صفحة الكاتب : د . مظفر الشريفي

الإسلام والرِّق
د . مظفر الشريفي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

بين الفينة والأخرى يعترض البعض على الإسلام في مسألة الرق رغم الاستعباد والتمييز التي تمارسه بعض الدول "المتقدمة ديمقراطياً واقتصادياً" بحق بعض سكانها وبحق باقي الشعوب. وفيما يلي نعرض لمسألة الرق في الإسلام في نقاط:

أولاً: إن الاسترقاق كان سائداً في مختلف أنحاء الأرض قبل الإسلام سواء في البلدان المتحضرة أو غيرها. وبالنظر للعقلية التي كانت سائدة في المجتمعات البشرية آنذاك فهو أمر متعارف ويرون أنه مما تمليه سنن البشر. وكان متجذراً أيضاً في البيئة العربية التي انبثق فيها الإسلام، وكان جزءاً من النظامين الاقتصادي والاجتماعي، ولم يكن للإسلام دخل في إيجاد مشكلة الرق الموجودة أصلاً قبل مجيئه. ولذلك لا يمكن اقتلاعه فجأة ولا يصح اتخاذ قرار فجائي بالاقتلاع. وعندنا شاهد مهم على خطورة التحرير الفوري للعبيد، وهو أن قضية تحرير العبيد كانت إحدى أهم أسباب الحرب الأهلية الأمريكية الطاحنة في القرن التاسع عشر، والتي بلغت خسائرها حوالي مليون شخص (حوالي 3% من الشعب الأمريكي آنذاك)(1). وحينما حرّم الإسلام بعض منابع الرق وحث بشكل واضح على المعاملة الإنسانية للرقيق وتحريرهم من العبودية إنما جاء بأمر عظيم غير مألوف وفق موازين ذلك الزمان، ولم تتوصل له باقي الأمم المتحضرة لأكثر من ألف ومائتي سنة بعد الإسلام.

وحيث أن الاسترقاق لا يُقتلع بسهولة وفق ما قدمناه، وإنما بالتدريج، فقد تم هذا بمرحلتين: الأولى هي التحريم الفوري لمنابع عديدة للرق. والمرحلة الثانية هي التدرج في تحرير العبيد للمنبع المتبقي أي المنبع الناتج عن الاسترقاق بسبب الحرب. فالمنابع التي ذُكر أنها كانت موجودة وحُرمت فوراً هي:

  1. الاختطاف: يتم اختطاف شخص ما ثم بيعه في سوق الرق.
  2. الديون: من كان عليه دين ولم يستطع تسديده قد يصبح عبداً عند صاحب المال.
  3. المقامرة، كان الإنسان ربما يقامر على عبودية زوجته أو ولده أو نفسه، وإذا خسر صار عبداً عند الفائز في المقامرة.
  4. بيع الاولاد: كان من حق الأب عند بعض أهل الجاهلية أن يبيع أولاده، فمن لم يجد لقمة العيش باع ابناً له وسد جوعه.
  5. العقاب على بعض الجرائم: فمن ارتكب جريمة قد يصبح عبداً عند من ارتكبت الجريمة بحقه.

ثانياً: بالنظر إلى العقلية والوضع الذي كان قائماً بين الأمم قبل الإسلام والذي لا يعتبر العبيد كسائر البشر كما قال افلاطون فيما نقل عنه: (إن العبيد ليسوا مواطنين ولا يجب منح المواطنة لأيّ عبد):

  • اتخذ الإسلام أولى الخطوات ببيان مساواة الجميع أمام الله تعالى، فقد قال سبحانه {يا أَيُّها النّاسُ إِنّا خَلَقناكُم مِن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلناكُم شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم}.

(فالإسلام لم يفرق أبداً بين العبيد والأحرار من ناحية الشخصية الإنسانية، وجعل التقوى معياراً للتمييز بينهم، ولذلك أجاز للعبيد أن يتقلّدوا مسؤوليات مهمّة، ويتسنّموا مناصب اجتماعية مهمّة. وقد أُنيطت بالعبيد في زمن النّبي صلى الله عليه وآله وسلم مراكز هامة وحسّاسة، ابتداءً من قيادة الجيش، وحتى المناصب الحسّاسة الأُخرى. وقد كان الكثير من كبار صحابة النّبي صلى الله عليه وآله وسلم عبيداً، أو رقيقاً أُعتقوا، وكان الكثير منهم يؤدّون واجبهم كمستشارين ومعاونين لعظماء الإسلام وقادته، ويمكن ذكر أسماء سلمان وبلال وعمار بن ياسر وقنبر من ضمن هذه القافلة)(2).

