صفحة الكاتب : الشيخ ليث الكربلائي

مُقارَبَة في فكرة الجبر الاجتماعي
الشيخ ليث الكربلائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

أرسل أحد الاخوة يسأل: هناك اشكالية تثار كثيرا وهي تبرير بعض الافعال والتصرفات الخاطئة بتأثير البيئة والتنشئة وردات الفعل النفسية بسبب الظروف التي يعيشها الفرد او المجتمع هل يمكنكم ان تكتبوا عنها ...

الجواب

ذكرتُ سابقا أنَّ اختيار الانسان في أفعاله مسألة بديهية وجدانية يمكن للانسان ادراكها بأي تأمل بسيط في نفسه وكل ما يخالف ذلك فهو شبهة في مقابل بديهة، وبالنسبة لأطروحة الجبر الاجتماعي فالكلام فيها اجمالا في نقطتين:

أوّلا: لمحة عن الفكرة:

تبلورت فكرة الجبر الاجتماعي على يد عالم الاجتماع الفرنسي إميل دوركايم في أواخر القرن التاسع عشر اوائل العشرين وترتكز على شيئية العقل الجمعي وموضوعيته بمعنى منحه كينونة ووجودا حقيقياً، من دون انكار انه ناتج عن مجموع افراد المجتمع غاية ما في الأمر ان التركيب الذي ينتج عنه العقل الجمعي تركيبا اتحاديا يُنتج كيانا جديدا يختلف في خصوصياته عن الكيانات المؤلفة له، وبيان ذلك:

ان التركيب يكون على نحوين (لم أعثر على هذا التقسيم في كتب دوركايم التي في متناول يدي لكني استعيره لتوضيح الفكرة) : فتارة يكون تركيبا انضماميا كما يفعل البنَّاء فهو يجمع مواد البِناء ويركِّب بعضها فوق بعض من دون ان ينصهر بعضها في بعض بل يحافظ كل منها على وجوده المستقل وتارة أخرى يكون التركيب اتحاديا كما في مثال الأوكسجين والهيدروجين حيث ان المركب منهما يؤدي الى زوال وجودهما الاستقالالي وانصهارهما في وجودٍ ثالث هو الماء.

إذا اتضح ذلك فإن دوركايم يؤكد على ان الأفراد يذوبون في المجتمع ويتلونون بلونه بمعنى آخر يمكنك القول أن تركُّب المجتمع من الأفراد تركيبا اتحاديا ينتج وجودا ثالثا بعد ذوبان الطرفين وانصهارهما بل يذهب أكثر من ذلك فلا يرى أي تأثير للأفراد في المجتمع لا في كينونته ولا في طابعه العام وانما المجتمع هو الذي يُشكل الأفراد على مقاساته! .

وهذا بالضرورة ينتج أن الفرد مسلوب الاختيار في أفعاله لصالح المجتمع ببيان : ان أي فعل للانسان لابد له من اربع مقدمات: تصور الشيء والتصديق بمنفعته او مضرته والارادة ثم الايعاز فإذا كان الفرد ذائبا في المجتمع فلابد ان يكون تصوره للاشياء متلونا بلون تصورات المجتمع وكذلك تصديقه بالمنفعة والمضرة وكذلك ارادته بلون تصديق وارادة المجتمع. ويعزز هذا أمرين:

الأول: ان العقل الجمعي هذا يملك سطوة كافية لتذويب الانا الفردية وصهرها في منظومته الجبارة .

الثاني: يمكن بسهولة رصد الأشخاص داخل اي بيئة اجتماعية يتصرفون من دون اخضاع تصرفاتهم للمنطق والعقل وانما معيارهم في مقبولية فعل من عدمها هو موقف العقل الجمعي منه . حتى يبلغ أمر مطاوعة الفرد للمجتمع حد الانتحار فالتضحية من أجل المجتمع يراها دوركايم انتحارا غاية ما في الأمر ان الغاية منه الايثار .

