رواية «العاصمة»لروبرت ميناسه… عن حال أوروبا اليوم!

لم تلبِّ مفوضية الثقافة طموح فينينا كسينوبولو، فهذه هي الأقل فعالية وتمويلا من بين مجمل المفوّضيات الأخرى الممثلة للاتحاد الأوروبي. كانت كسينوبولو تسعى إلى منصب في مفوضية الزراعة أو التجارة، الواسعتي التمويل، لكن في هاتين لم يعد من مقعد شاغر لها. كان عليها إذن أن تُري المسؤولين أنها أكثر نشاطا مما يتطلّب منصبها، لذلك سرعان ما استحوذت على فكرة تنظيم احتفال يوبيلي للمنظمة (المفوضية الأوروبية). وقد عُهد إليها بذلك بعد تدخلات، وتقديمات حميمة، قامت بها مع أحد المسؤولين الكبار. كانت محظوظة في ذلك، حيث الصراعات على أشدها هناك على تولي المناصب. وهي على الفور كلّفت مارتن سوسمان، المشهود له بالكفاءة والابتكار، ليعمل على إيجاد الفكرة التي سينهض عليها اليوبيل. وهو توصّل إلى ذلك، بعد فترة تأمل وتفكير. كتب في الملف الذي حمّله حصيلة تبصّره: «إن جوهر المفوضية الأوروبية، أو ما ينبغي عليها أن تكونه، لم يتبلور إلا بعد أوشفيتس». وقد قال في ذلك إن تلك المحرقة دفعت أوروبا إلى التفكير بأن ما حصل في أوشفيتس ينبغي أن لا يتكرر فيها، والدول الأوروبية اتفقت على ذلك، لذلك ينبغي أن يقام اليوبيل محتفلا بذكرى أوشفيتس.
وقد استمر مارتن سوسمان في التركيز على الجريمة الفظيعة تلك، ودورها في وحدة أوروبا. رأى تاليا أن ما على المفوضية أن تذهب قدما فيه هو التوصل إلى تخلي الدول الأوروبية عن حقوقها القومية، بل عن الدين والأصل، لصالح ما أرسته المحرقة في الوجدان الأوروبي: «كل هذا (يقصد القومية والأصل والدين) قد زال وحلّ محله حنين مشترك إلى ماض آمن وتوق إلى النجاة».
في مرحلة لاحقة، من الرواية، ذهب تفكير سوسمان، إلى ضرورة إلغاء المدن الكبيرة في أوروبا، وهو السبيل الوحيد للقضاء على التعصب القومي. يجب أن تكون لأوروبا عاصمة واحدة، قال، لكن أين؟ في أي من البلدان؟ التنازع بين الدول سيصبح ضاريا إن بدأ التفكير في الأمر، حيث كل دولة، من الدول الكبيرة على وجه الخصوص، مثل ألمانيا وفرنسا، وحتى بريطانيا المترددة دائما تجاه انضمامها إلى الوحدة الأوروبية، ستصر على أن تُنشأ العاصمة فيها. ثم ليس هناك من أرض محايدة، أو غير تابعة لدولة. أوشفيتس هي الحل الأقرب إلى التحقق. بولندا بلد متنازع على ولائه التاريخي، ثم أن المحرقة التي حصلت فيها جعلتها رمزا ومركزا للضمير الأوروبي.

كان روبرت ميناسه قد اقترح على قراء روايته أن الإلتزام بزمن محدد للعيش، سواء للشخصيات أو للأفكار، هو تعيين عبثي أو افتراضي. ذاك أن كل تناول لحياة الأشخاص هو محدود، طالما أن هناك، على الدوام، شيئا سبق وقد جرى إلغاؤه أو تجاوزه

