صفحة الكاتب : ادريس هاني

بين مقاصد تقدمية ومقاصد رجعية أي معنى لمقاصد الشريعة؟
ادريس هاني

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 لم نستنزف كلّ هذا التراث، ففيه أسس تستحق البناء عليها، إذ تصل الفقه الأكبر بالفقه الأصغر لقيام لاهوت مقاوم للهزيمة والظلم منفتح على وقائع جديدة ومتجددة. إنّ محورا أساسيا لعلم كلام المدرسة العدلية هو العدل، هذا يعني باختصار: قبح الظلم تقبيحا عقليا وذاتيّا ، ولهذا آثار وتطبيقات لم تجد لها فرصة في التاريخ لأننا اهتممنا بسؤال العقل وتجاهلنا إمكان إدراك القبح بالعقل، وكانت حكاية المقاصد وفقهها الذي أخذنا إلى متاهة تشخيص مصالح خارج العقل أي بالمصلحة في حدود ما تضبطها الميول والغريزة. وإن كان هناك ما يعيق في الماضي قيام نظرية العدل في اللاهوت والسياسة فإنّ العصر يفتح أبعادا وإمكانات لإعادة تأويل الأسس والمفاهيم. ولقد كان العدل أهم ما أبهر رفاعة الطهطاوي فضلا عن العقل والنظام في رحلته الشهيرة إلى الديار الباريسية، حين اعتبر القوم ، أي الفرنسيس، لعلهم على مذهب الاعتزال في التقبيح والتحسين العقليين.

