صفحة الكاتب : نبيل محمد حسن الكرخي

نقد كتاب اللاهوت العربي ليوسف زيدان – (8/5)
نبيل محمد حسن الكرخي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 بين التوراة الإلهية والتوراة المعاصرة:

تحدث يوسف زيدان عن التوراة وقصصها ومحتوياتها ونسب الى المسلمين انهم يعترفون بها بحذر فقال: (إذا نظرنا الى التوراة بعينٍ مجردة لم تعتد هذه النصوص، ولا تعتدُّ بها كوحي من السماء، فسوف تفجؤنا حقائق محيِّرة في التوراة أو أسفار موسى الخمسة التي يبدأ بها (العهد القديم) وهي أسفار: التكوين، الخروج، اللاويين، العدد، التثنية. وهذه الاسفار الخمسة تعدُّ حجر الزاوية في الديالنة اليهودية، وتعترف بها المسيحية اعترافاً كاملاً، وينظر إليها الاسلامُ بعين القلق من دون أن يرفضها تماماً، على إعتبار أنها صحيحةُ الأصل، محرَّفةُ النصِّ. ومن ثم فالتوراة تحظى من الإسلام بإعتراف منقوص، أو بإقرار مشوب بالحذر)[1].
لكنه لم يتحدث ولو على نحو الإشارة الى تاريخ التوراة ومخطوطاتها، والمراحل التي مرّت بها تدويناً وجمعاً وكيف فقدت وكتبت من جديد بعد السبي البابلي، ومشاكل ترجماتها من لغتها الاصلية الى أخرى فضلاً عن مشاكل التعرف على لغتها الاصلية التي كتبت بها، وكيفية ادخال التشكيل والحركات الى حروفها فيما يسمى النص الماسوري بعد ظهور الاسلام، وفقدان نسخ المخطوطات السابقة على الاسلام لان اليهود ابتداءاً من القرن الثامن الميلادي اي بعد ظهور الاسلام اتلفوا جميع المخطوطات بعد الاسلام التي لم يتم ادخال الحركات على حروفها وجُملها!!
تجسد الآلهة في منطقة الهلال الخصيب:
ذهب الاستاذ يوسف زيدان في الفصل الثالث[2] الى ان طبيعة الفرق المسيحية اختلفت بسبب اختلاف مناطق انتشارها ففي اليونان ومصر حيث كانت الاديان السابقة على المسيحية تؤمن بتجسد الآلهة ونزولها بين البشر والتزاوج بين الآلهة والبشر فقد انتشرت المسيحية فيها بشكل يؤمن بتجسد المسيح واصله الإلهي، بينما في المنطقة العربية والهلال الخصيب لم تكن الديانات القديمة تؤمن بتجسد الآلهة بل تنظر لها نظرة انها مستعلية على البشر، فقال: (ولكن على العكس من ذاك النزوع الميثولوجي القديم المصري واليوناني، لتألُه الإنسان وتأنُس الإله، كانت الديانات السابقة على المسيحية في منطقة الجزيرة العربية والهلال الخصيب تُعلي من مرتبة الآلهة وتتصورهم مفارقين تماماً لعالم البشر. ومع أن الناس هناك صوَّروهم أحياناً على هيئة بشرية في (الاوثان) أو هيئة مجردة في (الأصنام) إلا أنهم بشكل عام اعتقدوا بوجود مسافة شاسعة بين الله والإنسان، وهي المسافة التي يهيم فيها بحسب اعتقاداتهم القديمة، الجنّ والعفاريت والغيلان، الى آخر هذه (الكائنات) الوسيطة. ولذلك نرى العقلية العربية التي شاعت في هذه المنطقة من العالم تتلقّى المسيحية بفهم آخر يخالف الفهم المصري واليوناني. ولأن الفهم الأخير هو (القويم) فقد صار الفهم المخالف له، هرطوقيّاً. وقد امتد الفهم العربي للديانة قويّاً، خلال الزمن المسيحي. ولذلك نجد كثيراً من الأفكار التي شاعت في المرحلة السابقة على الإسلام، تشير دوماً الى الآلهة من بعيد وتوميء إليهم في عليائهم، رمزاً وتلويحاً)[3]. 
وهذا النص قد يكون فيه شيء من الصحة من حيث تأثير الاديان الوثنية وإلقائها بظلالها على فكر بولس مؤسس المسيحية حيث استمد منها فكرة تجسد الآلهة ونزولها الى الارض، لكن من الناحية التأريخية فإن المذاهب المسيحية التي انتشرت في بلاد العرب ومنطقة الهلال الخصيب لم تولد فيها بل جائتها من خارجها من حيث انتشرت المسيحية في المناطق التي شملتها دعوة بولس. بالاضافة الى ان مصر التي كانت فيها اديان وثنية تجسد الآلهة بحسب ما وصف يوسف زيدان هي نفسها التي ظهرت منها دعوة آريوس الليبي بالتوحيد ونبذ تعدد الآلهة والاقانيم ورفض تجسد الآلهة. يضاف الى ذلك ايضاً ان بلاد العرب ومنطقة الهلال الخصيب قد خضعت الى تأثيرات الدعوة الوحدانية التي اطلقها إبراهيم الخليل (عليه السلام) وحتى الاديان الوثنية في تلك المناطق والتي ظهرت فهي ايضاً قد تأثرت بالاديان الحقة التي كانت تظهر بيد الانبياء (عليهم السلام) الذين بيّن الله سبحانه وتعالى انه قد ارسل في كل قومٍ رسولا، كما في سورة النحل قوله تعالى: ((وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ ۖ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ ۚ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ)). فلا شك ان بقايا تلك الاديان وفي مقدمتها دعوة ابراهيم الخليل (عليه السلام) التوحيدية قد وجدت صداها في الانحرافات الدينية الوثنية في تلك المناطق، ولذلك نجد العلو والسمو قد ظهر في وصف تلك الآلهة الوثنية تقليداً لما في الاديان التوحيدية، حيث ان منطقة الهلال الخصيب والجزيرة العربية هي اقرب جغرافياً للمناطق التي ظهرت فيها دعوة ابراهيم الخليل (عليه السلام)، تلك الدعوة الخالدة التي لا يمكن ان نفهم حركة الفكر الديني في شبه الجزيرة العربية والهلال الخصيب دون ان نقيم لها وزناً معتداً به.
 
مع سورة لقمان:
قال يوسف زيدان وهو يدّعي تشابه سيرة وأقوال أحيقار وزير الملك سنحاريب (705 – 681) ق.م "التي عُثِرَ على نسخة آرامية منها، يعود تاريخ كتابتها الى القرن الخامس قبل الميلاد، ما نراه في الكتاب المقدس من سفر النبي يشوع بن سيراخ، وما نراه في القرآن الكريم من وصايا لقمان الحكيم الذي اقتحمت سيرته وأقواله الحكيمة لأبنه قلب السورة القرآنية المسماة بأسمه قاطعةً بحدة بالغة السياق المخبر عن (الله) في الآيات السابقة عليها مباشرةً والتالية لها، فكأنها نصٌّ اقتحم المتن فجأةً"[4]!!
وهذا النص فيه إثارتان، الاولى زعمه تشابه سيرة وأقوال احيقار وكان وزيراً للملك سنحاريب الذي حكم في اواخر القرن السادس قبل الميلاد مع اقوال وسيرة لقمان الحكيم، بدون ان يبين وجه التشابه في الاقوال والسيرة!؟ 
مع العلم ان قصة احيقار وردت في ثلاثة مخطوطات: آرامية وسريانية وعربي في قصة ألف ليلة وليلة!!
فقصة احيقار التي وردت بالنص الآرامي التي يعود زمنها الى (550- 450)ق.م عثر عليه في جزيرة الفيلة من اعمال مصر الجنوبية، ويظهر انه كانت فيها مستعمرة يهودية لغتها العامية الآرامية[5].  تدور المخطوطة الآرامية حول حكيم اسمه احيقار يتحدث هو عن نفسه فيقول انه وزير الملك سنحاريب، وقد تبنّى ابن اخته وأسمه (نادن) وكان يعلمه الحكمة وتدبير الملك ليخلفه في خدمة أسرحدون بعد موت أبيه سنحاريب[6]! ويقول أنيس فريحة واصفاً قصة احيقار في المخطوطة الارامية: (يبدو فيها العنصر الوثني الآشوري على أكمله ... نحن نعتقد ان القصة الآرامية مقتبسة عن رواية شفهية آشورية)[7]. ومن "الحكمة" الواردة فيها انه مما يرضي الإله شمس رجل يشرب الخمر ويعطي الآخرين ليشربوا[8]!! وقوله: لا تري العربي البحر ولا الصيداوي الصحراء لأن عملهما مختلف[9]!