  • وأوصى القرآن خيراً بالأرقّاء فقال: {وَاعبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشرِكُوا بِهِ شَيئاً وَبِالوالِدَينِ إِحساناً وَبِذِي القُربَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينِ وَالجارِ ذِي القُربَى وَالجارِ الجُنُبِ وَالصّاحِبِ بِالجَنبِ وَابنِ السَّبِيلِ وَما مَلَكَت أَيمانُكُم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَن كانَ مُختالاً فَخُوراً}.
  • كما حث الإسلام على تحرير العبيد والإماء بصورة مباشرة وواضحة كما في قوله تعالى: {وَآتَى المالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي القُربَى وَاليَتامَى وَالمَساكِينَ وَابنَ السَّبِيلِ وَالسّائِلِينَ وَفِي الرِّقابِ}، وفي قوله سبحانه في سورة البلد المكية (أي في الفترة الأولى من الدعوة الإسلامية): { فَلا اقتَحَمَ العَقَبَةَ، وَما أَدراكَ ما العَقَبَةُ، فَكُّ رَقَبَةٍ، أَو إِطعامٌ فِي يَومٍ ذِي مَسغَبَةٍ، يَتِيمًا ذا مَقرَبَةٍ، أَو مِسكِينًا ذا مَترَبَةٍ، ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَواصَوا بِالصَّبرِ وَتَواصَوا بِالمَرحَمَةِ، أُولئِكَ أَصحابُ المَيمَنَةِ}، وعن رسول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلّم: (من أعتق مسلماً أعتق اللَّه العزيز الجبار بكل عضو منه عضواً من النار).

وأكد الإسلام على تحرير الرقيق في العديد من الموارد مثل:

  • صرف الزكاة كما قال تعالى: {إِنَّما الصَّدَقاتُ لِلفُقَراءِ وَالمَساكِينِ وَالعامِلِينَ عَلَيها وَالمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُم وَفِي الرِّقابِ}، حيث إنّ أحد الموارد الثمانية لصرف الزكاة في الإسلام شراء العبيد وعتقهم، وبهذا فقد خصصت ميزانية دائمية في بيت المال لتنفيذ هذا الأمر، وهي مستمرة حتى إعتاق العبيد جميعاً.
  • وما يُعرف بالتدبير، (وهو أن يقول المولى لعبده: أنت حر بعد وفاتي، ونحو ذلك مما دل صريحاً على ذلك من العبارات ويعتبر صدوره من الكامل القاصد المختار فيعتق من الثلث بعد الوفاة كالوصية)(3).
  • و "المكاتبة" التي هي إحدى السبل كي يتخلص بها العبيد من عبوديتهم، قال تعالى: {وَالَّذِينَ يَبتَغُونَ الكِتابَ مِمّا مَلَكَت أَيمانُكُم فَكاتِبُوهُم إِن عَلِمتُم فِيهِم خَيراً وَآتُوهُم مِن مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُم}، حيث يستطيع العبيد من خلالها أن يعقدوا اتفاقيات مع مالكيهم، على أن يؤدّوا إليهم مبلغاً من المال يتفق عليه مقابل الحصول على حريتهم (4).
  • وبعض الكفارات الواجبة على الفرد المسلم ككفارات القتل والظِهار والإفطار في شهر رمضان ومخالفة العهد والإيلاء وحنث النذر واليمين وغيرها.
  • بل ورد في بعض الروايات كما في كتاب الكافي عن الإمام الصادق سلام الله عليه: (من كان مؤمناً فقد عتق بعد سبع سنين أعتقه صاحبه أم لم يعتقه ولا تحل خدمة من كان مؤمناً بعد سبع سنين).
  • وتجلت نظرة الإسلام الإنسانية للرقيق في تعامل وأقوال النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وباقي أهل البيت سلام الله عليهم مع مَن كان تحت يدهم، فزيد بن حارثة كان عبداً مملوكاً للنبي صلى الله عليه وآله فحرره ثم زوجه من زينب ابنة عمته صلى الله عليه وآله. وقد ورد عنه صلى الله عليه وآله قوله: (فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ويلبسه مما يلبس ولا تكلفوهم ما يغلبهم فإن كلفتموهم ما يغلبهم فأعينوهم)، وعن أمير المؤمنين علي سلام الله عليه قوله لغلامه قنبر: (وأنا أستحيي من ربي أن أتفضل عليك، سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول: ألبسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تأكلون). وقد عُرف من سيرة الإمام علي سلام الله عليه أنه أعتق ألف مملوك من كدِّ يده كما ورد في الرواية عن الإمام الصادق سلام الله عليه. ولذا فإن من أوائل المجاميع التي آمنت برسول الله صلى الله عليه وآله هم العبيد لأنهم كانوا ينشدون الحرية في الدين الجديد ويرون شخصيتهم الحقيقية في ظل هذا الدين بعد أن طمسها أسيادهم. وقد ورد أنّ الأمام علياً سلام الله عليه أعتق عبداً نصرانياً فأسلم حين أعتقه.

