صفحة الكاتب : ايليا امامي

نشر الكاتب ايليا امامي على قناته في برنامج التواصل التلغرام  ملفاً ( مطولاً ) بعض الشيء حول زيارة البابا فرنسيس الى العراق .

وقال الكاتب أن سبب التطويل " أني جمعت فيه أغلب الأفكار التي تم تداولها وناقشتها ، ولهذا فهو لم يكتب لليوم فقط ، ولا لتتم مطالعته كاملاً ، بل هو ملف أرشيفي وتحليلي قابل للاستفادة من قبل الباحثين في السنوات اللاحقة . 

ملاحظة : استغرق مني هذا الملف ما يقارب 25 ساعة رغم الوضع الصحي غير المستقر ، لذا أسألكم الدعاء أولاً ، وأتمنى منكم المسامحة وإعطائي المزيد من الوقت بالنسبة للمقالات التي وعدتكم بها .

وأدناه نسخة pdf من الملف أتمنى أن ترضي حبكم للمطالعة ، ونسألكم الدعاء .

وننشر الملف كاملا للفائدة ... 

أولاً : من هو الضيف ؟
 1. يعتبر البابا الأرجنتيني الأصل خورخي ماريو بيرجوليو هو البابا الـ 266 للكنيسة الكاثوليكية ، ويحظى بشعبية كبيرة في الوسط المسيحي ، بحيث يعتبر ( المجمع الانتخابي المغلق ) الذي قام بانتخابه للبابوية ، من أقصر المجمعات في تاريخ الكنيسة ، مما يدل على الاتفاق المسبق حول شخصيته ، وأنه الخيار الأنسب بعد استقالة سلفه البابا بندكت السادس عشر .
 2. منصب البابا هو أرفع منصب مسيحي في العصر الحالي ، وتضفى عليه ألقاب كثيرة تدل على مكانته ، كممثل المسيح على الأرض ، وخليفة بطرس أمير الرسل ، وأسقف روما الأكبر ، وسيد دولة الفاتيكان ، والحبر الأعظم ، وغيرها من الألقاب البابوية .
 3. يعتبر البابا من أقوى الشخصيات العالمية تأثيراً ( روحياً وثقافياً وحتى سياسياً ) على 1.3 مليار كاثوليكي ، يشكلون ما نسبته 17% من البشر ، و ما نسبته 51% من المسيحيين في العالم ، وفي الولايات المتحدة يشكلون نسبة 24% من السكان ، بينما يشكلون الغالبية العظمى من المسيحيين في أمريكا الجنوبية .
 4. تعد الكنيسة الكاثوليكية أكبر مؤسسة للتعليم والرعاية الصحية في العالم وتنشط بشكل كبير في الدول الفقيرة والنامية ( وهذه نقطة يجدر التركيز عليها ). 
 5. البابا الحالي معروف بالنزعة الإصلاحية والانفتاح والعمل للفقراء ، ومنذ اليوم الأول لتنصيبه خالف الكثير من الأعراف الكنسية ليكون مندمجاً مع الناس ، ويوقف خسارة الكنيسة للمزيد من الأتباع ، وهو ( البابا القادر على إحداث تغييرات مهمة في الكنيسة ) بحسب وصف البروفيسور اللاهوتي الألماني هانز كونز .
 6. لم يصدر منه موقف لافت ضد السياسات العالمية ولصالح الشعوب المحرومة منذ بداية حبريته قبل 8 سنوات وحتى الآن ، وإنما يكتفي _ على طريقة الكنيسة _ بكلمات مختصرة وفردية ، كما حصل في أربيل عند لقائه بوالد الطفل الغريق إيلان كردي الذي جرح ضمير العالم سنة 2015 بصورته المأساوية مرمياً على رمال ساحل البحر ، حيث قال البابا لوالده ( إن موت ولدك دليل على حضارة تحتضر ) .
 7. يدل اختياره لقب ( فرنسيس ) بوضوح على نزعة الاهتمام بالفقراء ، فقد صرح أنه متأثر بالقديس المدافع عن الفقراء فرنسيس الأسيزي ( قبل 1200 سنة ) وصرح كذلك بأنه يريد ( كنيسة تهتم بالفقراء ) وهذا طبيعي بملاحظة نشأته في الأرجنتين التي تعاني أوضاع اقتصادية صعبة استطاع البابا تحسسها منذ كان رئيس أساقفة بوينس آيرس ( عاصمة الأرجنتين ) حيث تخلى عن المنزل الرئاسي الذي توفره الكنيسة لرئيس الأساقفة ، وسيارة  1. الليموزين وسائقها الشخصي ، مكتفياً بالسكن في شقة صغيرة والتنقل بالمواصلات العامة .
 8. أغلب المواضيع الجدلية التي تطال باباوت الكنيسة المتأخرين وأكثرها حدة ، لا علاقة لها بمواقفهم السياسية كما يحدث عندنا في الشرق الأوسط ، بل تتعلق بمواقفهم تجاه الاجهاض والحمل الاصطناعي والزواج المدني للمثليين والقتل الرحيم ( للمرضى ) ، و جرائم التحرش الجنسي بالأطفال التي دوماً ما تنال بعض رجال الكنيسة ، ويجد البابا نفسه وسط عواصف من الجدل الانتقادات تتداخل فيها أطراف ليبرالية و دينية ومنظمات وجمعيات وكنائس من مختلف التوجهات ، مع الإشارة أن هذه القضايا لا تأثير حقيقي لها على الزيارة الأخيرة للعراق ( باستثناء موضوع زواج المثليين ).
 9. موقف البابا من ( زواج المثليين ) كان هو الموضوع الأكثر جدلاً ، حيث أعاد فيلم وثائقي صدر عن حياته مؤخراً القضية الى الواجهة ، وبسبب هذه التصريحات فقد هاجمه الكاردينال الأمريكي رايموند بورك المعروف بمواقفه السلبية من البابا فرانسيس قائلاً عنه : ( يذرّ الارتباك في أوساط الكاثوليك ويثير حيرتهم ) وألقى هذا الجدل بظلاله على المتابع العراقي وتداولته بعض مواقع التواصل قبل أربعة أشهر ، وقد كان وقتاً محرجاً للبطريركية الكلدانية العراقية ، التي تعيش أجواء التحضير للزيارة ، مما اضطرها لإصدار بيان توضيحي ورد فيه : (  البابا لا يستعمل مصطلح الزواج للمثليين البتة ، البابا طالب المجتمع المدني والعائلات برعاية المثليين ومحبتهم وحمايتهم، ولم يقل أن يكوِّنوا أسرة ، أما عن قوله أن الجميع هم أبناء الله ، فهذا يعود الى أن الله خلق الانسان فهو بالتالي إبنه )
 