وكم في التاريخ من حكماء يعلمون ابنائهم او اقاربهم الحكمة، فالاقربون اولى بالمعروف وهذا بعض من حكمتهم، فلا يتحتم ان كل حكيم ظهر في التاريخ له ابن اخت او ابن او قريب يعلمه هو نفسه لقمان الحكيم! كما ان النص الآرامي فيه تمجيد للوثنية فهو نص ظهر في بيئة آشورية تعنى بتعدد الآلهة.
اما النص السرياني فان جميع المخطوطات التي وردت فيها قصة احيقار تمت كتابتها بعد ظهور الاسلام، مما يعني احتمال معتد به لتأثر كاتب تلك المخطوطات او ناسخها بقصة لقمان الحكيم الواردة في القرآن الكريم. يقول أنيس فريحة: (وأقدم المخطوطات السريانية ترجع الى القرن الثاني والثالث عشر وبعضها منسوخ في القرن السابع والثامن والتاسع عشر فهي نسبياً حديثة العهد بالنسبة الى النص الآرامي الذي وجد في جزيرة الفيلة)[10]. وقد ورد في النص السرياني أن احيقار هو كاتب الملك سنحاريب بن أسرحدوم ملك آشور ونينوى[11]! والاسم الصحيح هو أسرحدون كما ان الصحيح انه ابن سنحاريب وليس أباه! وانه تبنى ابن اخته واسمه نادان[12].
اما النص العربي لقصة احيقار فقد ورد في الف ليلة وليلة، يقول انيس فريحة: ان نص الف ليلة وليلة الاصيل ترجمت عن السريانية بعربية عاميّة مكتوبة بالحرف السرياني[13]. ويدور النص حول الحكيم (حيقار) وزير الملك سنحاريب،  وأنه تبنّى ابن اخته وأسمه نادان[14].
وقد ورد اسمه في بيت من الشعر الجاهلي لعدي بن زيد هكذا: (الحيقار)[15]. وهو قوله:
وَغُصنَ عَلى الحَيقارِ وَسطَ جُنودِهِ * وَبَيَّنَ في فَيداشِهِ رَبُّ مارِدِ
سَلَبنَ قُباذاً رَبَّ فارِسَ مُلكَهُ * وَحَشَّت بِكَفَّيهِ بَوارِقُ آمِدِ
 
وفي سفر طوبيا احد اسفار الكتاب المقدس عند المسيحيين وردت قصة طوبيا وابن اخيه احيقار بن عنئيل، في زمن الملك سنحاريب وابيه شلمناصر[16].
وأقوى استدلال للبعض على ان لقمان هو نفسه احيقار ان للقمان ابن زعموا ان اسمه (ثاران)، قال انيس فريحة: (وكان للقمان ابن اسمه ثاران (أو ناران) ونحن لا نشك في ان هذا الاسم هو نادان، ولكنه على ايدي النساخ صُحِّفَ الى ثاران أو ناران. وهذا الابن هو المقصود في تعاليم لقمان عندما يبدأ بقوله "يا بني")[17]، وذكر في هامش نفس الصفحة مصدرين هما (الروض الانف) للسهيلي، و(حياة الحيوان الكبرى) للدميري! 
فأما ان يقال ان اسم ابن لقمان هو (ناران) فشيء لم نعثر عليه في كتب التراث العربي التي توفرت لنا، وعلى انيس فريحة ان يذكر مصدر هذه المزاعم. والظاهر إنَّه إنما حشر أسم (ناران) في النص السابق ليقارب (ثاران) الوارد في التراث العربي مع (نادان) الوارد في مخطوطة التراث السرياني[18] التي تعود الى نهاية القرن السابع عشر وبالتحديد سنة 1697م[19]!! وقد نتسائل هنا عن الأمانة العلمية!! كما يجب ان نُذكِّر بأنَّ أسم ابن اخت احيقار قد ورد بلفظ: (نادِن) في التراث الآرامي[20]! فأين (ثاران) من (نادِن)!!
وإما ما جاء في كتاب الدميري فهو: (وقال لقمان لابنه، واسمه ثاران وقيل أنعم: يا بني لكل قوم كلب، فلا تكن كلب قومك)! بدون ان ينسبه لمصدر! فمن جهة فهو قد ذكر ان اسمه ابنه اما (ثاران) او (أنعم)، ولكن أنيس فريحة لم يشر لذلك. ومن جهة أخرى فإنَّ هذا المصدر نفسه يقول ان لقمان (هو لقمان بن عنقاء بن بيرون وكان نوبياً من أهل آيلة) فإن صح ما ذكره عنه في الاولى حول اسم ابنه فقد صح في الثانية حول نسبه، وإلا يصبح الامر انتقائياً!
وأما السهيلي فقد اختلف النقل عنه، فالبعض ينقل عنه ان (ثاران) أسم أبيه وليس اسم ابنه، وان هناك تصحيفاً حدث بين الكلمتين (أبيه) و(أبنه). فنجد ابن كثير (المتوفى774هـ) في كتابه البداية والنهاية يقول: (هو لقمان بن عنقاء بن سدون، ويقال لقمان بن ثاران حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي. قال السهيلي وكان نوبياً من اهل أيلة)[21].
وأيضاً قال العيني (متوفى 855هـ) في عمدة القاريء: (ويقال لقمان بن ثاران حكاه السهيلي عن ابن جرير والقتيبي)[22].
والظاهر ان التصحيف سبق زمن السهيلي حيث نجد ابن قتيبة (المتوفى سنة 276هـ) في كتابه المعارف يقول: (واسم ابيه ثاران)[23].
فعلى فرض ان اسم ابن لقمان هو (ثاران) فهذا لا يعني ان لقمان هو نفس أحيقار فقط لأن لديه ابن اخت تبناه أسمه (نادِن) كما ورد في المخطوطات الآرامية.
مع ان هناك مصادر تتردد في اسم ابن لقمان بين (ثاران) و(مشكم) و(أنعم) و(مأتان) كما في فتح القدير للشوكاني[24].
وهناك رواية تبين بوضوح ان شخصية لقمان تختلف عن شخصية احيقار او الحيقار كما كان يسميه العرب، فقد روى الطبري (متوفى 310هـ) في تاريخه بسنده عن محمد بن اسحاق قال: (قدم سويد بن الصامت أخو بني عمرو بن عوف مكة حاجا - أو معتمرا - وكان سويد إنما يسميه قومه فيهم الكامل لجلده وشعره وشرفه ونسبه، وهو الذي يقول:
ألا رب من تدعو صديقا ولو ترى * مقالته بالغيب ساءك ما يفري
مقالته كالشهد ما كان شاهدا * وبالغيب مأثور على ثغرة النحر
يسرك باديه وتحت أديمه * تميمة غش تبتري عقب الظهر
تبين لك العينان ما هو كاتم * من الغل والبغضاء بالنظر الشَّزر
فرشني بخيرٍ طالما قد بريتني * وخير الموالي من يريشُ ولا يبري
قال: فتصدى له رسول الله ﷺ حين سمع به فدعاه إلى الله والإسلام، فقال له سويد: فلعل الذي معك مثل الذي معي. فقال له رسول الله ﷺ: «وما الذي معك؟» قال: مجلة لقمان - يعني: حكمة لقمان -. فقال رسول الله ﷺ: «أعرضها علي»، فعرضها عليه. فقال: «إن هذا الكلام حسن والذي معي أفضل من هذا؛ قرآن أنزله الله عليّ هو هدىً ونور». فتلا عليه رسول الله ﷺ القرآن ودعاه إلى الإسلام. فلم يبعد منه وقال: إن هذا القول حسن. ثم انصرف عنه فقدم المدينة على قومه فلم يلبث أن قتله الخزرج. فإن كان رجال من قومه ليقولون: إنا لنراه قتل وهو مسلم، وكان قتله قبل بعاث)[25].
وكما مرَّ آنفاً نجد إنَّ أسم أحيقار يظهر في مختلف الحضارات والثقافات بنفس التركيبة او تركيبة مقاربة، كما مرّ علينا، (أحيقار – الحيقار)، في الثقافة الآرامية والسريانية والعربية، وفي نفس الوقت هناك في الثقافة العربية اسم لقمان، فالتراث العربي عرف الشخصيتين معاً أي شخصية الحيقار وشخصية لقمان، فهما حكيمان عاشا في عصور مختلفة، ولا يوجد اي ارتباط بين حياتهما او تأريخهما. 
