من سيرة الشهيد السّعيدُ الشّيخ جليل شهاب أحمد الأسديّ

أودعَ الخالقُ في نفس ابن آدم البحث عن الكمال والسعي إلى الأفضل، فهو أمرٌ فطريٌّ يتحرّك في داخله، ويندفع به نحو التكامل والرقي في حياته.
وللمناهج الدينيّة دورٌ أساسٌ ومهمّ في وجهة الإنسان نحو كماله النسبيّ بحسب جِدِّه واجتهادِه للحصول على بعض درجاته، ومن جهةٍ أخرى، الثقافةُ غيرُ الصحيحة تُسهم بدورها في حَرْفِه عن مسيرهِ نحو الكمال؛ فهي ترى أنّ كمالَ الإنسان وسعادتَه بالمال والجاه والشهرة والجمال الظاهريّ، وغيرها من المظاهر المادّية، لكنَّ مَن يطمحُ في الوصول إلى الكمال الحقيقيّ، لابدَّ له من أنْ يأخذ من تجلّيات صاحب الكمال المطلق جلَّ جلالُه، وممَّن شُهد بحقّه أنّه مِن الكاملين؛ حتّى يصل إلى الكمال المتمثّل بالعلم والمعرفة والأخلاق والخصال الكريمة.
إنّ الهدف من خلق نوع الإنسان هو تربية الإنسان الكامل، خليفة الله في أرضه، ومثل هذا الهدف يتحقّق في ضوء العبادة الواعية والقيام بمتطلّبات العبوديّة؛ لذا، كانت العبادة لله تعالى، وكانت العلّةَ في خلق الإنسان؛ إذْ هي الكمال المطلق، والوسيلة الموصِلةُ إلى الهدف النهائيّ، قال تعالى: "(وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) .
وكمالُ الإنسان يتجلّى بصفاتٍ كثيرة، منها: حسن الخلق، والتقوى، والعلم والمعرفة، والخدمة لبني النوع؛ فهم خَلْقُ الله وعيالُه، فقدْ قال أبو عبد اللهِ الصّادقُ((عليه السلام)): «أَكْمَلُ النَّاسِ عَقْلاً أَحْسَنُهُمْ خُلُقاً» ، وقيل لعليّ بن محمّد (عليه السلام): «مَن أكملُ النّاس؟ قال: أعملهم بالتقيّة، وأقضاهم لحقوق إخوانه» .
وعن الإمام الحسن العسكريّ(عليه السلام): «أَعْرَفُ الناسِ بحقوقِ إخوانِه، وأشدُّهم قضاءً لها، أعظمُهم عند الله شأناً. وَمَنْ تواضعَ في الدنيا لإخوانه، فهو عند الله من الصدّيقينَ، ومِن شيعةِ عليِّ بن أبي طالب(عليه السلام): حقّاً» .
وقدْ حاز أهلُ الجدِّ من شيعة أهل البيت(عليهم السلام): هذه الصّفات وعُرفوا بها، وها نحن اليوم نؤبِّنُ شهيداً اتَّصف برجاحة العقل، وطهارة القلب، وحُسن الخُلُق، وخدمةِ الدين المتواصلة، بتواضعٍ يشهد له به كلُّ مَن عرفَه، هو الشّيخ الشّهيد(جليل شهاب أحمد الأسديّ)، المولود عام (1385هـ/1965م) في ناحية (الهارثة) في محافظة البصرة، في قرية (أمّ الحوايل)، وكان متزوّجاً بزوجتين، أنجبتا له خمسة أولاد وتسع بنات.
درس في مدرسة (العدالة) الابتدائيّة وثانوية (الشباب) في الهارثة، ولم يُكمل دراسته، فقدْ أُخذ قسراً للخدمة في الجيش في زمن الطاغوت، فاغتنم الفرصة وتدرَّب على الكثير من الأسلحة، واكتسب خبرةً كبيرةً في القتال، وبعد تسرُّحه من الخدمة الإلزاميّة، عمل في الأعمال الحرّة.
