم، لكن لا شيء يعدل بكاءه من خشية الله، وبكاءه ووجعه لآل محمد..
 
اللهم إنا نسألك بالقلوب المنكسرة من خشيتك، والعيون الباكية على عترة نبيك.. أن ترحم موتانا وتشافي مرضانا وترفع عن المؤمنين كلّ بلاء يا أرحم الراحمين.
 
والحمد لله رب العالمين
 
في ذكرى ولادة الحسين عليه السلام 1442 هـ


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


شعيب العاملي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/18



كتابة تعليق لموضوع : القُلُوبُ الْمُنْكَسِرَةِ !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net