رغم استئصال جزء من رئته سابقاً ، ووجود خشية من إصابته بفايروس كورونا ، خصوصاً مع إصابة سفيره ليسكوفار الذي سبقه الى العراق ، ورغم المخاطر الأمنية في العراق ، والمواجهات التي سبقت الزيارة بين المتظاهرين والقوات الأمنية في ذي قار ، فقد أصر البابا على رحلته الرسولية ، مما فتح الباب واسعاً للتكهنات والتحليلات لدى بعض الأطراف العراقية المتوترة دائماً ، حول أبعاد هذه الزيارة ومقاصدها الخفية ، ولكن بملاحظة 33 رحلة رسولية سابقة قام بها البابا خلال حبريته الى ( أطراف العالم المسيحي ومجتمعاته الأقلية ) منذ توليه المنصب عام 2013 ، يمكن فهم زيارته الى العراق في سياقها الطبيعي ، وهو الحفاظ على الوجود المسيحي الغارق وسط الصراعات ، والذي بدأ يتلاشى في الشرق الأوسط ، ولكن يبقى المختلف الذي جعل هذه الزيارة توصف بالتاريخية ، هو ( السيستاني ).
* الرجل هو المعني الأول بتدوين مواقف المرجعية وبعض يومياتها المفصلية وتقديمها للجمهور ، كما في كتابه ( الرحلة العلاجية ) وكتبه وحواراته ومقابلاته الأخرى ، فيمكن القول أن وجوده في قلب الحدث ، يعني أن قلمه بدأ من الآن بتدوين أدق تفاصيل هذه الزيارة للتاريخ ، منتظراً _ أو منتظرين _ الوقت المناسب لنشرها .