ولبيان كمال التعامل الأخلاقي والإنساني للإسلام مع الرقيق وضمان عدم التعدي عليهم وتيسير تحريرهم لاحظ الرواية التالية عن الإمام الباقر سلام الله عليه: (قضى أمير المؤمنين عليه السلام فيمَن نكل بمملوكه: انه حرٌ لا سبيل له عليه)(5)، وعن الإمام الصادق سلام الله عليه: (قال رسول الله صلى الله عليه وآله: إذا عمى المملوك فلا رق عليه، والعبد إذا جذم فلا رق عليه).

وإزاء هكذا تعامل أخوي بين المالكين والمملوكين قلّت الفوارق الطبقية وأصبح المجتمع المسلم لا ينظر تلك النظرة الدونية للأرقّاء ولا يحس الرقيق بأنهم ليسوا من مستوى البشر، بل هم بشر اعتياديون يجمعهم مع الأحرار رباط الإسلام والعبودية لله جل وعلا وأنهم سيتحررون يوماً ما ويكونون كالآخرين تماماً ما دام الإسلام يوفر الفرص الكثيرة لتحريرهم.

ومن الجدير بالذكر أنه لا توجد ولو آية واحدة في القرآن الكريم تدعو إلى الرق وإلى استعباد الناس.

ثالثاً: يُفهم من هذا أن الإسلام قد انتهج طريقاً ناعماً وعقلانياً وواعياً لتخليص الرقيق من رق العبودية وإخلاء المجتمع من الرق، فلا يُطلق سراح الرقيق كيفما كان لئلا يصبحوا عبئاً على المجتمع في ما بعد لأنهم كانوا محرومين من أمور عديدة. ولهذا فإن التدرج في تحريرهم يعني رفع مستواهم المعرفي والأخلاقي وتهيئتهم لكي يكونوا معتمدين على أنفسهم قبل إرسالهم للاختلاط في المجتمع. ومما يؤيد هذا ما ورد عن هشام بن سالم عن الإمام الصادق سلام الله عليه قال: سألته عمن أعتق النسمة؟ فقال: (أعتِق من أغنى نفسَه).

ويضاف لهذا أن المجتمعات آنذاك كانت عشائرية وقبائلية تحمي أفرادها وتمثل ضمانة لهم من مختلف النواحي، بينما كان الأرقاء بلا عشيرة لأنهم من مجتمعات بعيدة أو دول أخرى تعرضت للخسارة في الحرب فصاروا أسرى فاستُرقّوا أو تعرّض هؤلاء الناس لهجوم عليهم أدّى إلى استرقاقهم. وربما كانوا ذوي مهن تناسبهم في مجتمعاتهم ولا يستطيعون ممارسة هذه المهنة حتى لو أطلق سراحهم لافتقارهم إلى لوازمها كالأرض لمن كان مزارعاً أو المال لمن كان تاجراً أو آلات العمل لأصحاب الصنائع، وهكذا. وكذلك فإنهم لو أطلق سراحهم بلا تدرّج سوف لا يجدون داراً يأوون إليها لعدم امتلاكهم مال الدار ولو بالإيجار. ولو كنّ نساءً فإن الأمر أصعب بكثير عليهن فيما لو أطلق سراحهن دفعة واحدة.