أما قبل دوركايم وبعده فالأمور تختلف كثيرا ففي البدء كانت أدوات علم النفس هي المهيمنة على علم الاجتماع وبما أن موضوع علم النفس هو الانا الفردية ظل علم الاجتماع في حالة من الذبول حتى تمكن (أوغست كنت) من انتشاله بتصوير مجتمع يصنعه الأفراد نفسهم بنحو التركيب والمساهمة ومن ثم ارتقى دوركايم بنظرية اوغست وصولا الى الجبر الاجتماعي وأما بعد دوركايم فعادت نظريته للذبول وبرزت مقولات من قبيل حقوق الفرد وحرية الفرد... من جديد بعد ان استبدلها دوركايم او كاد بنظائرها الاجتماعية.. ومع ذلك ظل من يقتبس من الغرب في مجتمعاتنا عالقا في مشكلة الجبر الاجتماعي المطلق حتى بعد ان تجاوزها الغرب بمسافات لابأس بها !!.

ثانيا: المناقشة في النظرية:

1- إن العقل الجمعي الذي يتكلم عنه دوركايم كائن هلامي لا يمكن رصده ولا اخضاعه للاختبار فما هو السبيل الى التصديق بوجوده وبكيفية جبارة تذوب فيها ارادة الأفراد ولا تقوم لها قائمة؟!، وبعبارة أخرى ما الباعث الذي يجعلنا نؤمن بمثل هذا الوجود الميتافيزيقي الذي لاضرورة له اطلاقا؟، ليس أمام دوركايم وانصاره الا التمسك باثباته من خلال آثاره فنحن نلاحظ ان المجتمع من حيث هو هو يتمتع بخصال تختلف عن خصال وميزات الأفراد من حيث هم أفراد، ولكن هذه الظاهرة لا تصلح للاستدلال هنا لأنها قابلة للتفسير من دون الحاجة الى افتراض هذا الوجود الهلامي فإنما تتغير الصفات بفعل التفاعل بين الأفراد نفسهم لا بسبب كائن ثالث .

2- إن تصرفات الفرد اللاعقلانية التي تبدر منه عند انخراطه في بيئة اجتماعية معينة لا تدل من قريب ولا من بعيد على الجبر الاجتماعي بل هي كما يقول غوستاف لوبون (معاصر دوركايم ومواطنه) تصرفات طوعية اختيارية تنشأ عن اطلاق الفرد العنان لغرائزه بالتدمير وارتكاب المجازر وانما يُطلق لها العنان طوعا وليس جبرا، وإذا سألت عن سبب اطلاقها في خصوص ظرف انخراطه في البيئة الاجتماعية؟ يجيبك غوستاف بان الفرد المعزول يتجنب اطلاق العنان لغرائزه لخشيته من محاسبة المجتمع ومنظماته أما إذا وجد المجتمع الى جانبه ومؤيدا له عندها يشعر بالحصانة والقوة الكافية لحمايته، فيُطلِقُ غرائزه باختياره(1). وهذا التفسير اقرب للواقع والوجدان من ارجاع هذا السلوك الى كائن هلامي غير واضح المعالم يملك سلطة قهرية لا حدود لها!.

3- إن دوركايم ولأجل اثبات الجبر الاجتماعي ألغى دور الأفراد في التأثير بالمجتمع لكنه يبدو من كتاباته المتأخرة تراجع عن ذلك قليلا فرأى ان تأثير الأفراد إن وُجِد فهو ضئيل جدا لا يُعتنى به، وهو بهذا يُلغي النبوغ والعبقرية الفردية ودورها في التاثير في المجتمعات وقيادتها وصناعة مجدها، مع أن هذه الظاهرة ثابتة لا سبيل للتخلي عنها إذ نعلم بنحو الجزم والقطع ان هناك عددا كبيرا من المصلحين والقادة ولا سيما الانبياء ولا سيما نبينا الأكرم ص قد واجهوا مجتمعاتهم بمفردهم وتمكنوا من زعزعة ثقافة ونظام عصورهم واحلال ثقافة جديدة محلها وتكرار هذه الظاهرة في التاريخ وفي واقعنا المعاصر كثير جدا وتأثيرهم على المجتمعات جذري وشامل وليس تأثيرا بسيطا لا يُعتنى به . فهذه الظاهرة تمثل نقضا عمليا لفكرة الجبر الاجتماعي.