* الطابع الديني للزيارة لا ينسينا أن الفاتيكان دولة ذات مقومات سياسية وتمثيل دبلوماسي ، وهي في وسط تجاذبات الشرق والغرب منذ الباباوات السابقين ، بل وكان لها دور معروف في مواجهة المعسكر الشرقي أبان حبرية البابا يوحنا بولس الثاني ، والبابا هو رئيس هذه الدولة ، مما يعني أن الأعراف والعادات التي درجت عليها النجف ، قد لاتسمح بتصدي رجال الدين لمهمة الاستقبال والتوديع أو ما يسمى ( التشريفات ) ، ولذا لحظنا عدم تصدي الدائرة القريبة من آية الله ، كنجله الأكبر السيد محمد رضا ، والوكلاء المعروفين كالشيخ عبد المهدي الكربلائي والسيد أحمد الصافي وغيرهم .

ثالثاً : أثر الزيارة على الطائفة الشيعية .

 1. بعيداً عن الأرقام المتضاربة حول عدد الشيعة الإمامية في العالم ، وتوزعهم الديموغرافي ، واختلاف توجهاتهم ، إلا أن تركيز وسائل الإعلام انصب في العقود الثلاثة الأخيرة على استخدام تسمية ( الشيعة ) مقترنة بالنشاط السياسي والعسكري للجمهورية الإسلامية في إيران ، وحزب الله في لبنان ، واختزل _ بإيقاع إعلامي موحد _ كل الطائفة الشيعية في الحديث عن الملحقيات الثقافية للجمهورية الإسلامية وخططها لنشر التشيع ، فأصبحت كلمة ( شيعة ) تساوي في نظر الرأي العام القوة الناعمة لإيران التي تستغل العقيدة الشيعية .

إن الاهتمام الإعلامي الذي رافق الزيارة الأخيرة ، كفيل بالمساعدة على تصحيح هذه الفكرة المغلوطة ، وهذا الطريقة المتعمدة في النظر للطائفة ، ونأمل أن تمنح حتى العراقيين والإيرانيين رؤية أوسع للمذهب بكل تنوعاته .

 2. منذ اللحظة الأولى لإعلان برنامج الزيارة ، حاول الكثيرون خلق فجوة مصطنعة مفادها بتعبيرهم ( التشيع المعتدل في النجف والتشيع المتطرف في إيران ) ، وكان أحد الأسئلة وجهت التي البابا في مؤتمر العودة : ( هل هذه الزيارة بمثابة رسالة الى إيران ؟ ) فأجاب البابا : ( كانت رسالة إيمانية عالمية ) .
وقد قوبلت هذه المحاولة بتعقل وحكمة من غالبية الجمهور الشيعي المتابع للحدث ، باستثناء بعض الأقلام غير المنضبطة التي سنشير إليها لاحقاً.
 و هنا نأمل أن لا يقع بعض المتحمسين للعراق في مطب النيل من المباني الدينية التي تحكم الجمهورية الإسلامية كما حصل العكس من بعض المتحمسين لإيران ، فإن هذا البحث علمي وديني بامتياز وليس مباراة كرة قدم ، ومن يدخله بشحنة تعصب سياسي أو عاطفي ، سيقع في الأخطاء لا محالة .

 3. منذ رحيل السيد روح الله الموسوي الخميني عام 1989 ، كأحد عظماء الثورات في القرن العشرين ، وحتى بروز إسم السيد علي  السيستاني عام 2003 على الساحة العالمية بشكل لافت ، كانت وسائل الإعلام تظهر شخصية واحدة تستحوذ على الخطاب الاسلامي الموجه الى الغرب ، وهي ( أسامة بن لادن ) الذي يرى اللغة الوحيدة للتفاهم من الغرب هي لغة القتل للمدني والعسكري على حد سواء ، وأصبح من الغريب على النخب الغربية فضلاً عن عامة المجتمع ، سماع زعيم ديني له ثقل معنوي من خارج الدولة كالسيستاني ، يتكلم عن الديموقراطية وحق تقرير المصير للشعب ، ويحرج الولايات المتحدة بإسقاط كل ذرائعها بأسلوبه العقلاني ، ويجعل الأمم المتحدة لا تملك خياراً إلا الاستماع إليه والوقوف بجانبه .
وقد جائت هذه الزيارة كجزء من ثمار صبره ، وصبر الغالبية العظمى من الطائفة الشيعية ، فمنذ 17 عاماً وحتى الآن ، حاول هذا الراهب الروحاني نبذ العنف وترسيخ الأخوة حتى في أقسى الظروف التي مرت بها الطائفة الشيعية من قتل ونهب وتدمير لمقدساتها ، وكان لابد لهذا الصبر أن يثمر ، ولهذا الصوت أن يصل صداه الى العالم .