والاثارة الثانية ما زعمه يوسف زيدان من ان قصة لقمان الحكيم قد "اقتحمت" السورة القرآنية التي وردت فيها، ومزاعم الاقتحام مفبركة فهي مجرد كلام يراد منه بث شبهة بدون مناسبة، فالآيات القرآنية عادةً تنتقل من وعظ وارشاد الى حكم شرعي الى ترغيب وترهيب إلخ وهذا الامر واضح لكل من يقرأ كتاب الله عزَّ وجلَّ. وصدق الله العليِّ العظيم الذي قال في الآية التي تلت وصايا لقمان مباشرة: ((وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ))[26]، وهذا خير ما نرد به على ما يبثه يوسف زيدان في هذا النص من شبهة!
 
دعوى نبوة مسيلمة الكذاب في الجاهلية!
قال يوسف زيدان: (وقبيل الاسلام ادعى النبوة مسيلمة ابن حبيب الحنفي، وهو المسمى من بعد: مسيلمة الكذاب! وكان ظهوره بمكة، وهو أول من تسمّى بالرحمان وبرحمان اليمامة، وكانت له ديانة توحيدية تقول بإله واحد للكون هو: الرحمن رب العالمين)[27].
وهذا النص مليء بالاخطاء التأريخية، ومن الملفت للنظر ان يردد يوسف زيدان – بغض النظر عن إتهامه بسوء النية – مثل هذه الاخطاء بدون تمحيص!! وسنرى في السطور القادمة ان مسيلمة الكذاب لم يظهر في مكة بل في اليمامة، ولم يكن صاحب ديانة توحيدية بل كان صاحب كهانة وحيل وخدع بصرية، ولم يكن يعرف صيغة (الرحمن رب العالمين) فهي صيغة اسلامية.
فإذا كان مسيلمة يسمي نفسه في الجاهلية بأسم (الرحمن) فهذا يعني انه كان يدَّعي الإلوهية وليس النبوة! بدليل انه كان يفعل بعض الخدع التي تنطلي على البعض من قومه!
قال ابن قتيبة (توفي 276هـ): (هو مسيلمة بن حبيب من حنيفة بن لجيم ويكنى أبا ثمامة وكان صاحب نيرنجات وهو اول من أدخل البيضة في القارورة وأول من وصل جناح الطير المقصوص من الطير فاتبعه على ذلك خلق كثير)[28].
وقال السهيلي (متوفى 581هـ): (وكان مسيلمة صاحب نيروجات، يقال انه اول من ادخل البيضة في القارورة، وأول من وصل جناح الطائر المقصوص، وكان يدّعي ان ظبية تأتيه من الجبل فيحلب لبنها)[29].
ولم يعرف عن بني حنيفة في الجاهلية عبادة توحيدية، بل كانوا يعبدون الاصنام وفيهم النصرانية ايضاً[30]. ويقول الطبري ان بني حنيفة في الجاهلية كانت راسخة في النصرانية قد اخذتها عن نصارى تغلب[31].
واما قول الذهبي: (وقيل إن مسيلمة قتل عن مائة وخمسين سنة وكان قد ادعى النبوة، وتسمى برحمان اليمامة فيما قيل قبل أن يولد عبد الله أبو النبي صلى الله عليه وسلم)[32]، فمن الواضح ان الذهبي يقصد ان اتخاذه تسمية (رحمان اليمامة) قبل ان يولد عبد الله بن عبد المطلب وليس موضوع ادعاء النبوة، لأن جميع المؤرخين مجمعون على انه لم يدّع النبوة الا في سنة 10 هـ أو بعدها. ويؤيد هذا ما ذكره الصالح الشامي قال: (مسيلمة تسمى بالرحمن في الجاهلية قبل ان يولد عبد الله والد النبي صلى الله عليه وسلم، كان من المعمرين)[33].
ذكر الشوكاني في فتح القدير (وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال: إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم عن الرحمن، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن، فنزلت الآية .وهو مرسل. وأخرج ابن جرير عن مكحول «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده يا رحمن يا رحيم، فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمن، وكان رجل باليمن يقال له الرحمن، فنزلت)[34]. فكاهن اليمامة هو مسيلمة الكذاب (لعنه الله) والذي اتخذ لقب الرحمان باليمن هو الاسود العنسي (لعنه الله)، غير ان الاقوى انهما اتخذا هذا اللقب بعد ظهور الاسلام.
وقال الشيخ ابن عاشور في تفسيره لقوله تعالى ((الرحمن الرحيم)) في سورة الفاتحة: (وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمان لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن)) وقال: ((وهم يكفرون بالرحمن)) وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمان في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله) الى أن يقول: (وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة:
سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا … وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا
فإنما قاله بعد مجيء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة، وقد لقبوا مسيلمة – أيامئذ - رحمن اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر)[35].
غير إننا لا نتفق مع القول بأن العرب لم يعرفوا أسم (الرحمان) قبل الاسلام، فقد وردت نصوص آثارية بوجود معبود بأسم (الرحمان) في جنوب شبه الجزيرة العربية، وما هذا الا من بقايا دين إبراهيم الخليل (عليه السلام). 
يقول الدكتور جواد علي: (وأما عبادة (الرحمن) (رحمنن)، فهي عبادة توحيد، ظهرت من جزيرة العرب فيما بعد الميلاد. وقد وردت كلمة (رحمنن)، أي (الرحمن)، في نص يهودي كذلك وفي كتابات (ابرهة)، وردت في نصوص عربية جنوبية أخرى وفي نصوص عثر عليها في أعالي الحجاز. وقد كان أهل مكة على علم بالرحمن، ولا شك، باتصالهم باليمن وباليهود[36]. ولعلهم استخدموا الكلمة في معنى الله. وإنْ ذكر علماء اللغة أو علماء التفسير أن اللفظة لم تكن معروفة عند أهل مكة في الجاهلية. وقد جاء في النص اليهودي المذكور: (الرحمن الذي في السماء واسرائيل وإلَه اسرائيل رب يهود). وقد حمل هذا النص بعض الباحثين على القول بأن العرب الجنوبيين قد أخذوا هذه الكلمة وفكرتهم عن الله من اليهودية، وأن فكرة التوحيد هذه إنما ظهرت بتأثر اليهودية التي دخلت إلى اليمن. غير أن من الباحثين من رأى خلاف هذا الرأي. رأى أن افتتاح النص بذكر الرحمن، ثم إشارته بعد ذلك إلى إلَه يهود، وورود كلمة (الرحمن) في نص آخر يعود إلى سنة (468) للميلاد . كتبه صاحبه شكراً للرحمن الذي ساعده في بناء بيته: كل هذه وأسباب أخرى، تناقض رأي القائلين بأن عقيدة الرحمن عقيدة اقتبست من اليهود. وقد ذكر بعض علماء اللغة أن (الرحمن) اسم من أسماء الله مذكور في الكتب الأول، وأن اللفظة عبرانية الأصل، وأما (الرحيم) فعربية. وذكروا أن (الرحمن) اسم مخصص بالله، لا يجوز أن يسمى به غيره . وقد أنشدوا للشنفرى أو لبعض الجاهلية الجهلاء:
ألا ضربت تلك الفتاة هجينها     ألا قضب الرحمن ربي يمينها 
فيظهر من هذا البيت أن الشاعر كان يدين بعبادة الرحمن. ونجد مثل هذه العقيدة في قول سلامة بن جندل الطهويّ:
عجلتم علينا عجلتينا عليكم      وما يشأ الرحمن يعقد ويطلق 
فإن ذلك يعني أن قوماً من الجاهليين كانوا يدينون بعبادة (الرحمن). ومما يؤيد هذا الرأي ما ورد من أن بعض أهل الجاهلية سموا أبناءهم عبد الرحمن، وذكروا أن (عامر بن عتوارة) سمى ابنه (عبد الرحمَن) . وقد وردت لفظة (الرحمن) في شعر ينسب إلى (حاتم الطائي) هو:
كلوا اليوم من رزق الإلَه وأيسروا     وإن على الرحمان رزقكم غداً
وحاتم من المتألهة، ويعده البعض من النصارى و(الرحمن) نعت من نعوت الله في النصرانية، من أصل (رحمونو) Rahmono  ، فهل عبر شاعرنا بهذه اللفظة عن هذا المعنى النصراني؟ «وقد زعم بعضهم أن العرب لا تعرف الرحمن حتى ردّ الله عليهم ذلك بقوله: قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أياً ما تدعوا فله الأسماء الحسنى. ولهذا قال كفّار قريش يوم الحديبية لما قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، لعلي: اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم. فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم. رواه البخاري. وفي بعض الروايات: لا نعرف الرحمن إلاّ رحمن اليمامة». وذكر أن المشركين سمعوا النبيّ يدعو ربه، يا ربنا الله ويا ربنا الرحمن، فظنوا أنه يدعو إلهيْن، فقالوا: هذا يزعم أنه يدعو واحداً، وهو يدعو مثنى مثنى. وأن أحدهم سمع الرسول يقول في سجوده: يا رحمن يا رحيم فقال لأصحابه: انظروا ما قال ابن أبي كبشة دعا الرحمن الذي باليمامة. وكان باليمامة رجل يُقال له الرحمان. ولم يذكر أهل الأخبار شيئاً عن ذلك الشخص الذي زعموا أنه كان يُعرف ﺒ (رحمان اليمامة). لكنهم ذكروا أن (مسيلمة الكذاب)، كان يُقال له رحمان اليمامة . فهل عنوا ﺒ (رحمان اليمامة) مسيلمة نفسه، أم شخصاً آخر كان يدعو لعبادة (الرحمان) قبله؟ وورد إن قريشاً قالوا للرسول: «انا قد بلغنا إنك إنما يعلمك رجل باليمامة، يقال له الرحمن ولن نؤمن به أبداً». فنزل فيهم قوله: ﴿كذلك أرسلناك في أمة قد خلت من قبلها أمم لتتلو عليهم الذي أوحينا اليك، وهم يكفرون بالرحمن، قل هو ربي لا إلَه إلا هو عليه توكلت وإليه متاب﴾ . وذكر بعض أهل الأخبار: كان مسيلمة بن حبيب الحنفي، قد تسمّى بالرحمن في الجاهلية، وكان من المعمرين، وذلك قبل أن يولد عبد الله أبو رسول الله. وورد في بعض أقوال علماء التفسير إن اليهود قالوا: (ما لنا لا نسمع في القرآن اسماً هو في التوراة كثير. يعنون الرحمان، فنزلت الآية). ويرى المستشرقون أن عبادة (الرحمن) (رحمنن)، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم. وقد ذكر (اليعقوبي) أن تلبية (قيسى عيلان)، كانت على هذا النحو: «لبيك اللهم لبيك، لبيك أنت الرحمان، أتتك قيس عيلان، راجلها والركبان»  وأن تلبية عك والأشعرين، كانت:
نحج للرحمان بيتاًعجباً     مستتراً مغبباً محجباً 
وفي التلبيتين المذكورتين دلالة على اعتقاد القوم بإلَه واحد، هو الرحمان.
