صفحة الكاتب : صالح الطائي

القرآن والكتب السماوية الأخرى بين العصمة المطلقة وحقيقة التحريف
صالح الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

من يجري مقاربة في موضوعة التحريف بين القرآن الكريم والكتب السماوية الأخرى (التوراة والإنجيل) يجد تعهدا ربانيا بحفظ القرآن من كل تحريف، وصيانته من كل تصحيف متعمد، أو تخريب مقصود، ولا يجد بالمقابل في الكتب الأخرى شيئا مماثلا، وهذا لا يدعو إلى التشكيك بصحة مصدر ذينك الكتابين المقدسين وإنما علاقته تتمثل بما يعرف بالتناسخ الديني أي نسخ الرسالة اللاحقة للرسالة السابقة، وعليه تجد في القرآن ما لا تجده فيهما، تجد فيه تعهدا يتمثل بالآية الشريفة {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} [1] وتجد لهذا التعهد ميزة عجيبة من حيث صلاحيته الزمنية للعمل الإستمراري إلى ما يشاء الله تعالى، فكلمة {حافظون} جاءت في الآية الشريفة منفردة بدون إضافة وانتهت الآية بتمامها، إذ لم يأت معها ما يضاف إليها، أو تضاف إليه، مثل ( الآن) أو (ما دمت فيهم) أو (إلى نهاية عصر البعثة) أو أي إشارة لمدة زمنية أخرى. فالزمان  في الآية بقي مفتوحا واسعا ممتدا من لحظة نزول أول كلمة  في أول آية من أول سورة من القرآن وإلى يوم القيامة، لكي تبقى بركاته وقوانينه وأحكامه ونواهيه فاعلة إلى سويعات الأربعين يوما التي تسبق النفخ في الصور، وهي المدة التي يرفع التكليف فيها عن حثالات البشر الذين تقوم عليهم القيامة.