إنّ هؤلاء لو تحرّروا دفعة واحدة فستظهر على الساحة فجأةً جماعة كبيرة عاطلة عن العمل سواء من الأرقاء أو من المتاجرين بالرقيق، وعندها ستكون حياة الرقيق مهددة، وربّما أدّى إلى إرباك نظام المجتمع، لأن الناس إذا جاعت وحُرمت من رزقها ومن سكنها بصورة مفاجئة فسوف لا يُتوقع إلا أن تهجم على ممتلكات الآخرين فتنشب الصراعات والاضطرابات ونزف الدماء.

فلهذا كله أصبح التدرج في تحرير الرقيق ضرورة لا بدّ منها كي يتأقلم العبد مع المجتمع ويفهم طبائعه وعاداته كي يعيش معه أو يرجع إلى قومه بعد حين إن استطاع، وكي يتأهل بتعلّم حرفة أو مهنة يستطيع بها كسب رزقه معتمداً على نفسه، وكي يتمكن من تكوين علاقات في المجتمع أو أن ينضم لعشيرة ما ويكون تحت كنفها لتوفير الحماية له. أما النساء فإن تحريرهن واطلاقهن في المجتمع فيه خطر كبير عليهن خوف استغلالهن بأبشع صور الاستغلال، أما التدرّج في اطلاق سراحهن فهو يوفر الوقت اللازم لهن كي ينضجن أكثر في هذا المجتمع الجديد ويتعلمن بعض الحرف التي تناسب النساء، وستكون أيضاً فرص زواجهن أكبر حينئذ ليكنّ تحت رعاية زوج يتكفل بحمايتهن ورعايتهن كي لا يتعرضن لأنواع الاستغلال أو أن تلد الأَمَة من مالكها فتصير أم ولد وتعيش في كنف ابنها، ولم يكن في هذا الأمر غضاضة حيث أن العديد من أئمة أهل البيت سلام الله عليهم كانت أمهاتهم أمهات أولاد. كما إن بعض الأرقاء كانوا أطفالاً، فكيف سيواجهون الحياة إن أطلق سراحهم؟

ومن المعروف أن سوق بيع وشراء العبيد كان رائجاً قبل الإسلام وكان الكثير من الناس يعمل بهذه المهنة وتدرّ أموالاً عليهم، وبعضهم من المتنفذين في المجتمعات. وإن جاء الإسلام بحكم فوري لتحرير العبيد فسيواجَه بقوة وشراسة بحجة قطع أرزاق هؤلاء المتاجرين. وحتى لو صدر الحكم بعد تمكن الإسلام في المدينة المنورة فالإشكال نفسه باقٍ لتسببه ببطالة عدد غير قليل من الناس، وهذا قد يسبب اضطراباً واقتتالاً في المجتمع.

وقد يقول البعض بإمكانية تحرير العبيد وإرسالهم إلى أوطانهم الأصلية. وهذا غير ممكن بالنسبة لظروف ذلك الزمان لأن بعض المشاكل لن تُحل بهذا كمشكلة بطالة المتاجرين بالرقيق ولأن أوطان أغلب الرقيق بعيدة، والسفر في ذلك الزمان فيه مشقة وخطورة خاصة في ظروف الجزيرة العربية الصحراوية، كما إنه مكلف مالياً ولا يوجد من يتحمل هذه التكلفة المالية في بدء الإسلام. ثم إن أقوامهم كانت في العموم غير مسلمة. والإسلام ومعرفة الله تعالى والتخلق بأخلاق الإسلام أفضل لهم من العود للإشراك بالله تعالى. وبعضهم كانت أقوامهم ما تزال على العداء مع الدين الإسلامي والدولة الإسلامية، فلا يمكن والحال هذه أن يُعادوا لأوطانهم.

رابعاً: إن المورد المعروف للاسترقاق المشروع في الإسلام هو الأسر و (الأسير أمانة إلهية بيد المسلمين رغم كلّ الجرائم التي ارتكبها، ويجب أن تراعى فيه حقوق كثيرة.