 4. في اللحظة التي وضع فيها البابا قدمه داخل زقاق مكتب آية الله بدأ السؤال يطرح بنطاق أوسع ( من هم الشيعة ؟ ) ، وهذه الأسئلة تتطلب أجوبة لائقة ، وهي على عاتق أبناء الطائفة الشيعية الذين يعيشون _ بأفرادهم ومؤسساتهم _ وسط مجتمعات أخرى تريد التعرف عليهم ، ولو لمجرد التعرف والفضول ، فالجهل بالآخر أساس المشاكل الاجتماعية .

وقد كان خطاب البابا رغم اختصاره رائعاً في وصف ما قدمه الشيعة وكافياً لإثارة الفضول حولهم ،  بقوله : ( وكان اللقاء فرصة للبابا لتقديم الشكر إلى آية الله العظمى السيستاني لأنه رفع صوته مع الطائفة الشيعية في مواجهة العنف والصعوبات الكبيرة في السنوات الأخيرة ، دفاعا عن الأضعف والأكثر اضطهادا ، مؤكدين قدسية الحياة البشرية وأهمية وحدة الشعب العراقي )
من الجيد أن يحظى الشيعة في العالم بفرصة جيدة للتعريف بأنفسهم ، مع التأكيد على أنهم ليسوا في صدد المنافسة مع بقية المذاهب الاسلامية ولا محاولة التمدد على حسابها ، لأن الشيعة بالاساس لا يؤمنون بمشروع ( تشييع العالم ) بل هم مهتمون بالتعريف عن أنفسهم لمن يسأل ، ودفع الشبهات والاتهامات الباطلة عن عقيدتهم .
فلا بد من تجنب إستهلاك الجهد في دوامة النقاش العقيم مع التيار الوهابي الذي يستفزه الوجود الشيعي مهما كان شكله .

 5. يعرف المتابعون أن الكثير من مراكز الاستشراق قد انخرطت منذ سنوات في تأسيس خطاب شيعي يقدم للشباب في قوالب جديدة ، وينسجم مع البنية الفكرية الحديثة التي تغذيها مواقع التواصل تحت شعارات التنوير والتجديد ، كبديل عن الخطاب التقليدي الذي يقدمه علماء الدين .
ومن أبرز المبررات التي يتم طرحها ، عدم قدرة الطائفة على مجاراة التطور الزمني والاندماج مع العالم بوضعها الحالي ، وتمسكها بالموروث الروائي والمرجعيات الدينية .
وجائت هذه الزيارة التي فرضت نفسها وأجوائها الإيجابية على الواقع ، وشهدنا الاحتفاء الكبير بها من مختلف الشخصيات العالمية ، وكيف اشتغلت محركات البحث على الأنترنيت متسائلة عن سبب ذهاب البابا الى ذلك البيت المتهالك ، ليعرف الشاب الشيعي قبل غيره ، أن طائفته ليست في قطيعة مع أحد ، وأن الاندماج والتعايش لن يكون بالضرورة على حساب إرثه الحضاري ، أو التخلي عن نظام المرجعية الذي صمد لألف عام ، وعُرف قادته بحسن تدبيرهم ، ووعيهم للمتغيرات الزمنية وكيفية التعاطي معها.

هذه الزيارة قد حسم أمرها من الناحية التاريخية ، فقد أضيفت الى اللحظات المهمة التي ستتكلم عنها الإنسانية ، لكن إستثمارها في الوقت المنظور أو البعيد يبقى كفيل بإرادات المتصدين لمواقع المسؤولية ، وكل بحسب موقعه .

رابعاً : أثر الزيارة على العراق . 

 1. شعور مكون يمثل الغالبية من أبناء البلد وهو ( المكون الشيعي ) بالفخر والاعتزاز ، لأن هذه الزيارة كانت رداً للجميل وشكراً لمواقفه في حماية الأقليات المسيحية ، وقد كان ولا يزال على هذا الموقف الوطني ، وهو ما يزيد الأغلبية إصراراً على التعايش السلمي.

