صفحة الكاتب : السيد عبد الستار الجابري

قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (2)
السيد عبد الستار الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يوسف (عليه السلام)  في بيت عزيز مصر
﴿وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾  
عند الوقوف عند سورة يوسف (عليه السلام) نجد ان القران الكريم لم يحدثنا عن الاحداث التي مر بها يوسف (عليه السلام) في طريقه بين كنعان ومصر، ومن هنا نستفيد ان القران الكريم عندما يذكر شيئا انما يذكره لما فيه من دلالات وغايات واهداف، فالقران الكريم يذكر من الاحداث التاريخية ماله علاقة بحياة الانسان وسعادته الابدية، ولا يتطرق الى جزئيات الامور التي يعيشها الانسان مهما كانت مكانته.
ولذا يبدا القران الكريم في حديثه عن يوسف (عليه السلام) في تناول العبرة من حياته ابتداءا في حياته في بيت ابيه يعقوب (عليه السلام) وحديث الرؤية وحب ابيه له وحسد اخوته وتآمرهم عليه وسعيهم لقتله ثم بيعهم له كعبد رق على السيارة.
ويشرع القران الكريم الى الحديث عن يوسف (عليه السلام) في بيت عزيز مصر، ليبين لنا العبر المهمة التي علينا ان ندركها في حياتنا بما بينه لنا من قصة يوسف (عليه السلام).
ويستهل القران الكريم الحديث عن حياة يوسف (عليه السلام) في بيت عزيز مصر بقوله 
﴿ وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا ۚ وَكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾
وعند الوقوف عند هذه الاية الشريفة بعبارتها المختصرة ومعانيها الجليلة نجد عدة امور تم بيانها في المقطع القراني:
الاول: ان عزيز مصر بفراسته استشعر في يوسف (عليه السلام) النبوغ والمستقبل الباهر، وان هذا الغلام ليس انسانا عاديا، بل طاقة جبارة لو تم الاعتناء بها من الممكن ان تحقق الكثير، كما تكشف الاية الكريمة ان عزيز مصر لم يكن له اولاد، وانه قد اسر قلبه ما على يوسف (عليه السلام) من مهابة وجلال ووسامة وجمال، فكان جمال يوسف (عليه السلام) وجلاله وحسنه وكماله السبب الرئيس في اسر قلب عزيز مصر ووصيته لامراته ان تكرم مثوى يوسف (عليه السلام) وان لا تتعامل معه كما تتعامل مع العبيد، بل عليها ان تتعامل معه على اساس الملكات التي فيه لما توسمه فيه من رجاحه في العقل وسلامة في الفكر وذكاء يشع من عينيه ويكشف عنه كلامه، فالموقع الذي احتله يوسف (عليه السلام) في قلب العزيز وفكره جعله يفكر في المستقبل البعيد الذي يريد ان يرسمه له، حيث قال لامراته ﴿ عَسَىٰ أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا﴾ .
الثاني: تشير الاية الكريمة بصورة غير مباشرة ان مسالة شراء عزيز مصر ليوسف (عليه السلام) والقاء حب يوسف (عليه السلام) في قلبه كان بارادة وتخطيط الهي ولم يكن امرا عابرا، وان هناك مسيرا مستقبليا خاصا ليوسف (عليه السلام) رسمته الارادة الالهية وابلغت يوسف (عليه السلام) واباه يعقوب (عليه السلام) بذلك من قبل وهو ما اشار اليه قوله تعالى 
﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾ 
ونفهم من الجمع بين الاية الكريمة ومسير الاحداث ان الله تعالى شاء ان تسير الامور باسبابها الطبيعية وان الغيب له الدور الهام في رسم الاحداث ومسيرها لتحقيق الغاية العامة التي يريدها الله عز وجل للفرد وللمجتمع وللامة بحسب موقع الشخص ودوره في الحياة ثم يترك له الخيار في اختيار طريق الحق او طريق الضلالة، واما في خصوص يوسف (عليه السلام) فهو كغيره من الانبياء (عليهم السلام) الذي اصطفاهم الله تعالى لهداية خلقه واقامة دينه واحكام شرعه، فمن تتبع مسير الاحداث ندرك ان الله تعالى جعل هذه القافلة بالخصوص تمر على البئر الذي القي فيه يوسف (عليه السلام)  وقد وقت الله تعالى وصول تلك القافلة الى البئر مع وجود يوسف (عليه السلام) فيه والتقاطهم له وان مسيرهم كان الى مصر للتجارة وانهم شروا يوسف (عليه السلام) من اخوته على انه عبد لهم ﴿ وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ﴾ 