وكان(رحمه الله) قارئاً لمقتل الإمام الحُسين (عليه السلام): يوم العاشر من المحرّم، فخلّف ذلك في نفسه حبَّ خدمة المنبر الحسينيّ الشريف، فهاجر إلى النجف الأشرف ليتفقَّه في الدين، ولينهلَ من العلوم الدّينيّة والخطابيّة الأمور اللازمة، فدرسَ على أيدي بعض الأساتذة في الحوزة المباركة، منهم: الشيخ حيدر الزيرجاويّ، والسيّد الحسينيّ، وعمل خلال دراسته في التبليغ في منطقته ومناطق أُخَر، فقرأ في (مضيف بني أسد)، ولعموم أهل المنطقة، ثمّ قرأ في عموم مناطق البصرة والعراق، وقرأ في سورية والأهواز أيضاً.
وقدْ حاز على ثقة الأعلام، فحصل على اعتمادٍ من آية الله السيّد محمّد سعيد الحكيم، وآية الله الشيخ بشير النجفيّ، وأسهم إسهاماً فاعلاً في دعم الانتخابات في دورتها الأولى، وكذا انتخابات تصويب الدستور؛ استجابةً لتوجيه المرجعيّة العليا، وعانى من المعارضين والانتهازيّين، وتعرَّضَ للمضايقات والتهديد، وأُحرقت سيّارته لمواقفه الداعمة لتشكيل الدولة.
أسَّسَ مجموعةً من المؤسّسات الدينيّة والخيريّة، كمؤسسة سيّد الشّهداء(عليه السلام): للتبليغ والإرشاد، ومدرسة (غريب طوس) للعلوم الدينيّة والخطابة الحسينيّة، ومؤسّسة (الفرقان) و(السيّدة رقيّة(عليها السلام):الخيريّتين، وكان يُعيل من خلالهما -بالتنسيق مع مؤسّسات أُخَرى- ستمائة عائلة من المتعفّفين والأرامل واليتامى، وشكّل هيئة (إحياء تراث ومصائب أهل البيت(عليهم السلام) وله غير ذلك من الأعمال الثقافيّة والخيريّة في محافظة البصرة.
كما أسَّسَ مع مجموعة من المؤمنين موكب خدّام السيّدة رقيّة(عليها السلام) وخدم في هيئة المواكب الحسينيّة في (الهارثة) مُنتَخَباً من قبل أهل المنطقة عموماً؛ لمحبّتهم له، ولخدمته المتواصلة، فقدْ وصَفوه بخادم أهل البيت وأوليائهم(عليهم السلام):.
امتاز الشّهيد بالخلق الكريم، وبالتواضع للصّغير والكبير، والسعي في قضاء حوائج المؤمنين، وإدخال السرور على قلب مَن يصحبه، فكان بشوشَ الوجه، سخيَّ الطبع، مؤنساً لمن حوله، ذاكراً لله، مذكِّراً به وبأوليائه الكرام(عليهم السلام):.
عند سماعه نداء الجهاد، شَكَّلّ مجموعةً قتاليّةً من أهل المنطقة، وقدَّم ولديه أمامَه لنصرة الحقّ والدين، ودحرِ خوارج العصر وأصحاب الفتن، فشارك -بصحبة مجموعته- في مناطق وقواطع عديدة، منها: اليوسفيّة، والنباعيّ، وجرف الصخر، وعزيز بلد، وسامراء، وتكريت، والزلّاية، والفاضليّة، والثرثار، التي نال فيها الشّهادة.
له مواقف بطوليّة رائعة؛ فقدْ نُشر له كلام من خلال تسجيل مصوَّر طلب فيه الشّهادة عندما تعرّض لعبوةٍ انفجرتْ بسيّارته ولم يُصب عندها بشيء، فتمنّى لو أنّه حاز على هذه الدرجة الرفيعة.