ولم ترد لفظة (الرحمان) إلاّ مفردة، فليس لها جمع، لأنها تعبير عن توحيد، وليس في التوحيد تعدد، فالتعدد شرك. على عكس لفظة (رب)، التي تؤدي معنى (إلَه)، وهي تعبير عن اعتقاد، لا اسم علم لإلَه، ولذلك وردت لفظة (أرباب) بمعنى آلهة تعبيراً عن تعدد الآلهة، وهو الشرك. وقد كان الجاهليون يقولون: ربيّ وربك وربنا وأربابنا، كما يقولون إلهي وإلاهلك وآلهتنا)[37]!
اما قول الدكتور جواد علي: (ويرى المستشرقون ان عبادة "الرحمن" "رحمنن"، إنما ظهرت بين الجاهليين بتأثير دخول اليهودية والنصرانية بينهم)[38]فقد التبس الامر على هؤلاء المستشرقين لأن التراث اليهودي والنصراني لم يكتب بلغة عربية، وهذا اللفظ من مختصات اللغات العربي القديمة والحديثة. فتراثهم مكتوب بالآرامية والعبرية واليونانية واللاتينية، ولم يرد فيه لفظ الرحمن. ومن الملفت ان الكتاب المقدس بترجماته العديدة الى اللغة العربية منذ القرن السادس عشر الميلادي والى يومنا هذا، لم يرد فيها اسم (الرحمن)! وبعض الطبعات الحديثة ذكرت اسم (الرحيم) تأثراً بالتراث الاسلامي.
اما النص اليهودي الذي اشار اليه د. جواد علي فالظاهر انه نص يعود الى يهود حمير في اليمن، وليس في توراة اليهود العبرية ولا في اسفارهم المقدسة! كتب فاضل الربيعي: (في النقش المعروف باسم "CIH 543" قياس الحروف ثلاثة سم،الفترة هـ، مكانه: ظفار/يريم/ محافظة إب) اليمن. و"يريم" هذه كانت عاصمة الحميريين (يهوذا/مملكة الجنوب). 
النص بالحروف اللاتينية:
   1  ([b]rk w-tbrk s¹m Rḥmnn ḏ-b-s¹myn w-Ys³rʾl w-)
   2  (ʾlh-hmw rb-Yhd ḏ-hrd(ʾ) ʿbd-hmw S²hrm w-)
   3  (ʾm-hw Bdm w-ḥs²kt-hw S²ms¹m w-ʾl—)
   4  (wd-hmy Ḍmm w-ʾbs²ʿr (w)-Mṣr—)
   5  (m w-kl bhṯ-h [... ...])
   6  ([.]w[... ...])
 
الترجمة إلى الإنجليزية:
   1  May bless and be blessed, the name of Rḥmnn, who is in the heaven, and Israel and
   2  (their god, the lord of the Jews, who assisted his servant S²hrm)
   3  (his mother Bdm, his wife S²ms¹m, their)
   4  (children Ḏmm, ʾbs²ʿr and Mṣr-)
   5  (m, and all the members of his house [... ...])
الترجمة إلى العربية من السبئية:
1-  ليتبارك اسم الرحمن، في السماء وإسرائيل
2-   إلههم، رب اليهود، الذي ساعد خادمهم شهرم
3-   أمه "بدم" وزوجته شمسيم (شمسة)
4-   لتقديم الشكر لـ"ود" مصريم
5-    وكل آل بيته [... ...]
 في هذا الدعاء الديني الذي تركه لنا شخص يمني يدعى "شهرم/شهر" وهو قتباني من الجنوب، أي من يهود حمير الذين ينتسبون إلى (قتبان/المملكة الجنوبية المنهارة 650 ق. م) نلاحظ أنه يدمج بين "إسرائيل" و"رب اليهود"، وهذا أمر مفهوم، فقد مضى وقت طويل على الصراع بين الشماليين الإسرائيليين والجنوبيين اليهود (يهود حمير) )[39].
فتأثر يهود اليمن بالحنفية دين إبراهيم الخليل (عليه السلام) دفعهم لإقتباس أسم (الرحمان) من محيطهم واستعماله في تراثهم الديني.
وقال الدكتور جواد علي بخصوص مسيلمة الكذاب و(الرحمان): (وذكر أهل الأخبار أن (مسيلمة بن حبيب الحنفي)، كَان ممن ادّعى النبوة بمكة قبل الهجرة، وصنع أسجاعاً)[40]، وذكر لهذه مصدراً في هامش الصفحة فقال: (الحيوان (4/ 89)، «مسيلمة بن عثامة بن كبير بن حبيب بن الحرث، من بني حنيفة»، إرشاد الساري (6/ 434)) وبعد مراجعة هذين المصدرين لم اعثر فيهما على ما نسبه اليهما من ان مسيلمة كان قد ادعى النبوة في الجاهلية! 
فمما جاء في كتاب (الحيوان للجاحظ) في الجزء الرابع، مما يخص مسيلمة الكذاب قوله: (فذكر أنّ مسيلمة طاف قبل التنبّي، في الأسواق التي كانت بين دور العجم والعرب، يلتقون فيها للتسوّق والبياعات، كنحو سوق الأبلّة، وسوق لقه، وسوق الأنبار، وسوق الحيرة. قال: وكان يلتمس تعلّم الحيل والنّيرجات[41]، واختيارات النّجوم والمتنبئين. وقد كان أحكم حيل السّدنة والحوّاء وأصحاب الزّجر والخطّ ومذهب الكاهن والعيّاف والسّاحر، وصاحب الجنّ الذي يزعم أنّ معه تابعه. قال: فخرج وقد أحكم من ذلك أمورا)[42]. 
ووجدت ما قاله القسطلاني في ارشاد الساري في الموضع المذكور انه نص على ان مسيلمة الكذاب ادعى النبوة سنة عشرة هجرية. قال: ((قال قدم مسيلمة الكذاب) بكسر اللام ابن ثمامة بن كبير بالموحدة ابن حبيب بن الحرث من بني حنيفة وكان فيما قاله ابن اسحاق ادّعى النبوة سنة عشر)[43]. 
