صفحة الكاتب : مجتبى الساده

المهدوية خط هداية متصل بالسماء
مجتبى الساده

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

إن الإنسان بفطرته وبمنطق عقله توصل إن لهذا الكون إلهاً خلقه بعلمه وقدرته ، وله الأمر والخلق وهو المبدأ والمنتهى ، وحيث أن الإنسان خُلق ليكون خليفة الله في أرضه ، فأن له حاجات معنوية ومادية ، ومن أهم هذه الحاجات نيل السعادة والخلاص في الدنيا والآخرة ، ونعتقد إن الدين والشرع الإلهي هو السبيل والبرنامج الوحيد لإيصال الإنسان إلى سعادته في الدارين ، وليس هناك من شك بأن الطريق الوحيد لسعادة الإنسان هو تطبيق البرنامج الإلهي العام (الدين) أي رسالة السماء إلى الأرض ، وهدى الله سبحانه إلى البشر ، وبالتأكيد لقد أراد الخالق من الإنسان الطاعة والإنقياد لأوامره وإتباع شرعه (التكليف) .. ومن هذا المنطلق تقتضي قاعدة اللطف الإلهي: وجود أشخاص يصطفيهم تعالى ، يتولون مهمة إيضاح معالم الدين وإقامة حدوده ، على أن يمتاز من يتولى هذا المنصب الإلهي بصفات خاصة منها (العلم و العصمة) وهذا لا يكون أو غير متاح إلا لنبي أو وصي ، ومن حكمة الله تعالى فقد تم بعث الأنبياء والرسل وصدرت الشرائع السماوية لإرشاد الناس وهدايتهم للطريق القويم طبقاً للطف والرحمة الإلهية.

ومن الثوابت والسنن الإلهية أن قاعدة اللطف لا تنحصر بزمان أو وقت دون آخر ، بل هي عامة وشاملة وأبدية ما دامت الخليقة على الأرض ، فمن حكمة الخالق في هداية الإنسان ، أن يدله بإستمرار إلى قواعد البرنامج الرباني (احكام الدين السماوي) مع القيام بشرحه وتأويله وبسطه بحسب المستحدثات في كل عصر وزمان ، مع مراعاة نقصان الإنسان من الإتصال بعالم الغيب والشهادة ، وهو قصور مستمر لا يلتئم مهما تقدمت العلوم والمعارف .. ولذا فالحاجة والضرورة حتمت من وجود شخص كامل (إمام غنيٍّ عن رعاياه في الأحكام والعلوم) في كل زمان ، ليكون الناس بوجوده أقرب إلى الصلاح وأبعد من الفساد ، وكذلك يصون جوهر الدين وأحكامه عن التشويه والتحريف .. وهكذا نجد أن قاعدة اللطف الإلهي من أفضل وأوضح الطرق في إثبات النبوة والإمامة عموماً ، وإثبات إمامة ووجود صاحب العصر والزمان (الإمام المهدي المنتظر) ، إذ إن إمامته متفرعة من أصل النبوة والإمامة ، وللزوم إستمرار لطف الله تعالى في كل الأزمان.

إن قاعدة اللطف الإلهي: هي أساس الدليل العقلي على الإمامة ، وإن الإمامة لطف واجب من قبل الله سبحانه كالنبوة ، وان الإمام والنبي لا بدّ أن يكونا معصومين ، وأن تعيين النبي والإمام يكون من الله ، وفي كليهما لا شأن للناس بتشخيص أو إختيار من هو النبي أو الإمام باعتباره منصب وجعل إلهي ، غاية الأمر أن طريق معرفة الناس للنبي يكون عبر المعجزة والآيات الإلهية ، وأما طريق تعيين الإمام فهو يتم من خلال النص من قبل النبي ، أو الإمام الذي قبله.

إن الخلاف بين الأديان والمذاهب المختلفة لا ينصب في مسألة أصل فكرة المخلص الموعود آخر الزمان ، فهي مسألة اتفاقية بين الأديان ككل ومنها السماوية الثلاثة (الإسلام والمسيحية واليهودية) ، إنما يقع الخلاف حول المصداق لهذا المخلص ، علماً بأن لكل دين أدلة خاصة يسوقها لإثبات وتشخيص مخلصه وتعيين المصداق.