 2. طالب بعض نواب المكون السني في البرلمان أمثال محمد الكربولي ومثنى السامرائي وآخرين، أن تكون هناك حصة من الزيارة الى المجمع الفقهي السني ، كتلك التي حصل عليها المكون الشيعي . 
وبعيداً عن النوايا الواضحة لاستثمار هذه الزيارة سياسياً وانتخابياً ، إلا أن ردود أفعال المكون السني كانت تنم عن وعي ، وتصب في مصلحة التعايش الأخوي ، حيث اعتبروا هذه المطالبات ( مهينة بحق المكون ) وأن البابا ضيف العراق حيثما توجه .

 3. إن تطوير العلاقات مع الفاتيكان بشكل مدروس ، قد يساعد على تحسين الوضع الدبلوماسي للعراق في العالم ، ويسمح بحضور أفضل دولياً ، وقد يساعده على استعادة بعض حقوقه المسلوبة من البحر الى المدارات الفضائية ، كما يمنحه مبادرة أقوى إقليمياً ، وبالذات دوره الإيجابي بين أميركا ذات التهديدات الجنونية ، و الأخ والجار ( الجمهورية الإسلامية في إيران ) .

 4. كسر الصورة النمطية للعراق المنفلت أمنياً ، وقد بدأ ذلك منذ اليوم الأول لوصول البابا ونأمل أن يستمر ، فالاستقرار هو أبو الاستثمار والعمل والقضاء على البطالة ، وبالتالي على الجريمة .

 5. نكرر أن مؤسسة الفاتيكان للتعليم والصحة هي الأكبر عالمياً ، وعلى العراق أن يقرر كيفية الاستفادة من ذلك ، وأن يتفاوض من موقع الند ، أما بعض الأصوات _ المتوترة من كل شيء _ التي تتخوف من عودة زمن التبشير المسيحي باستغلال الفقراء ، فعليها إدراك أن هذا الزمن ذهب الى غيره رجعة ، وأن ما يصلح لقبائل أفريقيا البدائية ، لا يصلح للعراق ، و كل خطوة من هذا القبيل تبقى نتائجها مرهونة بإرادة المفاوض العراقي ، وليس بمنع العراق عن التعامل مع العالم .

خامساً : ماهو مشروع مسار إڤراهام .

* أشرت قبل قليل ، أن هناك بعض الأقلام انزلقت بشكل مؤسف الى التشكيك في مدى حكمة المرجعية ، وبقيت لأيام تعبر عن تخوفها من هذا اللقاء ، وتلمح بأن السيد كبير السن وطيب القلب وغير متابع للمشاريع الصهيونية الكبرى ، و لا يعرف معنى زيارة البابا الى أور ، وغير مطلع بخصوص علاقة الفاتيكان بالكيان الصهيوني ، وربما يسهم اللقاء في مخطط الفتنة الداخلية ( النجف vs إيران ) وبالتالي سيكون السيستاني صيداً سهلاً للمخططات الغربية ، تحت عباءة البابا.

* وبعد انتهاء اللقاء ، وصدور بيان المرجعية الدينية ، وحديثه عن أوضاع شعوب المنطقة وبالذات فلسطين ، وذكره لموضوع الحصار الاقتصادي في إشارة واضحة الى معاناة الشعب الإيراني ، تغير حبر هذه الأقلام ، وصار راكبوا الأمواج يمجدون بحنكة آية الله ووعيه ، وقال بعضهم : ( إن فطنة السيد السيستاني تستحق الثناء )  وكأن فطنة آية الله كانت مورد شك ، ثم أثبتت فاعليتها .

* وقد لاحظت أن الكثير من هذه الأقلام جعلت الركيزة الأساسية لإقناع الشباب بتخوفاتها ووجود مؤامرة في هذه الزيارة ، هي ( مشروع مسار إڤراهام والحج من أور ) ، ومن المتوقع أن يستمر الجدل حول هذه النقطة _ في دوائر محدودة على الأقل _  كلما تجدد الحديث عن هذه الزيارة ، أو عن مدينة أور ، فالأفضل أن نملك إحاطة كافية عنها .