ثم قال د. جواد علي في موضعٍ تالٍ: (وأنه دعا إلى عبادته هذه قبل النبوة، وقد عرف أمره بمكة، فلما نزل الوحي على الرسول، قال أهل مكة إنما أخذ علمه من (رحمان) اليمامة)، وذكر مصدر هذا الكلام: (Shorter Ency., p. 416)! وهنا تسكب العبرات ويُعرف مصدر هذه الكذبة، فلا بد وان هذا المصدر قد اعتمد على فرية من فريات بعض المستشرقين أو خصوم الاسلام بأن جعلوا مسيلمة الكذاب نبياً في الجاهلية بدلاً من الاعتراف بحقيقته وممارسته الكهانة واعمال النارينجات! وليت شعري، فكيف عجزوا عن الاتيان بمصدر تأريخي واحد يذكر ان مسيلمة الكذاب كان نبياً في الجاهلية فلجأوا الى كلام الموسوعات الغربية وما يحلوا لخصوم الاسلام ان يكتبوا فيها بلا رقيب!!
فالظاهر ان د. جواد علي بالاعتماد على احد المصادر الاجنبية قد توهَّم ان مسيلمة ادعى النبوة في الجاهلية، والصحيح انه امتهن الكهانة والسحر وما ذُكِرَ آنفاً، وتبعه على هذا التوهم الاخرون بلا بحث أو تمحيص!
وفي المقابل هناك عدة مصادر معتبرة تنص على ان ادعاء مسيلمة الكذاب للنبوة كان في سنة 10هـ، فنقرأ قول المسعودي في التنبيه والاشراف: (ذكر السنة العاشرة من الهجرة وهي سنة " حجة الوداع " ... وقدمت وفود العرب عليه من كل وجه من معد واليمن، وكانت تتربص باسلامها فلما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ودانت له قريش، انقادت له العرب إلى الاسلام وقدم وفد بنى حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل من اليمامة فيمن قدم من الوفود، وفيهم مسيلمة الكذاب بن ثمامة بن كثير بن حبيب بن الحارث بن عبد الحارث بن عدي بن حنيفة، ويكنى أبا ثمامة، وبنو حنيفة يسترونه بالثياب فلما رجعوا أظهر مسيلمة أمره بادعائه النبوة)[44].
وقال ابن الاثير في الكامل وهو يتحدث عن احداث السنة العاشرة الهجرية: (وفيها قدم وفد بني حنيفة وفيهم مسيلمة الكذاب وكان منزله في دار ابنة الحارث امرأة من الأنصار واجتمع مسيلمة برسول الله صلى الله عليه وسلم ثم عاد إلى اليمامة وتنبأ وتكذب [ لهم ] وادعى أنه شريك رسول الله في النبوة . فاتبعه بنو حنيفة)[45]. ثم قال في موضع تالٍ: (وقيل : إن دعوى مسيلمة وغيره النبوة كانت بعد حجة الوداع ومرضته التي مات فيها، فلما سمع الناس بمرضه وثب الأسود العنسي باليمن ، ومسيلمة باليمامة ، وطليحة في بني أسد)[46].
وقال ابن خلدون وهو يتحدث عن حوادث السنة العتشرة الهجرية: (وفى هذه السنة ادعى مسيلمة النبوة وانه أشرك مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في الامر وكتب إليه من مسيلمة رسول الله إلى محمد رسول الله سلام عليك فانى قد أشركت في الامر معك)[47].
وقال المقريزي في إمتاع الاسماع: (وقيل: إن دعوى مسيلمة والأسود العنسي وطليحة النبوة إنما كانت بعد حجة الوداع)[48].
وقال ابن ابي الحديد المعتزلي: (كما أن مسيلمة والأسود العنسي دعوا إلى أنفسهما في آخر أيام رسول الله صلى الله عليه وآله وتسميا بالنبوة)[49].
وقال السيد محسن الامين: (كما دعا مسيلمة والأسود العنسي إلى نفسيهما في آخر أيام رسول الله وتسميا بالنبوة وأبطل الله امرهما بعد وفاة النبي (ص))[50].
وعاد د. جواد علي ليكرر هذا الخطأ من جديد ولكن بدون مصادر هذه المرّة! قال: (ولا يعقل قول من قال إن مسيلمة كان يُعرف ﺒ (الرحمن) قبل ولادة (عبد الله) والد الرسول. أما إنه كان أسنّ من الرسول فلا غرابة في ذلك، ولكني لا أرى أنه كان أكبر من الرسول بعشرات السنين. ومن الجائز أن يكون قد دعا إلى عبادة (الرحمن)، وهي عبادة كانت شائعة معروفة إذ ذاك، في اليمامة وفي غير اليمامة، فعرف قومه ﺒ (رحمن اليمامة)، وذلك قبل نزول الوحي على الرسول، فسمع أهل مكة بدعوته.[51]( ولا ادري كيف يمكن لمثل الدكتور جواد علي ان يصدق ان مسيلمة الكذاب الذي كان يعمل بالكهانة والسحر يتخذ لنفسه لقب الرحمن الا لكي يخدع محيطه بانه إله ويأتي بالمعجزات التي تعلمها بالحيل وما تعلمه من رانجيات وكهانة!! او على الاقل ان يخدعهم بانه يمكن ان يكون بمثابة إله لهم أو كاهن أعظم بدليل ما يفعله امامهم من خُدَع وحيل فاتخذ لنفسه اسم (الرحمان) من اجل نفس الهدف!
ويعضد ما ذهبنا اليه ما قاله الجصاص في احكام القرآن: (قوله تعالى: ((وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)) قال ابن عباس: " هذا قول جماعة من اليهود حين حذرهم النبي صلى الله عليه وسلم نقمات الله ، فقالوا : لا تخوفنا فإنا أبناء الله وأحباؤه " . وقال السدي: " تزعم اليهود أن الله تعالى أوحى إلى إسرائيل أن ولدك بكري من الولد " . وقال الحسن: " إنما قالوا ذلك على معنى قرب الولد من الوالد "، وأما النصارى فقيل إنهم تأولوا ما في الإنجيل في قول المسيح عليه السلام: " إني ذاهب إلى أبي وأبيكم " وقيل : إنهم لما قالوا المسيح ابن الله وكان منهم ، جرى ذلك على قول العرب " هذيل شعراء " أي منهم شعراء ، وعلى قولهم في رهط مسيلمة ، قالوا: نحن أبناء الله، أي قال قائل منهم وتابعوه عليه ، فكان معنى قولهم على هذا الوجه " نحن أبناء الله " أي منا ابن الله)[52].
وكذلك ما قاله النسفي: (والله على كل شيء قدير وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه)، أي أعزة عليه كالابن على الأب أو أشياع ابني الله عزير والمسيح كما قيل لإشباع أبى خبيب وهو عبد الله بن الزبير الخبيبيون كما كان يقول رهط مسيلمة نحن أبناء الله ويقول أقرباء الملك وحشمه نحن أبناءالملوك أو نحن أبناء رسل الله)[53].
واضاف د. جواد علي وهو يتحدث عن مسيلمة: (وأرى أن (مسيلمة) كان قد دعا إلى عبادة الرحمن متأثراً بدعوة المتعبدين له ممن كان قبله على ما يظهر، وهي عبادة إلهَ اسمه (الرحمن) فعرف مسيلمة ﺒ (الرحمن) وﺒ (رحمن اليمامة). وعبادة الرحمن ديانة متأثرة بفكرة التوحيد، وبوجود إلهَ واحد هو (الرحمن) رب العالمين. وقد أشير إلى موضع اسمه (وادي الرحمن) في الكتاب الذي أعطاه رسول الله إلى (يزيد بن المحجل) الحارثي، ورد فيه: (إن لهم غرة ومساقيها ووادي الرحمن من بين غابتها) . ولا أستبعد احتمال وجود صلة بين هذه التسمية وبين الرحمن الإله)[54]!
بربِّك يا دكتور جواد علي - وانت بين يدي الباري الآن - هل ان من يعبد إلهاً يتسمى بإسمه ام يتسمى بعبوديته، فلو كان مسيلمة الكذاب يدعو الى عبادة الرحمان هل كان ليتسمى بأسمه أم بأسم من قبيل (عبد الرحمان) على سبيل المثال، لو كان فعلاً يدعو لعبادة الرحمان! فلماذا كل هذا الاستخفاف بذهن القاريء؟! 