وكما أنهم أنكروا إدراك العدل بالعقل فهم اليوم يلتفون على المقاصد حين جعلوا بطريق غير مباشر أن إدراك المصالح - كما فعلوا مع العدل - ممكن من دون عقل، بل بالقياس والقياس على القياس وأصل المُقاس عليه هنا مظنون وغير خاضع للحسن والقبح العقليين. فالعقل غير معتبر لا في أصل المقاصد ولا في نهايتها، يكفي القياس على تأويل ما للمنقول.
وهكذا كان لزاما أن نعيد طرح السؤال على الأسس لا على العنوان، فالمقاصد كانت عنوانا لكل حكم وعلّته الظاهرة أو الخفية لكن السؤال له علاقة بالأسس، وهنا تكمن واحدة من كبرى مغالطات ما يسمى بالمقاصد التي هي فرع من فروع الاستحسان. وتبقى أهم مصاديق التقبيح العقلي والذاتي للظلم في مقام التشريع هو قبح العقاب بلا بيان والتكليف بما لا يطاق. 
وقلت أنهم جعلوها من حيث لا يعقلون فرعا من الاستحسان من دون ضابطة ما عدا محظور عام لا يحضر في التفاصيل والنكات الدقيقة، لكنّهم ما قدروا المصالح حق قدرها وكان أقرب إلى المعقول ربطها بالأحكام الخمسة حتى لا تتيه وتصبح مصالح مفتوحة على المزاج.
وفي تصريف المقاصد في السياسات الكبرى وحتى في السياسة الشرعية نفسها كنّا أمام "فقهاء" جعلوا من الفتوى سلطة لإسناد السياسات الفاسدة، وهكذا عانقت المقاصد الإرهاب والعمالة والاستعمار فأصبحت مقاصد تعزز قهر الشّعوب.
خداع المقاصد المعاصرة يكمن في أنها لم تعد تنطلق من فقه بل تركب موجة مفاهيم تتمتع بالغلب وتعتمد عصبية الراهن التي تمنح لبعض المفاهيم الملتبسة مثل التقاء مقاصد القرضاوي مع أكذوبة تصدير الديمقراطية التي انتهت بالخراب وتمكين الإرهاب من البلاد والعباد. ونحن هنا نتتبع مباني وصور الفتاوى التي تنتجها مشاتل المقاصد المغرية ونقف على الكثير من نقائضها وانتهاكها للمباني نفسها حيث باتت المقاصد المزيّفة تتحول نفسها إلى ضابطة للأسس والمعايير، أي إلى نوع من التدبير غير المقيّد بوجوه المصالح المختلفة.
ولازال الاتحاد العالمي للمسلمين ينحو هذا المنحى في المقاصد، مقاصد بلا أسس متينة، جعلت من المصلحة الملتبسة محور الاجتهاد، حيث وقفت المصلحة هنا على المصلحة للحاضنة السياسية وغاياتها الاستراتيجية، أي مقاصد تدخل في جملة السياسات التي تخدم موقفا وخيار سياسيا، فلم تكن إجماعية لأنّ أصحابها أظهروا مرارا مواقفهم غير الإجماعية وسقطوا في امتحانات شتّى، كما أنها ذهبت بالمصالح حدّا يتعدّى العدل الذي هو القيمة المعيارية للتشريع، بل إن كانت المصلحة تتناقض مع العدل تركوا العدل وتمسكوا بالمصلحة، وهنا نكون أمام مفارقة عجيبة، فلا يمكن أن تتخلف المصلحة عن العدل ولا العدل عن المصلحة حين تكون مبنية على الحق، ولكن قصارى ما في الأمر أنّ العدل إن كان ليس في مصلحة الإنسان فهو في مصلحة غيره، فمادام المقاصد لم تجعل من العدل معيارا، ومادام أنها لم تجعل الطريق إلى تحسين العدل طريقا عقليا وذاتيّا، فإنّ المقاصد ستكون لما أريد له.
لازلت مصرّا على إنقاذ هذا الدّين من كلّ هذا الرهط من الأبالسة الذين اخترقوا المحتوى التقدمي والعقلاني بمقاصد رجعية وسطحية هي اليوم ما يشكّل منهاج الفقاهة الذي عزز مقاصد الإمبريالية والرجعية، لماذا تتركوا هذا المجال الحيوي للإرهابيين وأذناب الإمبريالية والرجعية لكي يرسموا قواعد لاهوت يهيمن على المعاني والأرواح؟ لماذا تستسلموا لحربهم النفسية وكأنهم بالفعل فقهاء وما هم سوى زريعة القنّب الهندي في مشاتل الرجعية؟ إنّ الدين حين يترك للرجعية هو بالفعل يصبح أفيون الشعوب، وهذا ما طبقته مراكز الدراسات الاستراتيجية الكبرى  وغرف التحكم الاستراتيجي بالأذهان على الشعوب وعززت من مكانة علم كلام الماريستان الديني وصياغة أسس فقه يأخذ القطيع باتجاه الإرهاب أو التّفاهة، بينما ابتكرت الأمم أشكالا من لاهوت التحرير هو راسخ في بنية تصورنا للعدل كمحور لكلّ كلام ممكن، وهذه هي أنجع طريقة لاحتواء التطرفات والرجعية والتخلف والجهل، بتحريره من سدنة التخلف والتفاهة والتطرف، وهنا لا بدّ من القول حيث الأمر يعود كما بدأ: لكم مقاصدكم ولنا مقاصدنا، وحيث جوهر الدين يكمن في مقاصده أصبحنا أمام تحدي: لكم دينكم ولي دين. فدين التطرف والجهل والرجعية والهزيمة ليس هو دين التحرر والانفتاح والتقدم والانتصار، ففي نهاية المطاف ليس الصراع اليوم صراعا دينيا كما تقول الدعاية لنشر اليأس، بل هو صراع بين دين التحرر ودين التخلف حتى لو امتح الطرفان من ذات العناوين المشتركة في الظاهر لكن المحتوى هنا ليس هو المحتوى هناك، والذي سيحسم كل هذا هو مآلات الصراع..
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ادريس هاني
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/09/22



كتابة تعليق لموضوع : بين مقاصد تقدمية ومقاصد رجعية أي معنى لمقاصد الشريعة؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net