وسألخص الموضوع في نقاط : 

 1. في سنة 1990 قام شاب مصري بور سعيدي من التيار الإسلامي ، إسمه سيد نصير _ و سيد إسم مصري متداول وليس لقب ذرية الرسول _ قام بقتل الحاخام اليهودي الأمريكي المتشدد وزعيم حركة ( كاخ ) الصهيونية ( مائير كاهانا ) ، أثناء خطبة له أمام جمع من مناصريه في أحد فنادق نيويورك ، حيث أرداه سيد نصير بعدة رصاصات من مسدسه ومات كاهانا على الفور ، وعلى أثر ذلك حكم على سيد نصير بالسجن المؤبد في أمريكا ، وعدت هذه أول جريمة قتل يرتكبها "متشدد" إسلامي على الأراضي الأمريكية .

* بعد عشر سنوات من السجن ، يبدو أن سيد نصير مر بانقلاب حاد وتغير جذري في أفكاره ، وبدأ سنة 2000 يرسل كتابات متتالية الى المسؤولين الأمريكيين عبر البريد ، وكرر إرسال أفكاره الى البيت الأبيض مرة بعد أخرى ، وكانت خلاصة هذه الأفكار هي دعوته الى قيام ( الدولة الإبراهيمية الفدرالية ) كحل أخير للصراع في فلسطين ، بأن يتخلى كل من المسلمين والمسيحيين واليهود عن مميزات أديانهم الثلاثة ويجتمعوا على المقدس المشترك بينهم جميعاً ، وهو النبي إبراهيم ، ويتم الاتفاق على استخراج مجموعة المشتركات الروحية والأخلاقية من الأديان الثلاثة ، وجعلها ديناً واحداً للجميع تحت راية الأب الأكبر للأديان النبي إبراهيم ( إڤراهام بالعبرية ) ، وهكذا ينتهي الصراع .

* رغم أن فكرة سيد نصير حول تخلي الأديان الثلاثة عن خواصها تبدو خيالية ، لكنها وجدت طريقها الى البيت الأبيض بالفعل ، ففي سنة 2001 قام الصحفي عن جريدة الشرق الأوسط محمد الشافعي بأجراء لقاء هاتفي مع سيد نصير ، و قال ( سيد ) فيه بأن ( ملف المشروع قد وصل الى يد السيدة الأولى _ هيلاري كيلنتون _ قبيل مغادرتها البيت الأبيض ) ، أي بعد انتهاء ولاية زوجها بيل كلينتون سنة 2001 .
وأضاف سيد : وصلتني ملاحظة من ديك تشيني نائب الرئيس _ نائب بوش الإبن في وقتها _ مكتوب فيها : ( قرأت رسالتك بنفسي ) .

 2 . بغض النظر عن صحة كلام سيد نصير ، وهل وصلت دراسته حقاً الى البيت الأبيض ؟ وهل اقتنع أصحاب القرار بها ؟ وهل كان هو أول من تنبه لهذه الفكرة أم سبقه آخرون ؟ يبقى المؤكد أن العمل على هذا الموضوع بدأ بالفعل في سنة 2000 وفق تسلسل زمني أعرض أبرز محطاته : 
3. و قد يبدو للقارئ الكريم أن فكرة دمج الأديان الثلاثة فكرة جنونية ، ولكن مع ملاحظة الأساليب التسويقية في أوساط الشباب ، والشعارات التي تمت تغذيتها في عقولهم منذ سنوات وهي جميلة في وقعها وما يفهمه السامع منها ، مثل ( إعتنق الانسانية ثم اعتنق ما شئت من الأديان ) مع ملاحظة ذلك ، سيجد الباحث أن فكرة الدين الموحد مهما كانت خاوية المضمون ستجد عدداً من المؤيدين المنساقين وراء الشعارات .
فبحسب تقديرات سنة 2005 ، بلغ عدد المؤمنين بألأديان السماوية الثلاثة ، 3.6 مليار بما يشكل نسبة  54% من البشرية ، ومع هذه النسبة سيكون من السهل إقناع الأشخاص البسطاء أن الحروب كلها ستنتهي إذا انتهت خلافات هذه الأديان وتحقق الدين الموحد ، وعن هذا يقول أستاذ علم الفلسفة الأنگليزي جون هيك : ( إذا كان كل دين من هذه الثلاثة يرى نفسه الحق المطلق ، ألا يعني هذا تحول العالم الى جحيم لا يطاق؟)