وفي سياق آخر لا بدَّ من الاشارة الى موضوع آخر وهو اعتماد بعض المفسرين على الحكاية التي تقول انه في صلح الحديبية قال سهيل بن عمرو: (ما نعرف الرحمن الا مسيلمة) لم ترد بسند لا صحيح ولا ضعيف، بل وردت مرسلة، واوردها فقط قتادة وابن جريج ومقاتل[55]، وعنهم انتشرت في بقية تفاسير المسلمين على وجه الحكاية! ولا نتفق مع صحة هذه الحكاية حيث أنَّ أمر مسيلمة الكذاب في تلك الفترة كان أقل من ذلك بكثير، بدليل ان وفد بني حنيفة الى رسول الله (صلى الله عليه وآله) لم يكن برئاسته، كما ان الجاحظ ذكر ان هناك من قومه من كان اشرف منه. والذي ورد مسنداً هو ما رواه ابن جرير الطبري في تفسيره (جامع البيان) قال: (حدثنا محمد بن علي بن الحسن بن شقيق ، قال : سمعت أبي يقول: أخبرنا الحسين بن واقد، قال : ثني ثابت البناني، عن عبد الله بن مغفل، أن رسول الله (ص) كان جالسا في أصل شجرة بالحديبية، وعلى ظهره غصن من أغصان الشجرة فرفعتها عن ظهره، وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه بين يديه وسهيل بن عمرو، وهو صاحب المشركين، فقال رسول الله (ص) لعلي: اكتب بسم الله الرحمن الرحيم، فأمسك سهيل بيده، فقال: ما نعرف الرحمن، اكتب في قضيتنا ما نعرف. فقال رسول الله (ص): اكتب باسمك اللهم) الخ الحديث[56].
 وقال جلال الدين السيوطي في الدر المنثور: (وأخرج أحمد والنسائي والحاكم وصححه وابن جرير وأبو نعيم في الدلائل وابن مردويه عن عبد الله بن مغفل قال كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله في القرآن وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلي بن أبي طالب وسهيل بن عمرو بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلى اكتب بسم الله الرحمن الرحيم فاخذ سهيل بيده قال ما نعرف الرحمن ولا الرحيم اكتب في قضيتنا ما نعرف قال اكتب باسمك اللهم)[57] الخ الحديث.
ويذكر د. جواد علي رأياً غريباً مفاده ان مسيلمة الكذاب لم يكن مسلماً ولم يعتنق الاسلام لكي يقال عنه انه مرتد عنه، قال: (هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبراً يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير إلى قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبياً مرسلاً من (الرحمن) وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: (ردة مسيلمة)، أو (ارتداد مسيلمة)، أو نحو ذلك، لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد)[58]! ويكفي للرد على هذا الرأي الشاذ ان مسيلمة كان يعترف بنبوة رسول الله محمد (صلى الله عليه وآله) ويزعم انه شريك معه في النبوة، فلو لم يكن مظهراً للاسلام لما تمكن ان يدعي الشراكة في النبوة. وجاء في شرح النووي لصحيح مسلم وهو يتحدث عن مجيء وفد بني حنيفة ومعهم مسيلمة الكذاب الى رسول الله (صلى الله عليه وآله)، قال: (وكان مسيلمة إذ ذاك يظهر الاسلام وإنما ظهر كفره وارتداده بعد ذلك)[59].
منهجية غائبة في موضوع العرب والانساب: 
يقول الاستاذ يوسف زيدان، ننقل موضع الحاجة مما كتبه: (أهتم العرب بالانساب والابوة، ولذلك نراهم في تنقلهم الدائم ... يتعارفون دوماً بالنسب. فإذا ألتقى الواحدُ منهم بالآخر ولم يعرفه سأله: ممن أنت؟ مستفسراً بذلك عن أبيه وقبيلته إذ هما عند العرب أساس التعرف الى البشر، وقاعدة التعارف فيما بينهم ... وفي الاسلام نجد الحديث النبوي الشهير: الولد للفراش (أي لا بد من أب له) وللعاهر الحجر. وهو ما حدا ببعض فقهاء المسلمين الى تأكيد البنوة لأب، حتى إنهم توسَّعوا في أمر التي تلد بعد وفاة زوجها بفترة على اعتبار ان البذرة كانت (ترقد) في رحمها منذ وفاته! فالمهم عندهم أن يُنسب المولود الى (أب) حيّ أو ميت إذ إن النسبة للأم صارت عندهم عاراً ما بعده عار، مع إنَّ القبائل العربية القديمة كان بعضها أمومي النسبة، من دون حرج في ذلك. وهذه السمات الثقافية العربية التي لا تزال آثارها ممتدة فيهم الى اليوم، كان لها فيما سبق، أثرها القوي (الخفي) في وعي العرب بالمسيحية، إذ جعلتهم أو جعلت بعضهم يتقبلون أن تلد العذراء بمعجزة إلهية، إذ المعجزات صِنوٌ للنبوات. لكنهم بطبعهم لم يستسيغوا أن يترتب على ذلك أن يكون المولود هو ابن الله، اللهم إلا على سبيل المجاز، مثلما قد يقال مجازاً عن اليهود إنهم أبناء الله، أو يُقال عن النصارى إنهم أبناء المسيح. أما التطرف بالقول الى الحد الذي نجعل فيه الانسان إلهاً، خاصةً أن هذا الانسان تعذَّب وقتل مصلوباً ومات. فهذا امرٌ لم يكن من المنطقي بالنسبة للعقلية العربية، مهما كانت درجة قبولها للمسيحية، أن تتقبَّله..فهي العقلية التي ردَّدت دوماً، ولا تزال تردد الى اليوم، عبارة (الله غالب) المأخوذة بنصها ودلالتها من نص القرآن الكريم، العربي المبين، الذي يقول: ((والله غالب على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون)){يوسف: آية 21})[60].
هذا النص يثير عدة إثارات، أهمها:
1.  في النص ثلاثة مواضيع، الاول اثبات الابوة في الاسلام من خلال (الولد للفراش) أي الزواج الشرعي، والموضوع الثاني اثبات الابوة في الجاهلية والذي كان إمّا بالفراش (الزواج) او بالقافّة في حالات الزنى الجماعي!! والموضوع الثالث هو أنساب القبائل العربية وكيف ان بعض القبائل العربية منسوبة لأمهاتها. فهذه المواضيع الثلاثة خلطها يوسف زيدان معاً وانتج منه هذا النص غير المنسجم!
2.  قوله بان المهم عند العرب هو ان ينسب الابن الى اب حي او ميت بدليل ان بعض فقهاء المسلمين كان يفتي بأن الارملة اذا ولدت بعد وفاة زوجها باكثر من سنة فان الابن يلحق بالزوج المتوفى! وهي بالحقيقة فتوى لشخص واحد هو الشافعي، استغلها يوسف زيدان عرضياً وطولياً، فأما عرضياً بأن عمَّمَ فتوى فقيه واحد الى قطاع واسع من المسلمين! واما طولياً بأن جعل من فتوى هذا الفقيه الواحد (الشافعي) أثر رجعي الى الجاهلية!!
فلا اهل الجاهلية كانوا يلحقون الابن بأبيه المتوفى منذ عدة سنوات، ولا المسلمون كانوا يفعلون هذا عدا الشافعي، واغلب المسلمين لم يوافقوه على ذلك.
3.  قوله وهو يتحدث عن (وعي العرب بالمسيحية، إذ جعلتهم أو جعلت بعضهم يتقبلون أن تلد العذراء بمعجزة إلهية، إذ المعجزات صِنوٌ للنبوات. لكنهم بطبعهم لم يستسيغوا أن يترتب على ذلك أن يكون المولود هو ابن الله، اللهم إلا على سبيل المجاز، مثلما قد يقال مجازاً عن اليهود إنهم أبناء الله، أو يُقال عن النصارى إنهم أبناء المسيح. أما التطرف بالقول الى الحد الذي نجعل فيه الانسان إلهاً، خاصةً أن هذا الانسان تعذَّب وقتل مصلوباً ومات. فهذا امرٌ لم يكن من المنطقي بالنسبة للعقلية العربية، مهما كانت درجة قبولها للمسيحية).
فلم يرد عند عرب الجاهلية انهم فصلوا بين قبولهم ولادة العذراء مريم (عليها السلام) للمسيح بدون ان تعرف رجلاً، وبين ان يكون المسيح إبناً للإله بزعم المسيحيين (تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً). حيث ان من آمن بهذه آمن بتلك، اللهم عدا اتباع آريوس وهو موضوع آخر لا علاقة له بولادة المسيح (عليه السلام) من غير أب. مع التذكير بحقيقة انتشار المسيحية النسطورية والآرثوذكسية وغيرها بين القبائل العربية قبل الاسلام، كقبائل تغلب وغسان واللخميين (المناذرة)، وبين القبائل العربية في نجران واليمامة وغيرهما، وهي جميعاً تؤمن بولادة المسيح (عليه السلام) من دون أب كما تؤمن به انه ابن الإله وانه مصلوب!! بخلاف ما ذكره الاستاذ يوسف زيدان.
