أزمة الإحصائيّات العشوائيّة عند هواة الإعلام
ابراهيم جواد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من باب المقدّمة، ينبغي أن يُعلم أنّ الاختلاف العلميّ داخل أروقة الحوزة العلميّة أمرٌ معهودٌ، والردود والنقاشات لا زالت دائرة بين أهل العلم منذ القرون الأولى، فليس في هذا الأمر أيّ حرجٍ، *ولكن المؤاخذة الشديدة التي جاءت في سياق الردّ على مرجع العلمانيّة والحداثة السيّد كمال الحيدريّ تركّزت على أمرين:*
*١. عدم الدقّة في نسبة الأقوال إلى أصحابها، ولا سيّما مع تكرر ذلك.*
*٢. توظيف البحث العلميّ في فضاءٍ مشبوهٍ يساهم في إثارة التوتّر المذهبيّ.*

والمسألة الأولى هي محلّ الكلام، فإنّ نسبة الأقوال إلى أصحابها بشكل مغلوط وتكرار ذلك في أكثر من مكان ومناسبة يوحي بالعناد والإصرار على الخطأ مع وضوح حقيقته عند كلّ منصفٍ، وهذا يجعل لنا الحقّ في التشكيك في صِدق المنقولات ومدى دقّتها ومطابقتها للواقع، وينبغي أن يشكّل دافعاً للمستمعين نحو البحث والتحرّي ولو بالاستعانة بأهل العلم الموثوق بأمانتهم ودقّتهم.
ومن مظاهر عدم دقّة هذا الرجل في دعاواه التي يطلقها أينما حلّ تكراره التعبير بـ(الكثير من..) أو نسبة ٩٩% انتصاراً للرأي الذي يريد تثبيته، ومن شاء فليراجع دروسه الموجودة في موقعه الإلكترونيّ.

والحال أنّ إطلاقه لمثل هذه النسبة العالية وادّعاء الكثرة بشكل مرتبك وغير منظّم يوجبُ التوقّف في صِدق إحصاءاته واستقرائه للأدلّة وفهمها، ومن باب المثال سأذكرُ مثالاً أشرتُ إليه سابقاً في بعض المقالات، ليظهر أنّ عدم دقّته يصل أحياناً إلى أنّ الشيء أمامه في غاية الوضوح ولكنه لا يأبه له، ومع ذلك ينطلق نحو النتيجة المُسبقة التي يريد إطلاقها.

📝 قال في كتابه (الموروث الروائيّ بين النشأة والتأثير، ص٥٧) وهو يتّحدث عن مسند أحمد بن حنبل: *(ومع هذا الكمّ الكبير من الروايات لم يستطع أن يستخرج ابن حنبل منها إلا زهاء ثلاثين ألف رواية. ومع هذا الفارق الهائل نجد أنَّ بعض المعاصرين عندما جاؤوا إلى التراث الحديثي للإمام أحمد بن حنبل، المنقَّح من قِبَله، لم يسلِّموا به، فأخرجوا #الكثير من الروايات الموضوعة والمدسوسة بحسب مبانيهم من قبيل العلامة محمد ناصر الدين الألباني والعلامة شعيب الأرناؤوط، والعلامة أحمد محمد شاكر والملَّا علي القاري وغيرهم من الباحثين والمحققين، حيث وجدوا فيه أحاديث ضعيفة كثيرة، بل إنَّ بعضها أشد في الضعف من الآخر مما دعا ابن الجوزي إلى إدخال #الكثير في موضوعاته)،* انتهى.

ومن باب الفحص عن دقّة هذه الدعوى بحقّ هؤلاء فسوف نتطرّق إلى أربعة ذكرهم، اثنان منهم عملا على دراسة وتحقيق مسند أحمد:
١. الحافظ ابن الجوزيّ.
٢. الشيخ أحمد شاكر.
٣. الشيخ محمد ناصر الدّين الألبانيّ.
٤. الشيخ شعيب الأرناؤوط.

♦️ *والدّعوى هُنا:* أنّهم أخرجوا الكثير من مسند أحمد - الذي تبلغ أحاديثه ٢٨.٠٠٠٠ حديثٍ تقريباً - وجعلوه في الأحاديث الموضوعة.