إنّ القرآن يمجد أولئك الذين آثروا الأسير على أنفسهم، وقدّموا له طعامهم، فيقول: {ويطعمون الطعام على حبّه مسكيناً ويتيماً وأسيراً} وهذه الآية ـ طبقاً لرواية معروفة ـ نزلت في علي وفاطمة والحسن والحسين عليهم السلام، إذ كانوا صائمين وأعطوا إفطارهم لمسكين مرّة وليتيم أخرى، لأسير ثالثة)(6).

وقد (ورد في التأريخ في أحوال أئمة أهل البيت عليهم السلام أنّهم كانوا يطعمون الأسرى من نفس الطعام الذي كانوا يتناولونه. إلاّ أنّ حكم الأسير(7) بعد انتهاء الحرب أحد ثلاثة: إمّا إطلاق سراحه من دون قيد أو شرط، أو إطلاق سراحه مقابل دفع غرامة مالية هي الفدية، أو استرقاقه، واختيار أحد هذه الأُمور الثلاثة منوط بنظر إمام المسلمين، فهو الذي يختار ما يراه الأصلح بعد الأخذ بنظر الإعتبار ظروف الأسرى، ومصالح الإسلام والمسلمين من الناحية الداخلية والخارجية، وبعد ذلك يأمر بتنفيذ ما اختاره.

بناءً على هذا، فليس لأخذ الفدية أو الاسترقاق صفة الإلزام والوجوب، بل هما تابعان للمصالح التي يراها إمام المسلمين، فإذا لم تكن مصلحة فيهما فله أن يغض النظر عنهما، ويطلق سراح الأسرى دون طلب الفدية) (8). والمقصود بإمام المسلمين الذي أعطاه الشرع هذه الصلاحية هو إمام الحق لا إمام الجور كخلفاء بني أمية وبني العباس وغيرهم من الظلمة الذي حكموا بلاد المسلمين في مختلف العصور.

ومن الجدير بالذكر أنه (لم تكن في تلك الأيام سجون يسجن فيها أسرى الحرب حتى يتبيّن وضعهم وماذا يجب فعله معهم، بل كان الطريق الوحيد هو تقسيمهم بين العوائل، والإحتفاظ بهم كرقيق) (9).

خامساً: بعد حكم بضرورة بقاء حالة الرق ولو مؤقتاً كما بيّناه وفق ما يخطط له الإسلام قبل تحريرهم فلا بدّ من وجود الأحكام الشرعية التي تنضم علاقة الموالي بالعبيد وعلاقة العبيد مع بعض وباقي الأحكام الشرعية المتعلقة بهم مما يناسب حالهم كرقيق. ولهذا وُجدت الأبواب الفقهية التي تذكر هكذا أحكام.

سادساً: إن قيل لو كان قصد الإسلام إنهاء قضية الرق فلماذا لم ينتهِ بعد مرور عشرات ومئات السنين على بدء الدعوة الإسلامية كما في العصرين الأموي والعباسي وغيرهما؟

والجواب هو أن سيرة خلفاء بني أمية وبني العباس وغيرهما ممن تسلطوا على المسلمين لا تعكس تعاليم الإسلام لأنهم أناس أهل سلطة لا يهمهم من الدين إلا ما يثبتون به ملكهم، أما استمرار الاسترقاق فهو يخدم مصالحهم على حساب مصلحة الإسلام العُليا، ولا يرون المصلحة في إنهائه، والناس عادة على دين ملوكهم. وإلا فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم يقول كما في كتاب الكافي: (شرّ الناس من باع الناس).

سابعاً: إن الموارد الضيقة التي جاز فيها سابقاً تملك الرقيق في الإسلام ليست فاعلة في هذا الزمان. لذا فإن موضوع الرقيق منتفٍ بحسب الواقع الإسلامي.

