صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (5)  دور الاعلام في الحياة الاجتماعية
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 دور الاعلام في الحياة الاجتماعية
﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ، فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ ۖ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَٰذَا بَشَرًا إِنْ هَٰذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ ، قَالَتْ فَذَٰلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ ۖ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ۖ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ﴾ 
الاعلام السلبي في الحياة الاجتماعية
القران الكريم في هذه الآيات الشريفة يتعرض الى مسالة اجتماعية مهمة، وهي مسألة نشر الاخبار السلبية في المجتمع، والاثار السلبية لهذا الانتشار.
في هذا المقطع من قصة يوسف (عليه السلام) تعرض القران الكريم لمسالة نشر الاخبار وهي من المسائل الاجتماعية المهمة، فقضية مراودة زليخة ليوسف (عليه السلام) وقعت في محيط خاص، وهو الجناح الخاص بامراة عزيز مصر، شهدها عزيز مصر وعدد ممن كانوا في القصر، ولكن مع ذلك تناقلت الالسن الخبر فوصل اسماع نساء المدينة، ومن سير الاحداث يتضح ان اولئك النساء كن ينتمين الى الطبقة العليا من طبقات المجتمع المصري ولولا ذاك لما اهتمت زليخة بهن وارسلت اليهن، وفي ذات الوقت كانت زليخة حديث مجالس النساء والتعريض بها من اوليات حديثهن ولم يكن ذلك منهن استنكارا لقبيح الفعل بما هو فعل قبيح، بل انهن استقبحن منها مراودتها لعبد في بيتها، وان مثل زليخة في مقامهما وموقعها الاجتماعي المفروض ان لاتقع في اسر عبد من عبيدها، فلم تكن القضية لديهن قضية ميولها غير المنضبطة وخروجها عن رعاية قيم الوفاء للزوج وقيم العفة والترفع عن اتباع النزوات والشهوات، بل نقد التعلق بشخص من طبقة تعد في الاعراف الطبقية للمجتمعات طبقة دنيا.
ردة فعل زليخة
بلغ حديث نسوة مصر الى اسماع زليخة، ولم تكن زليخة بعيدة عن الواقع الاجتماعي الذي تعيشه نسوة طبقة اشراف مصر، اذ هي من ابناء تلك الطبقة، وارادت زليخة ان تبرهن للنساء ان ما قامت به كان ناشئا من كونه فوق حد التحمل، ارادت زليخة ان تخبر نساء طبقة الاشراف في مصر ان ما قامت به تقوم به أي منهن لو رات يوسف (عليه السلام) فان سحر جماله لا يمكن ان يقاوم.
وفي هذه المفردة من قصة يوسف (عليه السلام) يتضح دور ضعف الوازع الاخلاقي والرقيب الداخلي في تنامي الجوانب الشريرة لدى الانسان، كان يمكن لإمرأة العزيز ان تسكت عما يصل اليها مما يدور في محافل نساء اشراف مصر من الحديث عنها بسوء حتى تمضي فترة من الزمن فينسى الناس الحادثة وينشغلوا بحادثة اخرى، الا ان اصرار زليخة على تحقيق هوسها الذي اجتمعت فيه رغبة الجسد مع طغيان القدرة دفعها لارتكاب خطيئة اخرى كان لها اثارا اكثر سلبية، اذ جعلت حديث مراودتها ليوسف (عليه السلام)  على كل لسان وباقرار منها هذه المرة، وفي نفس الوقت عرضت يوسف الصديق (عليه السلام) لموقف محرج اذ فرضت عليه ان يخرج عليهن ولم يحدثنا القران الكريم عن كيفية خروجه عليهن ولكن من ظاهر الاية الكريمة ان الجلال والجمال والابهة التي كان عليها يوسف (عليه السلام) جعل تلك النسوة يفقدن التوازن وقد بهرهن جمال طلعة يوسف (عليه السلام) فقطعن ايديهن في لحظة هيمنة اشراقة يوسف (عليه السلام) على كل وجودهن فلم يدركن ما يفعلن بانفسهن، ولم يقف الحال عند ذاك بل تعداه الى استعار رغباتهن البهيمية واخذن يراودن يوسف (عليه السلام) عن نفسه، مما زاد في معاناة يوسف (عليه السلام)، ولم تكتف زليخة بما حققته من انجاز شرير بل اعلنت في وسط نساء اشراف مصر ان يوسف (عليه السلام) ان لم يستجب لنزواتها فانها ستستخدم كل ما بوسعها وكل ما تحت يديها من سلطة ونفوذ وان اضطرها الامر الى سجنه وتعريضه الى اشد انواع الاذلال والاهانة وهو الذي ترعرع في عز ودلال ونعمة ورفاه عيش حتى يحقق لها ما تريده منه.
العبرة الاجتماعية
