صفحة الكاتب : د . اكرم جلال

التَوَلّي والتَبَرّي .. أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ
د . اكرم جلال

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

بسم الله الرحمن الرحيم

﴿َلَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ [المجادلة: 22].

لَقَد خَلَق الله الإنسانَ وأودَع فيه فطرَةً سَويّة هيَ الأصلُ الثابت الذي قامَت عليه مَسيرته وَليَكون من خلالها مُنسَجماً مَع جميعِ ما أنزل الله من أحكام شرعيّة وما يَتَرتّب عليها من أوامر ونواهي ﴿َ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [الروم: 30].

وَيُعَدّ مَفهومَي التَوَلّي والتَبَرّي من أوضَحِ المَفاهيم التي إتّفّق عليها أهلُ العَقل والمَنطق باعتبارهما منَ المُسَلّمات الفطريّة والعقليّة، لينسجم الإنسان معهما بحكم تَكوينه الإنساني وَفِطرَته البشرية فتراه يَرفض الظُلم وَيَدعو الى العَدل والإحسان، وَيبرأ منَ الشَرّ والأشرار وَيَجنَح نَحوَ الخَير وَتَولّى الأخيار، إنهما من ثَوابت وأساسيّات المَنطق، وهُما البُوصلة الدالّة على المَنهَج الحَق والفَيصل بينَ الأخذ أو الرّفض، وأنّ كل ما زَرَعَه البّعض من شُبُهات بغية طَمس وَتَغييب هذين الركنين إنّما هو من أجل خلط الأوراق وإبعاد أهل الحق عن جادّتهم والّسّير بهم نَحوَ مَسالِك الإنحطاط والتردي.

والولاء مِن كَلمات الأضداد، فهي قد تَرِدُ بمعنى الإقبال والإتّباع وَقَد تَردُ بِمَعنى التّرك والإعراض، وما يُهمّنا في هذا البّحث المُقتَضَب معنى الوِلَايَةُ والوَلَايَةُ بنحو الدِّلَالة والدَّلَالة، وحقيقته: تَوَلِّي الأمرِ1. ووَليَ أَصْلٌ صَحِيحٌ يَدُلُّ عَلَى قُرْبٍ، ومِنْ ذَلِكَ الْوَلْيُ: الْقُرْبُ، ويُقَالُ: تَبَاعَدَ بَعْدَ وَلْيٍ، أَيْ قُرْبٍ وَجَلَسَ مِمَّا يَلِينِي، أَيْ يُقَارِبُنِي 2. والمَولى هُوَ النّاصر والمُنعم وابنُ العمّ والحَليف والعَقيد 3.

وأما البُرْءِ والبَرَاءِ والتبرّي فهو التقصّي مما يكره مجاورته، ولذلك قيل: بَرَأْتُ من المرض وبَرِئْتُ من فلان وتَبَرَّأْتُ وأَبْرَأْتُهُ من كذا، وبَرَّأْتُهُ، ورجل بَرِي‏ءٌ، وقوم بُرَآء وبَرِيئُون. وأنّ مادّة برأ- و- برى- متقارب أحدهما من الآخر، والأصل الجامع الواحد فيها: هو التباعد من النقص والعيب، سواء كان في مرحلة التكوين أو بعده 4.

في البَدأ لا بُدّ منَ الإشارة الى أنّ الحَديثَ في أمرِ التَبرّي والتَوَلّي هو من أكثر الأمورِ تَعقيداً وحساسيةً عندَ البَعض، لذلك فالإحاطة بهذا الأمر يَتَطلّب بحثاً مفصلاً متكاملاً يَشترك فيه باحثين من تَخصصات مختلفة، رُغمَ أنّ الذي نُقَدّمه هوَ بمثابةِ فَتحِ نافذة تُشَجّع وَتَحثّ على الغَور في هذا الأمر بتَفصيل أكثر وبشجاعة ووضوح بعيداً عن كل تورية وغموض.

وَلكَي نوضّح أهميّة هذين الركنين لابُدّ من البَدأ بإثارة الأسئلة التالية: مَن هُم أولئك الذين عَلينا التّبري منهم؟ وَمَن هُم الذين يجب أن نَتَولاّهم؟ وَهَل أنّ واجِبَي التَوَلّي والتَبَرّي ينحصر في إظهارِ المّوقف نظرياً أم أنهما مجرد بوصلة تنظم وتؤطر فعل المؤمن وسلوكه، أم أنّهما مَنهَج واعتقاد وَتَجسيد وسلوك وتَطبيق  ؟