أما الفكرة التنظيمية لإقامة اليوبيل فاتُفق بعد مشاورات مضنية أن يكون عمادها مشاركة مَن بقي حيا ممن نجوا من أوشفيتس. اتصالات كثيرة جرت مع مؤسسات في عدد من البلدان، لإحصاء عدد هؤلاء. لكن ليتبين في ما بعد أن من الأجدى الاكتفاء بناجٍ واحد بعد أن بات هؤلاء قليلين، ويصعب الاهتداء إلى أمكنة إقاماتهم. الناجي الذي اختير هو دافيد دون فراند، الذي سبق الروائي روبرت ميناسه اللجنة في الاهتداء إليه. هو من بين الشخصيات التي عدّدها الروائي في مقتبل روايته (على نحو ما يعدّد كاتب مسرحية أبطاله وأدوارهم في مقدمة نصّه المطبوع، لكن هنا في الرواية جمعهم الكاتب في مشهد هو رؤيتهم لخنزير فالت في المدينة، كل من موقعه في تقاطع الشوارع ذاك). هو دافيد دو فرند إذن، الذي لازمت وقائع حياته مراحل الرواية كلها، ابتداء من فراره من القطار الذاهب بحمولته البشرية إلى أوشفيتس، ليُحرقوا فيها، وانتهاء بإقامته في دار للمسنين في بلجيكا.
هي شخصيات كثيرة جرى تعدادها في ذلك التقديم الذي جمعه مشد انفلات الخنزير في تقاطع الشوارع ذاك. وكل من هذه الشخصيات، شأن دافيد دو فرند، حظي بأن سطّرت مراحل أساسية من حياته، بما يجعل الرواية أقرب إلى روايات عدة متصلة. لكن كل هذه الشخصيات تنتسب، لحد ما، إلى المفوضية الأوروبية، التي يتآكلها تنازع مصالح المفوضين والموظفين، وكذلك تنازع الدول التي ينتسب هؤلاء إليها، لهذا أمكن، بمهارة استثنائية من الروائي، مع اتساع الرواية حتى كاد عدد صفحاتها يقترب من الستمئة، أن يجري جمع كل هؤلاء في نسق سردي جامع.
هي رواية ساخرة عن أوروبا الراهنة، وعن مؤسستها الممثلة لدولها. ويزيد الروائي على ذلك سخريته من الأفكار التي تلازم تقدّم القارة بالتلازم مع حداثتها الفكرية والاجتماعية. لكن كاتب «العاصمة» (وهذا عنوان الرواية) رأى أن السخرية وحدها لن تكفي، لذلك حرص على إضافة حيّز فلسفي وآخر مأساوي وآخر تاريخي إلى بنائه الضخم. في جانب درامي مثلا جعلنا نقرأ عن الأيام الأخيرة لعدد من أبطاله المصابين، إما بالأمراض وإما بالحوادث الطارئة وإما بعيشهم آخر مراحل الشيخوخة. دافيد دو فرِند مثلا، الناجي الوحيد، بدا في مراحل حياته كلها، ضحية لكل شيء، وها هو يصل إلى نهاية حياته مثقلا بالحزن والذنب والوحدة. ذلك باختلاف تام عن شخصية فينيا كسينوبولو (المذكور عنها أعلاه) الساعية عبر كل الوسائل إلى اقتناص الفرص للترقي الوظيفي.
وإلى ذلك كان روبرت ميناسه قد اقترح على قراء روايته، الالتزام بزمن محدد للعيش، سواء للشخصيات أو للأفكار، هو تعيين عبثي أو افتراضي. ذاك أن كل تناول لحياة الأشخاص هو محدود، طالما أن هناك، على الدوام، شيئا سبق وقد جرى إلغاؤه أو تجاوزه. بل يمكن أن تكون، لكل شخصية، رواية أخرى سابقة: «أيّ جملة أولى محتملة هي نهاية، حتى إذا تواصل الكلام بعدها (…) هكذا لن نصل أبدا إلى بداية».
«العاصمة» رواية أساسية قلما يحدث أن نقرأ ما يماثل أهميتها في ما يُنقل إلى العربية الآن. كما أنها رواية حديثة، إذ لم تظهر بلغتها الأصلية (الألمانية) إلا في 2017. كما أن الترجمة رافقت بتمكّن لافت اتساعها وتعقد شخصياتها ووجهات التناول المتراوحة بين الجدية والسخرية فيها.
٭ رواية روبرت ميناسه «العاصمة» نقلها عن الألمانية سمير غريس، وصدرت عن «دار آفاق للنشر والتوزيع- القاهرة» في 566 صفحة- 2019.

٭ روائي لبناني


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2020/01/30



كتابة تعليق لموضوع : رواية «العاصمة»لروبرت ميناسه… عن حال أوروبا اليوم!
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net