ثامناً: الإسلام عند مجيئه لم يفرق في الإنسانية وفي التكليف الإلهي بين الأحرار والعبيد ولا بين الأبيض والأسود، بل قال الله تعالى: {إِنَّ أَكرَمَكُم عِندَ اللَّهِ أَتقاكُم}. أي إن الإسلام ليس لديه أي تمييز عنصري أو طبقي، وصار التدرج وعدم التحرير الفوري للرقيق ضرورة أملتها العادات المتجذرة بعمق قبل الإسلام كما ذكرنا. بينما بقيت المجتمعات الأخرى تفرق بين الأحرار والعبيد وبين الأبيض والأسود. فالمشرعون الأمريكيون مثلاً لم يقرّوا بحق التصويت للناخبين السود بلا عراقيل إلا في عام 1965 بعد نضال مرير، أي إنه لم يأتِ تبرعاً من المشرعين بالاعتراف بالتساوي في الإنسانية. أما على المستوى الشعبي فقد بقيت آثار التمييز العنصري في الولايات المتحدة إلى اليوم رغم مجيء رئيس أسود هو أوباما.

تاسعاً: من سوء الفهم عند البعض أنهم ينسبون أفكار وجرائم الدواعش إلى الإسلام رغم التصدي الفكري والعملي من قبل كبار علماء المسلمين لهذه الزمرة التي أوغلت في سفك دماء المسلمين أكثر من غيرهم. بل إنها جاءت بدعم أمريكي كما يصرح الرئيس ترامب حين يتهم حكومة سلفه أوباما بهذا الأمر. فالدواعش المنحرفون أساءوا تطبيق تعاليم الإسلام وحرّفوها لتخدم الجانب العنيف الدموي والتسلطي في شخصياتهم المريضة. 

عاشراً: يقول البعض ممن لا يدرس المسألة بموضوعية وبمختلف جوانبها إن الفضل في تحرير العبيد يعود إلى القرارات الأممية التي حررت العبيد.

 إن قرار الأمم المتحدة الذي يلغي الرق إنما هو قرار فحسب ولا يملك الإلزام بالقوة، وهو القرار 317 (IV) في 2-12-1949 الذي جاء نتيجة اعتماد الجمعية العامة "لاتفاقية الأمم المتحدة لقمع الإتجار بالأشخاص واستغلال بغاء الغير". وقد بقيت العبودية بعده بأشكال مختلفة، كما في نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا المسمى "الأبارتايد" الذي حكمت من خلاله الأقلية البيضاء في جنوب أفريقيا من عام 1948 وحتى تم إلغاء النظام خلال الأعوام 1993-1990.

وحسب موقع الأمم المتحدة https://www.un.org/ar/events/slaveryabolitionday/index.shtml :

(إن العبودية ليست مجرد بقايا تاريخية. وفقاً لمنظمة العمل الدولية، فإن أكثر من 40 مليون شخص في جميع أنحاء العالم هم ضحايا للرق الحديث. وعلى الرغم من أن الاسترقاق الحديث غير معرف في القانون، فإنه يستخدم كمصطلح شامل يشمل ممارسات من قبيل العمل الجبري، واستعباد المدين، والزواج القسري، والاتجار بالبشر. وهي تشير أساسا إلى حالات الاستغلال التي لا يمكن للشخص أن يرفضها أو يغادرها بسبب التهديدات والعنف والإكراه والخداع و/ أو إساءة استعمال السلطة.

وبالإضافة إلى ذلك، يتعرض أكثر من 150 مليون طفل لعمل الأطفال، وهو ما يمثل قرابة واحد من كل عشرة أطفال في جميع أنحاء العالم).

ثم يذكر الموقع تحت عنوان "حقائق وأرقام" ما يلي:

  • يُقدر عدد الأشخاص الذين يعيشون في الرق الحديث بنحو 40.3 مليون شخص، منهم 24.9 في السخرة و 15.4 مليون في الزواج القسري.
  • وهناك 5.4 ضحايا للرق الحديث لكل 1000 شخص في العالم.
  • 1 من بين كل 4 ضحايا للرق الحديث هم من الأطفال.
  • ومن بين الـ 24.9 مليون شخص المحاصرين في العمل الجبري، يتم استغلال 16 مليون شخص في القطاع الخاص مثل العمل المنزلي أو البناء أو الزراعة؛ و 4.8 مليون شخص في الاستغلال الجنسي القسري، و 4 ملايين شخص في السخرة التي تفرضها سلطات الدولة.
  • وتتأثر النساء والفتيات بصورة غير متناسبة بالعمل الجبري، إذ يمثلن 99% من الضحايا في صناعة الجنس التجاري، و 58% في القطاعات الأخرى.