4- إلغاء دوركايم للحيثية الفردية في ظل اندكاك الفرد في بيئته الاجتماعية أمر متعذر وغير واضح من جهة أن هؤلاء الأفراد هم من يمارس الفعل الاجتماعي وانما يمارسونه أفرادا لا جمعاً وبالتالي الغاء حيثية الفردية فيهم يقود الى الغاء الفعل الاجتماعي أيضا لأنه متقوّم بهم كأفراد، فهذا الفصل بين الفاعل والفعل الاجتماعي أمر في غاية التعذر .

5- إن الوجدان يشير الى اكتناز الفرد من الانسان في داخله على قوى تم تجهيزه بها لمواجهة ومقاومة المؤثرات الخارجية التي تحاول حرفه عن المسار المناسب له ومن هذه القوى: الفطرة ، والعقل ، وبعض الغرائز، ولا أظنني أجانب الصواب إذا ما قلت أننا جميعا قد مررنا بتجارب شخصية من هذا القبيل حيث عندما يتعرض الانسان لضغط اجتماعي بسبب العادات والتقاليد او المنظمات الاجتماعية يتنافى مع إحدى هذه القوى ولا سيما العقل والفطرة تقوم قائمة هذه القوى ولن يهدأ لها بال ما دامت تشعر بوجود المزاحم الخارجي لها، وبالتالي يمكن القول ان المعادلة فيها طرفان ولا يتفرد المجتمع بالانسان حتى يمكنه ان يمارس بحقه هذا القدر من الجبر والتسيير .

6- إن وجود نماذج كثيرة هجرت باختيارها تقاليد بيئتها الاجتماعية واعتنقت ثقافة بيئة أخرى اجنبية عنها كالخروج من دين او مذهب واعتناق آخر هو دليل عملي آخر يضاف الى دليل العبقرية الفردية والمصلحين آنف الذكر يتنافى كليا مع فكرة الجبر الاجتماعي .

7- بالنسبة لرؤية الاسلام لفكرة الفرد والمجتمع انصح للاطلاع عليها بمراجعة كتاب (المجتمع والتاريخ) للشهيد مطهري وهو وإن لم يتوقف بشكل جدي عند فكرة الجبر الاجتماعي لانها ليست صلب موضوعه لكنه أجاد وأبدع في بيانه لموضوع الرؤية الدينية للمجتمع

______

الهوامش:

(1) وإن كان غوستاف لوبون قد اثبت في كتابه القيم والرائج هذه الأيام (سيكولوجية الجماهير) أن الفرد ينصاع لغرائزه انصياعا اختياريا في ظل حماية الجماهير له لكنه حاول في عدة مواضع من الكتاب تمرير فكرة الجبر الاجتماعي ولكن في حدود ضيقة وبشكل مخفف قياسا باطروحة دوركايم إذ قصر غوستاف الجبر على خصوص استجابة المجتمع للتحريض وادارته من قبل القائد لكن الذي يهون الخطب ويقلل من شأن نظريته ان دليله الوحيد على امكانها هو ما تم رصده في المختبرات من التنويم المغناطيسي فبنى فكرته عليها وهي فكرة وإن كانت رائجة في عصره لكنها تهالكت فيما بعد ولم تعد ذا شأن لذا تجنبت التعرض لهذا اللون من الجبر .

(2) كان الأخ السائل قد ذكر في سؤاله المؤثرات النفسية الى جانب المؤثرات الاجتماعية لكن الكلام قد طال بما لا مندوحة معه من تأجيل البحث في المؤثرات النفسية الى وقت آخر إذا شاء الله تعالى .

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ ليث الكربلائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/08/21



كتابة تعليق لموضوع : مُقارَبَة في فكرة الجبر الاجتماعي
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net