4.  تحدث يوسف زيدان عن العقلية العربية قبل الاسلام فقال عنها بأنها ردَّدت دوماً، ولا تزال تردد الى اليوم، عبارة (الله غالب) المأخوذة بنصها ودلالتها من نص القرآن الكريم، العربي المبين، الذي يقول: ((والله غالب على امره ولكن أكثر الناس لا يعلمون))!! فأين هو النص الجاهلي الذي يتحدث عن انَّ (الله غالب)! هذا من العجائب ما تفوه به يوسف زيدان.
 
الصفات الكريستولوجية بين مسيحيي العراق واليونان ومصر!
يقول يوسف زيدان: (كانت امام الناس في العالم شرقاً وغرباً فسحة لتأوّل النصوص المسيحية المقدسة، وتاويل الصفات (الكريستولوجية) بحسب الثقافة التي ينتمون اليها والعقلية التي تحكم تفكيرهم. خاصة أن القصص الانجيلي يسمح لهذا (الفهم) أو ذاك، فيما يتعلق بحقيقة السيد المسيح الواصلة بين اللاعوت والناسوت. وهكذا فهم المصريون واليونان في جهة الغرب من النصوص الدينية والاناجيل أن المسيح هو ابن الله ثم آمنوا بأنه الرب وبانه الإله. وكان من الطبيعي بالنسبة للمصريين واليونانيين، أن يفهموا طبيعة المسيح على هذا النحو، نظراً لموروثهم الطويل في التأليه، ولعراقة الشعور الديني الذي ظل سائداً في تلك البلاد قروناً من الزمان. بينما كان من الطبيعي أيضاً، ان يفهم العرب والكلدانيون والآشوريون واليهود الذين آمنوا بالمسيح أنه المخلِّص أو هو النبي)[61].
هذا التوزيع للصفات الكرسيتولوجية يجانب الصواب ويجانب حقائق التاريخ والواقع معاً! فالآرثوذكسية والنسطورية انتشرت بين العرب في شبه الجزيرة العربية والعراق وبلاد الشام وهي مذاهب تقول بان المسيح هو ابن الإله وهو الرب وهو الاله وهو الاقنوم الثاني من بين الاقانيم الثلاثة الى جانب وجود وظيفة نبوية له – بحسب عقيدتهم - وهي نفس العقيدة التي حملها المسيحيون المصريون واليونانيون، الى جانب الآريوسية التي دعت الى التوحيد وانتشرت ايضاً في اليونان ومصر وبلاد الهلال الخصيب. والى اليوم نجد ان الكلدانيين في العراق عقيدتهم كاثوليكية والآثوريين في العراق عقيدتهم آرثوذكسية، وهما معاً يؤمنون بالمسيح بنفس الطريقة التي ذكرناها. ولا اعرف ما هي دوافع الاستاذ يوسف زيدان الى احداث هذا التقسيم الوهمي الذي ذكره!!
 
الهرطقات الكريستولوجية
قال يوسف زيدان: (ومن اللافت للنظر ان الهرطقات الكبرى (الكريستولوجية) ظهر معظمها في منطقة الهلال الخصيب، حيث عاشت في الاذهان وعشَّشت لزمن طويل، فكرة النبوة ذات الاصول الشرقية (الفارسية) واليهودية والنبطية)[62].
يعود يوسف زيدان لاستعمال مصطلح (الهرطقة) وهو ما يقابل في الثقافة الاسلامية مصطلح (البدعة)، وفي ذلك إنحياز واضح للمذاهب المسيحية التي تعتمد (27) سفراً في العهد الجديد، وهو المشترك الابرز فيما بينها! في حين ان كل مذهب من هذه المذاهب المسيحية نفسها تنظر الى المذهب الآخر وتسميه بالهرطقة لأنه لا يمثل عندها الايمان القويم. فكان يجب ان ينظر اليها جميعها نظرة محايدة لتكون نتائج بحثه سليمة. 
اما المذاهب المسيحية الكبرى التي اطلق عليها وصف الهرطقات فأبرزها: 
الابيونية: وهم قسمان أولاهما: تعتبر يسوع المسيح مجرد إنسان عادي بلغ الى مرتبة الصلاح بفضل تنامي شخصيته، وُلِدَ من مريم وزوجها مثل أي مولود آخر، ألحّ على التمسك التام بأحكام الشريعة، وهذه الجماعة لم تكن تؤمن بالخلاص بواسطة المسيح وحده او الاقتداء به. والثانية: تؤمن بأن يسوع المسيح وُلِدَ من عذراء والروح القدس، لكنهم لم يؤمنوا بأن له وجوداً سابقاً وهو بالتالي ليس إلهاً وليس هو الكلمة والحكمة. يتمسكون بحرفية الشريعة ويرفضون رسائل بولس ويعتبرونه مرتداً عن الشريعة، والانجيل الذي يعتمدونه هو (إنجيل العبرانيين)، يراعون السبت وبقية الطقوس اليهودية، لكنهم يحتفلون بقيامة المسيح من بين الاموات[63].  
الدوكيتية: غنوصيون ذهبوا الى الطرف النقيض من الأبيونية ونفوا البشرية عن المسيح فيما اكّدوا على طبيعته الإلهية. تعلموا في مدرسة افلاطون وتعودّوا على سمو فكرة اللوغوس (العقل أو الكلمة)، وهذا ما اعدهم لأن يفهموا ان سطوح الايون AEON أو إنبثاق الإلوهية Emanation of The Deity، قد يتخذ شكلاً خارجياً ومظاهر مرئية لكائن فان[64].
المرقيونية: نسبة الى مرقيون أحد أبرز مسيحيي القرن الثاني الميلادي الذين حاولوا التوفيق بين الغنوصية (الخلاص عن طريق المعرفة) والمسيحية، فأسس كنيسة بديلة للكنيسة الرسمية، استمرت مدة طويلة بعد وفاة مؤسسها، خصوصاً في الاطراف الشرقية لمنطلق انتشار المسيحية مثل ارمينيا، وكانت وراء تعجيل الكنيسة في إقرار الاناجيل الارعبة وتثبيت المعتقد المسيحي الرسمي في صيغته النهائية[65].
الآريوسية: يُنسب هذا المذهب الى آريوس الليبي، وكان مسؤولاً عن إحدى كنائس
الإسكندرية هي كنيسة بوكاليس. تتلمذ على لوقيانوس الإنطاكي، الذي كان يرفض ألوهية المسيح، فكان أن استُشهد دون عقيدته التي تناقض تعاليم بولس. شكل آريوس خطراً على العقيدة المسيحية طوال عشرة القرون الأولى من تاريخ المسيحية. يقوم خلاف آريوس مع الكنيسة على أطروحة واحدة هي أنَّ يسوع المسيح كائنٌ فان ليس إلهياً بأي معنى، وليس بأي معنى شيئاً آخر سوى معلم يُوحى إليه[66].
النساطرة: ولد نسطور مؤسس مذهب النساطرة فيما يُعرف اليوم ببلدة مرعش من اعمال تركيا الحالية، ودرس في انطاكية ثم التحق في احد الاديرة الواقعة في جوارها،ولم يلبث انم اشتهر بمواعظه فاختاره الامبراطور أسقفاً على القسطنطينية في سنة 428م وأخذ هناك بمقاومة الآريوسية وغيرها من المذاهب، ثم في اواخر السنة ذاتها اظهر تعليمه الحجديد ومؤداه ان العذراء ليست "أم الله" حقاً وأن المسيح لا يقوم باقنوم واحد بل باقنومين، خلافاً للعقيدة الرسمية التي ترى في المسيح أقنوماً واحداً في طبيعتين لاهوتية وناسوتية. والأقنوم في عرف الكنيسة هو "القائم في ذاته وبذاته"[67].
المونوفيزية: وابرز دعاة هذا المذهب هو أفتيخيس الذي ذهب الى ان المسيح كان قبل التجسد ذا طبيعتين لكنه بعد التجسد تلاشت الطبيعة البشرية أمام الطبيعة الإلهية ولم يبق غير هذه الاخيرة. ومنهم أيضاً سفيروس الأنطاكي الذي اعتلى سدة بطريركية انطاكية سنة 512 الى 518م[68].