القرآن الذي بين أيدينا اليوم هو  ذاته الذي كان بين يدي النبي صلى الله عليه وآله الكريمتين وأيادي الصحابة الكرام والتابعيين وتابعي التابعين (رض) وهو القرآن نفسه الذي شرح قوانينه وأحكامه وفسر معانيه الأئمة المعصومين الأطهار عليهم السلام وهو نفسه الذي سيبقى كما هو عليه بموجب عهد الله سبحانه رغم تعاقب الأيام والأزمنة. 
هذا الحفظ الحمائي  جاء تصديقا لنبوة الخاتم، وتدليلا على أن عهد الرسالات قد انتهى مع نهاية عصر البعثة المحمدية. ويدلنا على أمور في غاية الأهمية:
الأول:  ينفي  أن تكون هناك في الأرض قوة مهما عظمت وتجبرت وتكبرت لها قابلية وقدرة تحريف القرآن، أو التلاعب بمضمونه أو بنصه. وبذلك تبطل  كل الأقوال التي أدلى بها بعض قدماء المسلمين بخصوص وجود زيادة أو نقصان في سوره أو في آياته. وهو الكمال الذي تتفق عليه المدارس الإسلامية بأجمعها ولاسيما في وقتنا الحاضر، رغم أن هناك بينهم من يتهم هذا الطرف أو ذاك بأنه يقول بتحريف القرآن مستندا إلى أقوال وآراء اجتهادية لا دليل على صحتها.
الثاني:  يثبت امكانية وقوع التحريف في الكتب السماوية للديانات الأخرى على يد معتنقي تلك الأديان أنفسهم، وعن طريقين اثنين:
1. الأخبار التي جاءت في الآيات القرآنية الكثيرة التي تحدثت عن حقيقة وقوع التحريف في تلك الكتب، والتي نحن ملزمون بالتصديق بها وعدم المجادلة في مضمونها ما دمنا نؤمن بقوله تعالى {وعد الله حقا ومن أصدق من الله قيلا} [2] والآيات التي تحدثت عن التحريف كثيرة لا يتسع المجال لذكرها، ولكن لا بأس في الاستئناس ببعضها مثل قوله سبحانه وتعالى: {من الذين هادوا يحرفون الكلم عن مواضعه} [3] وقوله تعالى: {وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه} [4] 
2. الدراسات المستفيضة التي قام بها علماء الأديان الثلاثة (اليهودية والمسيحية والإسلامية) وهي الدراسات التي أثبتت أن الذي قام بتحريف تلك الكتب المقدسة هم علماء التوراة والإنجيل أنفسهم لأنهم لم يكونوا مطمئنين إلى حفظ مصالحهم مع ما تدعو إليه، ولأن تلك الكتب بشرت بالنبي الأمي.
وإذا كان المسلمون قد استندوا إلى القرآن في  استنباط نتائج بحوثهم  الدالة على وقوع التحريف في الكتب الأخرى، فإن العودة إلى الكتب المقدسة الأخرى والدراسات المتخصصة بها والتدقيق والتمحيص بما جاء فيها من أقوال يثبت بلا شك صحة وقوع التحريف، كما أن البحث في قضية تدوين الإنجيل الذي جاء بعد موت السيد المسيح عليه السلام بعدة قرون، والطرائق التي تم بموجبها التدوين يعطي قناعة لا تقبل التشكيك تفيد بصحة وقوع التحريف الذي يعترف بحدوثه أهل الكتاب أنفسهم، وعلى العموم هناك ناحيتان مهمتان يجب الإلتفات إليهما:
فمن ناحية لا يجد الباحث إشارة أو تعهدا ربانيا داخل أو بين آيات هذه الكتب يتحدث عن وجود غطاء حماية ربانية، كما هو في القرآن الكريم، نعم يجد إشارات تقول: إن هذه الكتب هي من عند الله سبحانه، وهذا ما لا يشكك به المسلمون، ويجد إشارات إلى ضرورة الحفاظ عليها وتجنب تحريفها، ولكنها بالتأكد خالية من حصانة (وإنا له لحافظون) والأمر بتجنب التحريف لا يتعارض مع قولنا بفقدانها لشروط الحماية لأن هذا الأمر جاء للحفاظ على ما فيها من بشارات بخصوص المنقذ القادم وهو النبي الأكرم محمد بن عبد الله (ص) وكما في قوله تعالى {وإذ قال عيسى ابن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة ومبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه احمد فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين} [5]
من ناحية أخرى ثمة نكتة لطيفة  بخصوص انعدام التعهد الإلهي لها بالحماية  الذي هو إشارة واضحة إلى عدم حاجة هذه الكتب إلى الحماية الأزلية مثل القرآن. 
أما لماذا هذا التمييز وهي كتب مقدسة ومصدرها ومصدر القرآن واحد؟ فذلك لأن زمن تطبيق شرائعها محدودا وليس مطلقا ولا دائما، وهي محكومة بعمر زمني مرحلي لا يمكن أن تتجاوزه إلى أبعد منه، ينتهي مع ولادة الرسالة اللاحقة. ولذا تجد في كل منها إشارات وتنويهات بأن رسولا آخر سوف يأتي عن قريب برسالة أكمل.