* و يقول الصحفي موشيه جلعاد : ( قال لي ديفيد لانديس _ المدير الإقليمي لتطوير مسار إبراهيم _ بحماس بعد دقائق قليلة من لقائنا في تل بئر السبع : المشي لمسافات طويلة هو الشيء الحقيقي ، أي شخص يقول إننا _ مطورو مسار إبراهيم _ ساذجون لم يكتشف بعد قوة المشي لمسافات طويلة في الشرق الأوسط ) ، وما يقولوه لانديس له واقعية كبيرة ، فنحن الشيعة أقدر من غيرنا على فهم ما يعنيه ، إذ نرى كل سنة كيف أن المشي على طريق الأربعين قادر على تغيير الشباب بحسب التشكيل ( الموكب ) الذي ينظمون إليه ، ويمكننا تخيل النتائج الحتمية لإدخال الشباب البسطاء في برامج المشي لمسافة 1000 كم وسط الطبيعة الساحرة لتركيا وسوريا والأردن وفلسطين ، لأيام طويلة مع شباب من الجنسين من مختلف دول العالم ، ووفق برامج معدة سلفاً !!
( لاحظ أيها القارئ الكريم أنني هنا بينت خطورة المبادرة وفكرة الدين الموحد بالنسبة للخاضعين للبرنامج ، وإن كنت بعد أسطر سأقلل من قيمتها بالنسبة للوضع العام ). 
فلن تستطيع مبادرة مسار إبرهيم أخذ 3.6 مليار إنسان لغسل عقولهم بفكرة الدين الموحد ، فالواقع يقول أنها مجرد فكرة استفادت منها إسرائيل في فرصة من الزمن ، ولن تستطيع الصمود لوقت طويل ، رغم خطورتها التي ذكرتها سابقاً ، ولهذا فقد أشار آية الله في بيانه الى أن المشكلة الأساس هي في مطامع الدول الكبرى ومصالحها ، بينما دور الدين ورجاله نشر السلام ، وليس العكس ، فقال : ( وأشار سماحته الى الدور الذي ينبغي أن تقوم به الزعامات الدينية والروحية الكبيرة في الحد من هذه المآسي، وما هو المؤمل منها من حثّ الأطراف المعنيّة ـ ولا سيما في القوى العظمى ـ على تغليب جانب العقل والحكمة ونبذ لغة الحرب، وعدم التوسع في رعاية مصالحهم الذاتية على حساب حقوق الشعوب في العيش بحرية وكرامة ) .

 6 . على عكس راكبي الأمواج والمشككين بحكمة آية الله من المحسوبين على طائفته ، فإن البابا كان يعلم أن زيارته للسيستاني ستتيح للأخير الحديث على المستوى العالمي ، وهو بالتأكيد قرأ ودرس بيانات هذا الرجل قبل أن يدخل ذلك الزقاق ، ومع ذلك فقد جاء وجلس وشكر الشيعة _ وهي طائفة _ بشكل صريح ، وأما آية الله فقد تكلم بما توقعه البابا ، وقال : ( وتحدث سماحة السيد عما يعانيه الكثيرون في مختلف البلدان من الظلم والقهر والفقر والاضطهاد الديني والفكري وكبت الحريات الاساسية وغياب العدالة الاجتماعية، وخصوص ما يعاني منه العديد من شعوب منطقتنا من حروب وأعمال عنف وحصار اقتصادي وعمليات تهجير وغيرها، ولا سيما الشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة ) 

هذا وقد وصلت رسالة شكر من رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الى سماحة آية الله العظمى السيد السيستاني ، في اليوم التالي للزيارة ، وقد نشرها مكتب سماحته في هذه الليلة التي أنهيت فيها كتابة الملف بعد ستة أيام من الزيارة ، سائلين الله تعالى أن يحفظ سماحته حتى ظهور المولى صاحب الزمان أرواحنا فداه .

الكاتب إيليا إمامي
النجف الأشرف
12 / 3 / 2021


https://t.me/AiliaEmame1185


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ايليا امامي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/13



كتابة تعليق لموضوع : ملف حول زيارة بابا الفاتيكان الـ266 الى العراق
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net