اليعاقبة: نسبة الى يعقوب البراذعي الذي ذهب الى القول بأن للمسيح طبيعة واحدة وهي إلتقاء اللاهوت والناسوت في المسيح وتكون من الاتحاد طبيعة واحدة جامعة بين اللاهوت والناسوت. ونسبة هذه الفرقة الى يعقوب البراذعي لأنه أنشط الدعاة الى هذا المذهب لا لأنه مبتدعه ومنشؤه فإن هذا المذهب أسبق من يعقوب وأول من أعلنه بطريرك الاسكندرية في منتصف القرن الخامس الميلادي، اما يعقوب فقد وُجِدَ في القرن السابع الميلادي. وكان ان انعقد مجمع في أفسس سنة 431م وقرروا فيه القول بالطبيعة الواحدة، ثم رفض ذلك القرار في مجمع خلقيدونية سنة 451م وتسبب ذلك في تمسك الكنيسة المصرية برأي بطريركها والانفصال عن الكنيسة الرومانية، وهو مذهب الأقباط في مصر[69]الى اليوم[70].
الملكانيون: الملكانية مذهب من وافق القيصر في مجمع خلقيدونية الرابع حيث قالوا ان الكلمة اتحدت بجسد المسيح وتذرعت بناسوته، فهو عندهم له طبيعتان لاهوتية وناسوتية وأن الإله عبارة عن ثلاثة أقانيم الأب والأبن وروح القدس، وهم غالبية المسيحيين، وابرزهم: الكاثوليك والآرثوذكس والمارونية والبروتستانت[71].

 
________________________________________
الهوامش:

[1] المصدر السابق – ص53.
[2] اللاهوت العربي / يوسف زيدان – ص(81- 84).
[3] المصدر السابق – ص84.
[4] اللاهوت العربي / يوسف زيدان – ص85.
[5] أحيقار، حكيم من الشرق الادنى القديم / أنيس فريحة - ص18 و19.
[6] أحيقار، حكيم من الشرق الادنى القديم / أنيس فريحة – ص22.
[7] المصدر السابق – ص20 و21.
[8] المصدر السابق – ص24.
[9] المصدر السابق – ص27.
[10] المصدر السابق – ص28.
[11] المصدر السابق – ص65.
[12] المصدر السابق – ص66.
[13]المصدر السابق – ص114.
[14] المصدر السابق – ص116.
[15] المصدر السابق – ص152.
[16] أحيقار، حكيم من الشرق الادنى القديم / أنيس فريحة – ص165.
[17] المصدر السابق – ص185.
[18] المصدر السابق – ص66.
[19] المصدر السابق – ص29.
[20] المصدر السابق – ص22.
[21] البداية والنهاية / ابن كثير الدمشقي / تحقيق وتدقيق علي شير – ج2 ص146.
[22] عمدة القاريء / العيني – ج16 ص18.
[23] المعارف / ابن قتيبة – ص55.
[24] فتح القدير / الشوكاني – ج4 ص237.
[25] تاريخ الرسل والملوك / ابن جرير الطبري / تحقيق محمد ابو الفضل ابراهيم/ دار المعارف بمصر - ج2 ص351.
[26] سورة لقمان، الآية (20).
[27] اللاهوت العربي / يوسف زيدان – ص90.
[28] المعارف / ابن قتيبة – ص405.
[29] الروض الانف / عبد الرحمن السهيلي (توفي 581هـ) – ج7 ص443 و444.
[30] معجم قبائل العرب / الدكتور عمر كحالة – ج1 ص313.
[31] تاريخ الرسل والملوك / ابن جرير الطبري / مؤسسة الاعلمي للمطبوعات في بيروت - ج2 ص498.
[32] تاريخ الاسلام / الذهبي – ج3 ص73.
[33] سبل الهدى والرشاد / الصالحي الشامي (متوفى 942هـ) – ج2 ص342.
[34] فتح القدير / الشوكاني / مطبعة عالم الكتب – ج3 ص266.
[35] تفسير التحرير والتنوير / الشيخ محمد الطاهر بن عاشور - ج1 ص172.
[36] بل بما ورثوه من بقايا الحنيفية دين ابراهيم الخليل (عليه السلام).
[37] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / الدكتور جواد علي – ج6 ص(37-41).
[38] المصدر السابق – ج2 ص876.
[39] مقال بعنوان (القدس لم تكن عاصمة إسرائيل القديمة (1-4)) بقلم فاضل الربيعي ، منشور بتاريخ 14/3/2018 في موقع الجزيرة الالكتروني.
[40] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي – ج6 ص84.
[41] في هامش نفس المصدر: (النيرنجات: علم الحيل، وهو فرع من فروع علم السحر، وهو علم يعرف به طريق الاحتيال في جلب المنافع. انظر: كشف الظنون 1/694، وانظر اللسان والتاج (نرج) ).
[42] الحيوان / عمرو بن بحر الجاحظ (متوفى 255هـ) – ج4 ص440.
[43] ارشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني، وبهامشه شرح النووي لصحيح مسلم - ج6 ص434.
[44] التنبيه والإشراف / المسعودي (متوفى 345هـ) - ص239.
[45] الكامل في التاريخ / ابن الأثير - ج2 ص298.
[46] المصدر السابق - ج2 ص300.
[47] ديوان المبتدأ والخبر في تاريخ العرب والبربر ومن عاصرهم من ذوي الشان الاكبر المعروف بـ تاريخ ابن خلدون / عبد الرحمن ابن خلدون (متوفى 808هـ - ج 2 ق2 - ص 58
[48] إمتاع الأسماع / المقريزي (متوفى 845هـ) - ج2 ص101.
[49] شرح نهج البلاغة / ابن أبي الحديد - ج 10 ص 221.
[50] أعيان الشيعة / السيد محسن الأمين (متوفى 1371هـ) / تحقيق حسن الامين - ج 10 ص 294.
[51] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي – ج6 ص87.
[52] أحكام القرآن / الجصاص (متوفى 370هـ) - ج 2 ص 498.
[53] تفسير النسفي / أبو البركات عبد الله بن احمد بن محمود النسفي (متوفى 537هـ) - ج1 ص276.
[54] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي – ج6 ص(84-88).
[55] مغني المريد الجامع لشروح كتاب التوحيد لشيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب - ص 2596.
[56] جامع البيان / إبن جرير الطبري / ضبط وتوثيق وتخريج صدقي جميل العطار / دار الفكر للطباعة - ج26 ص121.
[57] الدر المنثور / جلال الدين السيوطي - ج6 ص78.
[58] المفصل في تاريخ العرب قبل الاسلام / د. جواد علي – ج6 ص97.
[59] ارشاد الساري شرح صحيح البخاري للقسطلاني، وبهامشه شرح النووي لصحيح مسلم - ج9 هامش ص134.
[60] اللاهوت العربي / يوسف زيدان – ص92 و93.
[61] اللاهوت العربي / يوسف زيدان – ص 93 و94.
[62] المصدر السابق – ص103.
[63] الفرق والذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الاسلام / نهاد خياطة – ص77.
[64] المصدر السابق – ص78.
[65] المصدر السابق – ص79.
[66] المصدر السابق – ص81.
[67] المصدر السابق – ص90.
[68] الفرق والذاهب المسيحية منذ البدايات حتى ظهور الاسلام / نهاد خياطة – ص102.
[69] تحريف رسالة المسيح عبر التاريخ / بسمه أحمد جستنيَّه / دار القلم في دمشق / الطبعة الاولى، 2000م - ص310.
[70] "وفي الصراع بين المذهبين، النسطوري واليعقوبي، (تبنت الحيرة المذهب الشرقي أسوة بكنيسة فارس كلها، إلا أن المنوفيزيين (اليعاقبة) حاولوا الانتشار فيها، وقد قام سمعان الأرشمي بجهود كبيرة في هذا الشأن، واكتسب عدداً من الموالين للمنوفيزية، حتى صار لهم أسقف هناك باستمرار بين سنة 551م و650م، إلا أن المنوفيزيين ظلوا في الحيرة الأقلية إزاء الأغلبية النسطورية الساحقة). ومع أن العلاقة بين مملكتي المناذرة النسطورية في العراق والغساسنة اليعقوبية في الشام كانت ظلاً لما يدور بين الإمبراطوريتين، الرومية والساسانية، إلا أن لاختلاف المذهب بين المملكتين دوره المؤثر أيضاً." . أنظر: ويكيبيديا الموسوعة الحرة، تحت عنوان: (يوحنا الديلمي).
[71] تحريف رسالة المسيح عبر التاريخ / بسمه أحمد جستنيَّه – ص311 و312.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


نبيل محمد حسن الكرخي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/10/04



كتابة تعليق لموضوع : نقد كتاب اللاهوت العربي ليوسف زيدان – (8/5)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net