وحسب الموقع التالي

https://www.masrawy.com/news/news_publicaffairs/details/2019/12/1/1680406/%D8%BA%D8%AF-%D8%A7-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%86%D8%B3%D9%83%D9%88-%D8%AA%D8%AD%D9%8A%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A-%D9%84%D8%A5%D9%84%D8%BA%D8%A7%D8%A1-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%82 

وغيره من المواقع فقد أظهرت دراسة أعدتها مجموعة منظمات عالمية، خاصة بما أسمته "العبودية العصرية"، وهي أشكال متنوعة من الاستغلال حول العالم، أرقاما ضخمة لضحايا العبودية العصرية حول العالم. والدراسة التي أجرتها مؤسسة "ووك فري" العالمية للبحوث، ومنظمة الهجرة الدولية، ومنظمة العمل الدولية أظهرت أنه يوجد أكثر من 40 مليون ضحية للعبودية العصرية، وذلك بخصوص مؤشرات الرق لعام 2018.

وعرفت المنظمات العبودية العصرية بأنها عدم قدرة الأفراد على مواجهة العوامل التي تؤدي لتعرضهم للاستغلال مثل التهديدات، والعنف، والإكراه، والخداع، واستغلال الطاقات الجسدية.

وجاء في التقرير أيضا، أن أكثر من 400 ألف شخص في الولايات المتحدة يعيشون في ظل "عبودية حديثة"، ونحو 136 ألفا آخرين يعيشون في بريطانيا. وأكد التقرير أن الولايات المتحدة تسهم في زيادة أعداد المستعبَدين في العالم عبر الاستيراد الكبير لبعض المنتجات التي يخضع عمالها للعمل القسري في عدة مناطق من العالم. وذكر أمثلة عن المنتجات التي تساهم في العبودية الحديثة أثناء إنتاجها كالفحم الحجري والقطن والخشب. وأشار التقرير إلى أن عدد المستعبَدين في العالم ازداد بشكل ملحوظ في الآونة الأخيرة في عدة دول مثل كوريا الشمالية والولايات المتحدة وأستراليا وفرنسا).

ولهذا فإن قرارات الأمم المتحدة لم تلغِ العبودية التي لا زالت قائمة في مختلف أنحاء الأرض خاصة في الأمم "راعية الديمقراطية" كالولايات المتحدة. ولذا لا داعٍ للتبجح بفضل الأمم المتحدة والدول الديمقراطية بتحرير العبيد.

حادي عشر: لم تُلغَ العبودية في أوروبا وأمريكا إلا في القرن التاسع عشر الميلادي. ولكنهم لم يكفّوا عن استعباد الشعوب وسلب ارادتها وامتصاص خيراتها إلى يومنا هذا. وهذا أسوء من العبودية الفردية لأنه استعباد لشعب كامل واذلاله وقمع إرادته. فبعد تحرير العبيد في بلدانهم في القرن التاسع عشر استعبدوا شعوباً بكاملها بما يعرف بالاستعمار. فبريطانيا مثلاً التي كانت سبّاقة إلى إلغاء الرق، تعتبر السبّاقة أيضاً في اضطهاد واستغلال الشعوب. ويُنقل عن المستشرق الانكليزي هيندمان: "إن الانكليز تعاملوا مع شعب الهند معاملة ألف مرة أسوء من معاملة العبيد". والحال نفسه في معاملة باقي المستعمرين كالفرنسيين والبرتغاليين والاسبان مع الشعوب التي احتلوا بلادها. ولو تكلمنا عن مآسي استعباد الناس في أفريقيا وإرسالهم للقارة الأمريكية والجرائم التي ارتُكبت بحقهم  لطال الكلام حول هذه المأساة الفظيعة التي تخلو من قيم الإنسانية. وكذلك معاملة الشيوعيين مع شعوبهم فلا يخفى على المطّلع الاستعباد والاضطهاد الذي مارسوه بحق الناس وحرياتهم والقتل الفظيع بحق كل من يخالفهم، وعلى الأخص في الاتحاد السوفييتي السابق في عهد ستالين، فالشعوب التي عاشت في ظل هذه الدول كانت كالعبيد تماماً لا يملكون من أمرهم شيئاً، ويتحكم أعضاء الحزب الشيوعي بمقدراتهم وما يتعلق بشؤون حياتهم، ولا حق لأحد في مخالفتهم، وإلا فمصيره السجن أو النفي أو القتل.