يمكن ان نلخص العبرة الاجتماعية في هذا المقطع من قصة يوسف (عليه السلام) في عدة نقاط:
1.  ان الحفاظ على الامن الاجتماعي يرتكز بالدرجة الاساس على ترسيخ الفضائل الاخلاقية ونشرها بين ابناء المجتمع، بحيث تتحول تلك القيم الفاضل الى ملكات شخصية واجتماعية.
2.   المجتمع الفاضل تنحسر فيه الجريمة انحسارا شديدا بفعل دور الرقيب الداخلي وهو الضمير الذي له دور كبير في التحكم بتصرفات الانسان والسيطرة على رغباته ونزواته، فالادراك السليم مع فاعلية القيم الصحيحة ينتج ضميراً حيا يشكل رقيبا داخليا قادرا على ضبط حركة النفس الامارة بالسوء والنهوض بالواقع الفردي والاجتماعي الى ارقى مدارج الكمال، والمصداق الاكمل في هذه القضية هو يوسف (عليه السلام).
3.  خلق الانسان وفيه نوازع مختلفة ولديه حاجات مختلفة وتحيطه ظروف مختلفة، والذي يحدد مساره في اختيار الطريق وكيفية التعاطي مع الاحداث هو الادارك العميق ومنظومة القيم، فاذا تحول الادراك الى ادراك سطحي ولم تعد منظومة القيم تحظى بموقع مهم لدى الشخص فحين ذاك تتعرض منظومة الامن الاجتماعي الى الخطر وبالتالي تصبح المشاكل الاجتماعية في مستوى عال تنتهي بانهيار المنظومة الاجتماعية وتبدل المجتمع الى مجتمع اخر له قيمه الاخرى التي قد لا تتناسب في جملة من مضامينها مع مكارم الاخلاق والفضائل الانسانية، وما قامت به زليخة ونسوة المدينة من اوضح مصاديق الانهيار القيمي في أي طبقة اجتماعية كانت.
4.  الاعلام من الامور التي تسهم اسهاما كبيرا في بناء الشخصية الاجتماعية، فالمجتمع الذي تكثر فيه التغطية الاعلامية للجوانب الايجابية يتحول مع مرور الايام الى مجتمع ايجابي بسبب تاثير الاعلام في تنشئة الاجيال وبناء التصورات، وفي الجانب المقابل المجتمع الذي تكون ساحة التغطية الاعلامية الاوسع فيه للجوانب السلبية سيتحول الى مجتمع سلبي، وهذا المعنى يدل عليه هذا المقطع من قصة يوسف (عليه السلام) دلالة واضحة، اذ ان انتشار اخبار الفساد الاخلاقي بين طبقة اشراف مصر كان له اثره في التعاطي مع قصة زليخة، وبدلا من ان ترفض نسوة الاشراف دعوة زليخة سارعن لاجابتها، بل وللقيام بما قامت به من مراودة يوسف (عليه السلام).
5.  ان احد اهم الامراض الاجتماعية انتقاد تصرف الغير لا عن انكار لمنكره ورفض لما يقوم به من موبقات وتصرفات بعيدة عن القيم الاخلاقية، بل لدواع ذاتية تكشف عن مرض اخلاقي يعيشه ذلك المنتقد، وكانت نسوة المدينة مصداقا واضحا لهذا المرض الاجتماعي اذ لم يكن تعريضهن بإمراه العزيز ناشئا من انكارهن للمنكر بل حسدا لموقعها من جهة وتشفيا بها من جهة اخرى وتسليا بالتعريض بشخصها في مجالسهن وربما ان ذلك كان يعود للفارق الطبقي والاجتماعي بينها وبينهن اذ هي زوج الشخص الثاني في مصر، وقد كشف عن ذلك ما قمن به بعد ان خرج عليهن يوسف (عليه السلام) فقمن بما قامت به زليخة واكثر فزليخة كانت تعيش في الموضع الذي يعيش فيه يوسف (عليه السلام) اما نسوة المدينة فراينه لفترة محدودة.
6.  ان نتائج دعوة زليخة لنسوة اشراف مصر كانت في منتهى السلبية لان الدوافع والدواعي لامراة العزيز ونسوة الاشراف لم تكن دواع صالحة، فتعريض النسوة بزليخة لم يكن انتصارا لقيم العفة والاخلاق الرفيعة ودعوة زليخة لهن ليس لتبرئة ساحتها من قبيح ما تحدثن به عنها، وكانت ردة فعل نسوة المدينة عندما خرج عليهن يوسف (عليه السلام) وبعد ذلك مراودتهن له عن نفسه عاملا مشجعا اضافيا لزليخة للاصرار على استخدام كل الوسائل التي بين يديها لإكراه يوسف (عليه السلام) على اجابتها الى هوسها. وكل هذه الاحداث وتطوراتها كان لانتشار الخبر فيها اثر مهم، فربما لو تم التعتيم على الخبر ولم ينتشر لكان ذلك سببا في انحسار نزوة الطغيان الذي كان لدى زليخة.


لمتابعة المقالات على التلكرام اضغط على الرابط
https://t.me/joinchat/gbIRhmKwQXhhMWUy


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/11



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (5)  دور الاعلام في الحياة الاجتماعية
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net