أما لماذا هذا الحكم الزمني الذي استثني منه القرآن؟ فذلك لأن هنالك كتاب آخر سوف ينزل إلى الناس من بعدهما فيه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان، وله القدرة على تقنين وتنظيم وترتيب وتنسيق حياة المخلوقات على الأرض والكواكب الأخرى بما لا حاجة معه لما فيها من أحكام، وفي مثل هذه الحالة لا يهم إن كانت جريمة التحريف ستقع أم لا!
فضلا عن أن الكتب الأخرى (التوراة والإنجيل) تحدثت بنفسها عن إمكانية وقوع التحريف في أصولها وحذرت أتباعها من مغبة الإتيان به حيث جاء في سفر الرؤيا [إن كان أحد يزيد على هذا، يزيد الله عليه الضربات المكتوبة في هذا الكتاب. وإن كان أحد يحذف، يحذف الله نصيبه من سفر الحياة] [6] وجاء في سفر التثنية : [كل الكلام الذي أوصيتكم به احرصوا لتعملوه ... ولا تزد عليه ولا تنقص منه ] [7]  وقال سليمان الحكيم في سفر الأمثال [كل كلمة  من الله نقية ... لا تزد على كلماته لئلا يوبخك فتكذب] [8] 
إن هذه التحذيرات لم تكن أقوالا اعتباطية بقدر ما هي تأكيد على أن التحريف سوف يقع حتما في الكتب المقدسة، وسوف يغير ما فيها من أحكام، حتى تصبح غريبة عن أصلها المقدس الأول الذي أنزله حملة الوحي من عند الله سبحانه وتعالى إلى رسل الله (عليهم السلام) ليبقى القرآن نقيا خاليا من كل تحريف، ومصانا من كل تلاعب وتصحيف، إلى ما يشاء الله سبحانه للحياة أن تستمر.
أما المشكلة الحقيقية التي يواجهها القرآن اليوم فهي أن بعض المسلمين انضموا بدوافع كره ومعاداة المسلم الآخر إلى القائلين بتحريف القرآن من أتباع تلك الديانات،ففي تلك الديانات ولاسيما بين المهتمين بالدراسات الكنسية والإنجيلية من يدعي (أن القرآن كله محرف، وهو ليس من عند الله) أو يدعي (أن محمدا (ص) هذا الرجل البدوي الذي كان تاجرا كثير الاختلاط بأهل الكتاب ولاسيما اليهود تعلم منهم بعض أحكامهم وتعاليم دينهم وآيات كتابهم، فقام بكتابة قرآنه ونشره بين الأميين العرب الجاهليين، على أنه من عند الله!)
طبعا لا يذهب المشككون من المسلمين إلى هذا المذهب الجائر، ولكنهم يذهبون مذاهب أخرى لا تقل عنه سوء، وفيهم من يغفل التعهد الرباني بحفظ القرآن فيدعي أن هناك سورة أكلتها (داجن)، وهناك سورة كانت بطول السورة الفلانية، ولكنهم لم يعثروا عليها كلها عند جمع المصحف  فاكتفوا بما عثروا عليه منها، فضمنوه القرآن، أو أن المعوذتين ليستا من كتاب الله، وما شابه ذلك من الأقوال.
كما وفيهم من يتهم المسلم الآخر الذي يختلفون معه في الرأي  والمعتقد بأنه يقول بتحريف القرآن غير آبهين لتطابق محتويات القرآن الذي يتعبد به مع محتويات القرآن الذي به يتعبدون، وانه لا يملك كتابا آخر يؤمن به ويحترمه ويحبه ويقول أنه من عند الله غير قرآن المسلمين، وأنه يؤمن إيمانا مطلقا أن القرآن الكريم هو الرسالة التي جاء بها الوحي الأمين إلى نبينا محمد (ص) ولا قرآن آخر في الدنيا سواه، وأن ما بين دفتيه كما كان في عصر البعثة هو اليوم كذلك!
الآن وبعد أن نجح القرآن بالصمود على مدى أربعة عشر قرنا من الزمان بات لزاما على كل المسلمين بكل فرقهم ومللهم ونحلهم ومذاهبهم ومرجعياتهم الاشتراك بعقيدة واحدة موحدة لا تختلف بشأن كمال القرآن المحفوظ بأمر الله تعالى وتعهده. 
 
 
الهوامش
 
1. الآية 9 سورة الحجر
2. الآية 122 سورة النساء
3. الآية 46 سورة النساء
4. الآية 75 سورة البقرة
5. الآية 6 سورة الصف
6. التوراة  22: 18 و19
7. التوراة  12:32
8. التوراة  30:5 و 6

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


صالح الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/02/02



كتابة تعليق لموضوع : القرآن والكتب السماوية الأخرى بين العصمة المطلقة وحقيقة التحريف
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net