وحتى بعد تحرر البلدان من الاحتلال الأجنبي، فإنّ استغلال شعوبها قد استمر، لأنّ هذه الحرية كانت حرية سياسية، أمّا الاستغلال الاقتصادي والثقافي والتدخل في شؤونها كي تنسجم مع مصلحة المحتل السابق فلم تنقطع وخاصة في أفريقيا.

وبالتالي لا يمكن القول أن البشر عندهم سواسية، فهم لا يفهمون قيمة الإنسانية إذا تعارضت مع مصالحهم أو حدّت من نفوذهم. والقرارات الأممية التي تُعنى بحقوق الإنسان وإلغاء الرق إنما تصب في الجانب الفردي ويتحكم بها أصحاب النفوذ العسكري والاقتصادي. ولهذا نرى ارتكاب جرائم كبيرة بحق الشعوب يندى لها جبين الإنسانية ولا يتحرك الغرب لمنعها، هذا إذا لم يكن هو من قام بها فعلاً. والشواهد كثيرة على هذا كما في جرائم الصرب بحق المسلمين في تسعينيات القرن العشرين، وجرائم الاسرائيليين بحق الفلسطينيين على مر تاريخ احتلالهم لفلسطين، وجرائم السعودية في قتل الأطفال وغيرهم من المدنيين في اليمن(10)، وجرائم الولايات المتحدة بحق افغانستان والعراق وإيران ودول أخرى، وباقي سياساتها التي تجعل العنصر الأمريكي هو الأول ولا تنظر لبقية البشر بالنظرة المتساوية في الإنسانية، خاصة في عهد ترامب.

لذا فالتبجح بأن الغرب قد أعطى الحرية للناس وساوى بينهم لا معنى له. والقائل بهكذا قول كأنه لا يعيش في الكرة الأرضية أو إنه لا يعرف ما يجري فيها.

والخلاصة: إنّ الرق لا يتبع الاسم، فإنّ القبيح والمرفوض هو محتوى الرق، أي سلب الانسان لحريته واستغلاله بغير رغبته لصالح المستغِل، وقد تبين باعتراف الأمم المتحدة أن مفهوم الرق هذا ما زال قائماً في الدول المتنفذة.

 

 

 
 

 

1) لاحظ موضوع (الحرب الأهلية الأمريكية) في موقع ويكيبيديا باللغة العربية، ولاحظ أيضاً العبارة التالية في موضوع الحرب الأهلية الأمريكية American Civil War في موقع ويكيبيديا باللغة الإنكليزية: (most academic scholars identify slavery as a central cause of the war)، وترجمتها: (يحدد معظم العلماء الأكاديميين العبودية على أنها سبب أساسي للحرب).

2) تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-ج 16

3) منهاج الصالحين ج2، السيد الخوئي.

4) تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-ج16

5) أي إذا عاقب المالك عبده ببعض العقوبات الشديدة، فإنّ العبد ينعتق تلقائياً.

6) تفسير الأمثل، الشيخ ناصر مكارم الشيرازي-ج16

7) أي الأسير الكافر المحارب للمسلمين.

8) المصدر نفسه.

9) المصدر نفسه.

10) لاحظ قول الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في تقرير لمجلس الأمن الدولي في 27-7-2019: إن التحالف العسكري الذي تقوده السعودية في اليمن قتل أو أصاب 729 طفلا خلال 2018 فيما يمثل نحو نصف إجمالي عدد الضحايا من الأطفال. والخبر موجود على الرابط:

https://www.mc-doualiya.com/articles/20190727-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%85%D9%85-%D8%A7%D9%84%D9%85%D8%AA%D8%AD%D8%AF%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D8%AA%D9%82%D8%AF-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D8%B9%D9%88%D8%AF%D9%8A%D8%A9-%D9%88%D8%A5%D8%B3%D8%B1%D8%A7%D8%A6%D9%8A%D9%84-%D8%A8%D8%B4%D8%A3%D9%86-%D9%82%D8%AA%D9%84-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B7%D9%81%D8%A7%D9%84.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . مظفر الشريفي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/04/21



كتابة تعليق لموضوع : الإسلام والرِّق
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net