فهل ما نسبه إلى هؤلاء خصوصاً صحيح؟! بل وأكثر من ذلك: هل ينسجم ما ادّعاه مع الاتّجاه السنيّ في النظرة التقييمية للمسند؟

أما بالنسبة للأوّل - وهو ابن الجوزيّ -، فقد جمع الحافظ السيوطيّ الأحاديث التي حكم عليها ابن الجوزيّ بالوضع وردّ عليه فبلغ العدد (٣٨ حديثاً)، انظر: تدريب الراوي، ج١، ص١٨٨. وراجع أيضاً: النكت البديعات، ص٣٦٠.
وأمّا الثاني - وهو الشيخ أحمد شاكر - ، فلم يحقّق المسند كاملاً إذ وافته المنيّة قبل إتمامه، وفي المقدار الذي أنجزه - وهو ٨٧٨٢ حديثاً -  كان عدد الأحاديث التي حكم عليها بالكذب والوضع (صفر).
وأمّا الثالث - وهو الشيخ الألباني -، فقد قال في مقام ردّ دعوى كثرة الموضوعات في المسند: (والذي يهمّنا ذكره الآن أنّ الذين تتبّعوا ما قِيل بوضعه من أحاديث المُسند لم يستطيعوا أن يصلوا بها إلى ما دُونَ الخمسين)، انظر:  الذبُّ الأحمد عن مسند الإمام أحمد، ص٤٠.
وأمّا الرّابعُ - وهو الشيخ الأرناؤوط -، فقد حقّق المسند كاملاً، وما جزم بأنّه مكذوب موضوع  (حديث واحد فقط)، بينما علّق على ثمانية أحاديث أخرى بقوله: (شِبه موضوع)، فلو قلنا إنّها كلها تسعة أحاديث، فنسبتها في غاية الضآلة والندرة الشديدة.

هذا ما يخصُّ الإحصائيّات بعد الفحص والنظر فيما نُسِبَ إلى هؤلاء الأربعة، أمّا الاتّجاه العامّ عند أهل الحديث والفقهاء بمن فيهم هؤلاء وغيرهم فهو أنّ الأحاديث الموضوعة المكذوبة في (مسند أحمد) نادرةٌ جداً، فهذا الحافظُ العراقيّ يُعبّر عنها بأنّها (ذوات عددٍ، ليست بالكثيرة) بينما يصفُها الحافظ الذهبيّ بأنّها (قطرة في بحر)، انظر: القول المسدد في الذبّ عن مسند أحمد، ص٤/ سير أعلام النبلاء، ج١١، ص٣٢٩.

♦️ *ويتّضح مما تقدّم:* أنّ ما نسبه إلى هؤلاء الأربعة غير دقيق ولا يُطابق الواقع، ولم يكن عن فحصٍ ونظرٍ في نتاجهم العلميّ، وإنّما كان مبنيّاً على الطَبْع والعادة بتكرار إطلاق النسب المئويّة دون تثبُّتٍ أو مراجعةٍ دقيقة.

♦️ *وللعاقلأن يتساءل:* إذا كان ما ذكره فيما يخصّ كتاباً واحداً لم يكن دقيقاً، فما مدى دقّة ما ادّعاه بشأن التراث الروائيّ عند الشيعة مثلاً لا سيّما مع معروفيّته بعدم اشتغاله بهذه المباحث التخصصية لسنواتٍ طويلةٍ، فقد كان راقداً في حضن ابن عربيّ والقونويّ، وبين ليلةٍ وضحاها قفز في وجوهنا ونصبَ نفسه محدّثاً محقّقاً حاكماً في علم الحديث، ولله في خلقه شؤون.
وأمّا المفارقة الأخرى، فهي أنّ دعوى هذا الرجل هنا تفتقر إلى الدقّة رغم أنّه في مقام لا يتطلب أكثر من ملاحظة الإحصائيات، فكيف لو كان في مقامٍ يقتضي التحقيق في عشرات الآلاف من الأحاديث واحداً تلو الآخر؟! حينها ربّما سيُضحك جميع المذاهب الإسلاميّة على "أعلميّته" و"شموليّته" البهلوانيّة.

وإذا كان امرؤ بهذا القدر من الجُرأة رغم افتقاره إلى أدنى المقوّمات الطبيعيّة للنهوض بأعباء تلك المهمات العلميّة فلا يليق به إلّا أن يُخاطَب كما خاطب أميرُ المؤمنين (عليه السلام) معاويةَ بن أبي سفيان: "ألا تربع أيها الإنسان على ظَلْعك، وتعرف قصور ذَرْعِكَ، وتتأخر حيث أخّرك القدر؟! .. وإنك لذهَّابٌ في التيه، روَّاغ عن القصد".

• "تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ".
• "يُثَبِّتُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ".

#هواة_الإعلام


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ابراهيم جواد

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/10/22



كتابة تعليق لموضوع : أزمة الإحصائيّات العشوائيّة عند هواة الإعلام
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net