وكذلك وصول عزيز مصر الى سوق العبيد ليجد يوسف (عليه السلام) معروضا للبيع في سوق النخاسة، ويشغف قلبه به فيشتريه، ويوصي امراته ان تكرم مثواه ويرسم عسى ان ينفعهم او يتخذوه ولدا لما توسم فيه من كريم الخصال.
الثالث: ان المصاعب التي واجهت يوسف (عليه السلام) والتي رافقت خروجه من ارض كنعان وحتى دخوله بيت عزيز مصر كان الغاية منها توفير الارضية الموضوعية لتمكين يوسف (عليه السلام) من اداء مهمته الالهية، ومن المهم ان نعلم ان مثل يوسف (عليه السلام) في كماله وعظمته ليس بحاجة الى العيش في بيت عزيز مصر ليرتقى ويتكامل فان مقامه وكماله اعظم مما عند العزيز ومجتمعه، ولذلك اثر يوسف (عليه السلام) في بلاط عزيز مصر ولم يؤثر البلاط فيه، واثر يوسف (عليه السلام) في المجتمع المصري ولم يؤثر المجتمع فيه، ولذا كانت هذه الصعاب التي مر بها (عليه السلام) لتاهيل المجتمع والامة والعائلة لقبول ما اراده الله تعالى والاطمئنان بان كل شيء بيده عز وجل وانه ترك مساحة من الاختيار في الدار الدنيا للانسان يتعرض فيه للشدة والرخاء حتى  يقضي الله امرا كان مفعولا، وهذا ما اشار اليه قوله تعالى
﴿َكَذَٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ﴾
فوجود يوسف (عليه السلام) في بيت العزيز مقدمة لتمكينه في الارض، اذ اصبح يوسف (عليه السلام) الشخص الاول في بلاط اهم شخصية في مصر بعد ملكها، ومن الطبيعي ان تتسلط على يوسف (عليه السلام) الاضواء في بلاط عزيز مصر، بل في مصر كلها لما لشخصيته من تاثير مهم في البلاط، ومن هنا علينا ان ندرك ان مجمل الظروف التي تحيط بالانسان مرسومة لتحقيق هدف اعظم واكبر واسمى وان لكل شخص دورا مهما كان بسيطا في تحقيق الغاية القصوى، والانسان باختياره يحدد موضعه الايجابي او السلبي في طريق الغاية القصوى التي رسمها الله تعالى لخلقه.
الرابع: ان المقدمة الثانية من مقدمات تحقيق الغاية التي ارادها الله تعالى تحقيقها في وجود يوسف (عليه السلام) في مصر، هي احاطته العلمية والتطبيقية لمواجهة الاحداث التي ستمر بها البلاد المصرية، وهذه الاحاطة العلمية ليس منشئها وجوده في مصر واستلهامه من حضارتها وتطورها ورقيها المادي، بل هو (عليه السلام) مسلح بذلك من الله تعالى قبل وبعد حلوله في ارض مصر، والى هذه الحقيقة اشار قوله تعالى
﴿وَكَذَٰلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَىٰ أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ ۚ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ 
فيوسف (عليه السلام) وهبه الله تعالى من العلم والحكمة والقدرة ومهد له الاسباب الموضوعية بحيث اصبحت زمام الامور بيده لتحقيق الهدف الالهي الاعظم والاسمى والاكبر في مجاليه الاجتماعي والاممي دون ان يحتاج هو عليه السلام الى أي شخص او يحتاج الرجوع الى أي احد، فالاية الشريفة تبين ان الله تعالى اجتبى يوسف (عليه السلام) وعلمه تفسير الاحداث والظروف ووضع الحلول المناسبة لها لتحقيق هدف مهم يكون فيه موقع يوسف (عليه السلام) المستقبلي مقدمة لتحقيق ذلك الهدف العظيم.
الخامس: ان الصراع الذي يخوضه المجتمع البشري ينتهي في اخر المطاف الى ما يريده الله تعالى، وان الغايات النهائية هي النهوض بالمجتمع البشري للوصل الى الغاية التي خُلق لها وتحقيق دولة العدل الالهي على الارض، ولذا عند استقراء حياة المجتمع البشري نجد ان ما يريده الله تعالى هو الذي سيتحقق في النهاية على الرغم من سعي العتاة المردة لحرف المسيرة البشرية عما اراده الله للمجتمع الانساني.                                                                                                                                                                         


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد عبد الستار الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2021/03/06



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في سورة يوسف (عليه السلام) (2)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net