هؤلاء هم جنود صاحب الزمان(عجل الله فرجه)، هذا كاسب يكدح طول اليوم ليصونَ ماء وجهه، وذاك فلّاح كان إلى أيّام قليلة يعانق الورود ويشمّ الرياحين في بستانه، وذاك معلّم كان يتعامل مع البراءة والطفولة إلى حدّ الأمس، وذاك موظّف يخدم أخاه الإنسان في مواقع مختلفة، وهذا شيخ معمّم طالب للعلوم الدينيّة، والكلّ طالب كمال وحسن خاتمة وخدمة صاحب الأمر(عجل الله فرجه).
إلا أنّ حضور طلبة الحوزة والمبلّغين في السواتر الأماميّة لجبهات القتال يكون له دائماً طعمٌ آخرُ، طعمٌ لا يمكن أنْ تقف على حقيقته إلا إذا كنتَ إلى جانبهم على السّاتر، تعانق معهم التراب، تنام إلى جانبهم على هذا التراب، لا يفصلك عنه تعالى أيّ فاصل؛ إنّهم ممثّلو إمام الزمان، إنّهم عطره، إنّهم مَن يُشعرك بالطمأنينة على دينك، تؤمن بأنّك على الخطّ الصحيح، على الصّراط المستقيم، على خطّ محمّد وآل محمّد(عليهم السلام):.
عندما تكون إلى جانبهم تشعر بحقيقة ما ورد مِن أنّ العلماء ورثة الأنبياء، كيف لا، وهم حملة رايات الهدى؟! كيف لا، وهم حملة النور الذي يهدي الإنسانيّة إلى سواء السبيل؟! كيف لا، وهم الأدلّاء على طريق عودة الإنسان مِن تيهه وغفلته؟!
هؤلاء ذلك كلُّه وأكثر، حاوِل أنْ تصافحَهم ولو مرّة، حاول أنْ تجالسَهم ولو لحظات، جرِّبْ أنْ تتكلّم معهم ولو بضع كلمات، تجدْ ما قلتُه لك جليّاً واضحاً لا ريبَ فيه، الشّيخ كان من هذا النوع من خلق الله، كان من مصاديق قوله تعالى:((وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْناً))، كان من جنس مَن تكلّم عنه سبحانه تعالى قائلاً: ((َا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)) ، الشّيخ مِن هؤلاء الذين أحبَّهم اللهُ وادّخرَهم لهذا اليوم.
وفي آخر حضور للشّهيد السّعيد في جبهات العز والشرف، تأخَّر عن موعد زيارته لأهله، فاتَّصل به أحدُ الأخوة مطمئنّاً، فأخبره(رحمه الله) بأنّه سيأتي بعد يومين، وأوصاه وأخوتَه بالحفاظ على نهجهم وتمسّكهم بولاء العترة الطاهرة(عليه السلام): ، وفي ليلة شهادته، رآه أحدُ المجاهدين الذين كانوا بجنبه يقرأُ القرآنَ ويُكثرُ من الحَوْقَلَة وقول: «إنّا للهِ وإنّا إليهِ راجعونَ»، وكأنَّه عَلِمَ بحلول موعده مع الجنّة والختام المشرِّف، وكان ما بقي ينتظره بفارغ الصبر طويلاً؛ إذْ نال وسام العز والفخر بتاريخ (4/1/2016م)، على أثر رصاصةٍ غادرة في صدره، فُحملَ شهيداً إلى أهله كما أخبر، وشُيِّعَ إلى مثواه الأخير بتشييع يليق بناصر آل محمّد(عليهم السلام):.
هنيئاً لك شيخنا تاجَ العز والكرامة، ويهنيك حسن الخاتمة بجوار محمّد وآله الطاهرين، (أُوْلَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاماً ) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاما) ، ورزقنا الله هذه الكرامة مع وليّ الله الأعظم)عجل الله فرجه الشريف )، وجعلنا وإيّاكم مِن خيرة جنده والمستشهدينَ بين يديه..



قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/05/15



كتابة تعليق لموضوع : من سيرة الشهيد السّعيدُ الشّيخ جليل شهاب أحمد الأسديّ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net