إن النظرة السائدة للخلاص ولمصداق المخلص في المدارس الدينية والتي هي مسألة خلافية ، تنبع من نظرة الاطروحة نفسها للأهداف والأغراض التي تتوخاها .. إما اذا أردنا أن نقيمها ونصيغها برؤية حضارية واقعية فيجب الأخذ بعين الإعتبار النقاط الجوهرية التالية:-

· إن البرنامج الإلهي (الدين) يشمل جميع شؤون الحياة البشرية ، فما من واقعة إلا ولله فيها حكم ، حتى مع القضايا المستجدة والتطورات المستقبلية.

· إن المسيرة الإنسانية تكاملية متصاعدة على طول التاريخ ، وهي سُنة وقانون إلهي يفرض النمو والتطور المستمر للبشرية في جميع المجالات المادية والمعنوية.

· إن الأديان والشرائع السماوية مرت بمرحلة تكامل على طول التاريخ الإنساني وحسب حاجات البشر ، حتى وصلت إلى الدين الخاتم (الإسلام).

· إن الفرصة لم تتوفر لخاتم الأنبياء خلال مدة رسالته ، كي يعلم الناس الإسلام كاملاً بكل ما ينطوي عليه ، وإن كان (ص) قد قام ببيان كل ما أمكنه من أحكام وتعاليم ، والتي يستوعبها المسلمون في تلك الفترة.

· إن الفطرة والعقل لا يقبل أن يكون الدين الخاتم (الإسلام) قد تُرك بيانه ناقصاً ، ولذا لا بد من وجود شخص (وصي) أو مجموعة أوصياء تلقَّت الإسلام كاملاً وإستوعبته ، ليكون من وظيفتها بيان الدين بعد وفاة النبي (ص).

· إن مثل هذا الشخص (الوصي أو إمام الزمان) موجود فقط عند مدرسة أهل البيت (ع) ، إما أتباع الأديان والمدارس الأخرى فلا يؤمنون بذلك ، مما جعلهم قاصرين على التعامل مع برنامج الله والأحكام السماوية ، ويعدونها كشريعة ناقصة.

 

والنتيجة التي نصل إليها: إن قاعدة اللطف الإلهي تقتضي إن خاتم الأنبياء (ص) يحدد أشخاص بعينهم ، لهم جنبة قدسية وإرتباط مستمر ومتواصل بالسماء ليكونوا خلفاء وأوصياء من بعده ، ولابد أن يتواجد على الأقل شخص واحد منهم على طول التاريخ والزمان ، يعيش بين الناس ويتحسس مشاكلهم وهمومهم وإحتياجاتهم ، والمتمثل في زماننا الحالي (بالإمام المهدي) .. والدليل على ذلك هو نفس الضرورة التي دعت إلى إرسال الأنبياء والرسل حتى لا يترك الناس هملاً ، ولذا فالمنهج الصواب لتصور الصلة والعلاقة بين الله والإنسان حالياً يتجلى في المهدوية ، والتي تعد واسطة الهداية ، وواسطة إيصال الفيوضات الإلهية إلى سائر المخلوقات .. وهذه ميزة جوهرية عظيمة وركيزة روحية عميقة تتمتع بها مهدوية أهل البيت (المخلص الإسلامي) ، غير متوفرة في أي نظرية أو فلسفة أو أطُروحة أخرى تتكلم عن الخلاص أو المخلص الموعود.

حقيقة كبرى ولطف إلهي: هذه هي حقيقة المهدوية ومقامها العالي التي تنفرد بها المدرسة الإمامية عن بقية الأطروحات الأخرى للمخلص والخلاص .. لقد تنبه إلى هذه الحقيقة والميزة  الفيلسوف والمستشرق الفرنسي هنري كوربان([1]) حيث يقول: "في عقيدتي أن التشيع هو المذهب الوحيد الذي حفظ بشكل مستمر ، رابطة الهداية بين الله والخلق ، وعُلقة الولاية حية إلى الأبد ، فاليهودية أنهت العلاقة الواقعية بين الله والعالم الإنساني في شخص النبي موسى(ع) ، ثم لم تذعن بعدئذ بنبوة السيد المسيح والنبي محمد (ص) فقطعت الرابطة المذكورة ، والمسيحية توقفت بالعلاقة عند المسيح (ع) ، أما أهل السنة من المسلمين فقد توقفوا بالعلاقة المذكورة عند النبي محمد (ص) ، وباختتام النبوة به لم يعد ثمة إستمرار في رابطة العلاقة (في مستوى الولاية) بين الخالق والخلق ، التشيع يبقى هو المذهب الوحيد الذي آمن بختم نبوة محمد (ص) وآمن في الوقت نفسه بالولاية -وهي العلاقة التي تستكمل خط الهداية ، وتسير به بعد النبي- وأبقى عليها حية إلى الأبد"([2]) .. هذه الملاحظة في غاية الأهمية من قبل مستشرق يجد أن المهدوية هي التي أبقت التشيع حياً ، وأهلته إلى دور إنساني شامل في حياة البشر.

من جهة أخرى فأن مستشرق آخر: فرانسوا توال ([3]) ينظر للمهدوية بوعي متقدم في كتابه (الجغرافيا السياسية للشيعة) ويفسرها بعقلية سياسية تتلمس الواقع الشيعي ، وقد اعتبر العقيدة المهدوية حجر أساس في عقائد الشيعة ، حيث يقول:"إن الشيعة يعيشون في إنتظار عودة الإمام الغائب ، فيما هم يناضلون من أجل العدالة على الأرض ، ذلك هو بإختصار ، المنهج الذي تنتهجه هذه الطائفة في مسراها الدنيوي" ([4]) ، ويقول في جانب آخر من الكتاب: "أن المهدي غاب عن البشر ليقودهم على وجه أفضل ، تاركاً وراءه الشيعة الاثني عشرية .. هذه الفكرة عصية على الفهم ، فالأمر ليس (صعوداً إلى السماء) كما في الدين المسيحي ، بل غيبة شاءها الله كي يسمح للمهدي بأن يقود الناس بطريقة خفية ، وفكرة غيبة الإمام هذه لها لدى الشيعة تأثير مهم على محتوى هذا الإيمان ونتائجه ، لأنها تفسير طابعه النهاية: فالشيعة ينتظرون نهاية العالم وعودة الإمام ، بإعتبار أن هذه العودة هي بشكل أو بآخر ، نهاية التاريخ وإنتصار الله في مصائر البشر" ، ويؤكد أيضا: "إن الشيعة مذهب ذو رؤية تتمحور رسالتها الروحية حول الإمام الغائب ، وتفترض تالياً عدم نهائية التاريخ مادام الإمام غائباً ولم يعد ليحكم بالعدل ، هذه الرؤية النهائية التي تستشرف نهايات التاريخ ، لها مستلزماتها السياسية الثورية ، مما جعل الشيعة ينتظمون حول كبار رجال الدين ، وتبقى الطائفة الشيعية محكومة في مبادئها وإنتظاراتها ، بأن تبقى في حال غليان سياسي دائم" .. والواضح أن (توال) يتحدث عن القوة المختزنة في عقيدة الإنتظار ، والتي تجعل من حركة الأقلية حركة قادرة على إحداث تحول هائل في تاريخ البشرية ، والقدرة على التماسك والإستمرار في الوجود .. وهنا نؤكد بإن المهدوية تستلهم المنهج الرباني الأصيل وتعبر عنه ، وتحافظ على نقاءه من أي تجاوزات أو تحريفات أو تشوهات.

 

([1]) هنري كوربان (1903م - 1978م): فيلسوف ومستشرق فرنسي ، مدرس في جامعة السوربون - صاحب الموسوعة الشهيرة: (المشاهد الروحية والفلسفية للإسلام في الإطار الإيراني).

([2])  كتاب الشيعة: نص الحوار مع المستشرق كوربان ، العلامة الطباطبائي ، ص 49.

([3])  فرانسوا توال: معاصر ولد في نوفمبر 1944م في فرنسا ، الخبير الأمني والاستراتيجي ، والمستشار ثم نائب الأمين العام للمجموعة الوسطية في مجلس الشيوخ الفرنسي ، ومدرس مادة الاستراتيجية في جامعة السوربون.

([4])  كتاب: الشيعة في العالم .. صحوة المستبعدين واستراتيجيتهم  ، فرنسوا تويال ، ص 31 .. ص 39 و 40 .. ص 163 و 164.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


مجتبى الساده
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/11/01



كتابة تعليق لموضوع : المهدوية خط هداية متصل بالسماء
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net