التولّي والتبرّي في المنظور الإنساني هي علاقة اجتماعية أساسها مُعتَقَد يَدفع الفَرد لأتخاذ مَواقف مؤيدة أو رافضة لمنهج أو فكر أو عقيدة يتبناه فرد أو مجموعة فيجعل منه ولياً يحذو خلفه ويؤيّده ويعمل بأفكاره أو رافضاً له. فالتولّي والتبرّي إذن هو إعلانُ مَوقف وَبَيان مَنهَج وَرَسم حُدود في التّعامل، وهذا المَوقف يَجب أن لا تَحكُمه العَواطِفَ أو الأمزجة ولا الشُبهات أو الظُنون ولا المَصالح الفئوية ولا الميول الغريزية، بل يكون مَبنياً على مَعايير حَددتها الشّريعة الإسلامية والقِيَم السَماويّة وَرَسَمَت حُدودها الآيات القرآنية وأحاديث المُصطفى وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين، فَقَد ورد مفهومي التولّي والتبرّي في القرآن الكريم مرات عديدة، وأن حدود الولاء قد حددها قول الله تعالى ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ﴾ [النساء: 59]، وأما حدود التبري فقد بينته العديد من الآيات منها قول الله تعالى ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ۚ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6]، وكذلك ورد في شأنهما العديد من روايات أهل البيت صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين، فَعَن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: (کمالُ الدّینِ وَلایتُنا وَ البَراءَةُ مِن عَدُوِّنا 5). فالتولّي والتبرّي إذن هما رُكنان أساسـيّان مِن أركان الدين والعقيـدة وَهما مِن أهم المَباحث الفقهية التي أكّد عَليها الشّارع المقدّس وهما شَرطان من شروط الإيمان وَيُعَدّان من أعظم الواجبات الشرعية على المُسلم المُكلّف 6.

إنّ النَفسَ البَشَريّة كما خَلَقَها الباري تَعيش بَين ولايَتين: الولاية الإلهية أو الولاية الشيطانيّة، والإنسانُ عندما يرتبط بربّه وخالقه، ويقدم الولاية لله جل جلاله ورسوله وأهل بيته وَمَن تَبِعَهم وَسار على نَهجِهم وَتَبَرّأ مِن عَدوّهم، فإنّه سَيَنال بذلك الرَحَمات الربّانية واللّمَسات الإلهيّة والتّوفيقات المَلَكوتية لتُعينَه في إكمال المَسير نَحو مَدارج الكَمال وَنَيل مَقامات القرب الإلهي، فعن أمير المؤمنين علي عليه السلام أنه قال (وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ لَنْ تَعْرِفُوا الرُّشْدَ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي تَرَكَهُ وَلَنْ تَأْخُذُوا بِمِيثَاقِ الْكِتَابِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَقَضَهُ وَلَنْ تَمَسَّكُوا بِهِ حَتَّى تَعْرِفُوا الَّذِي نَبَذَهُ فَالْتَمِسُوا ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ أَهْلِهِ 7).

وفي المقابل، فالإنسانُ عندما يَخضع لشَهَوات نَفسه الأمّارة بالسوء وَيَتبع الشيطان وأولياءه وأهل الباطل وأنصاره فإنّه بذلك يبتَعد عَن ولاية الله جل جلاله خُطوَة بَعد خُطوة حتّى يتطابق مَنهَجَه وَمُعتَقَدَه بِمَنهَج حِزب الشّيطان فَيَبدأ بالسّير بِرَكبهم خاضعاً ذليلاً مسلوبَ الإرادة فاقداً للسّمع والبَصَر وَلِجَميع الصّفات الإنسانيه، ﴿َ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ ۚ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا﴾  [الفرقان: 44]، فَهُو بذلك قَد دَخَل في ولاية الشَيطان، حتى وإن خادعته نَفسه وَظَنّ أنّه ممن يُحسنُ صُنعا، قال الله تعالى ﴿َ فَرِيقًا هَدَىٰ وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ ۗ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ﴾ [الأعراف: 30]. فعلى المؤمن الرسالي أن يقف موقفاً رافضاً مُنكراً مُتَبرءاً مِن كلّ من أساءَ الى الدّين والعَقيدة وَشَرّع وَحَثّ على الظّلم والباطل ودعى الى الشرّ والعدوان سَواء بقولٍ أو فعلٍ وانتَهَجَ أفكاراً من شأنها الحاق الأذى بالفرد أو المجتمع وَسَعى لِزَرع الفِتنِة وَتَمزيق وَحدة الصف وَتَشويه وَتَحريف مَباديء الصّلاح والحُبّ والخَير لِيُصبح عندها السالك الى الله يتحرك باتجاهيين، الأول نصرة الحق ومُوالاة الأبرار والأخيار والصالحين ممن أطاع الله وسار على نهج رسوله وأهل بيته الأطهار والثاني البراءة ممن عصى الله وسعى خراباً في دين الله ونصب العداوة لرسوله وأهل بيته ومن سار على نهجهم ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ﴾ [الممتحنة: 13].

إنّ ولاية الشيطان وحزبه هيَ ولاية ضَعيفة واهنة هزيلة مَهزومة، لا تَملك صفات الجَمال والكَمال، فهي كما وَصَفَها الباري جل وعلا كَبيت العنكبوت ﴿َمَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا ۖ وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنكَبُوتِ ۖ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ﴾ [العنكبوت: 41].

لَقَد صُنِّف التَوَلّي والتَبَرّي على أنّهما مِن فروع الدين، كالصلاة والصوم، رُغم أنّ بَعضاً من عُلماء المسلمين أوردهما ضمن أصول الدين. وبغض النظر عن التصنيف فإن هذين الركنين يُعَدّان الأساس للعديد من أصول الدين، فأوّل أصول الدّين هوَ التّوحيد، والّذي هُو الإيمان بيقين أنْ لَيس لله شَريك ولا شَبيه، وأنّ اللهَ جَلّ وَعلا حينَما أوحى الى المُصطفى صلى الله عليه وآله وسلم أن يأمر من أراد دخول الإسلام بتلاوة الشّهادتين والتي َتَتَحقّق بقول: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمداً رسول الله) فإنّما هيَ دَلالَة على الإقرار بأحديّة الله وَنَفي الشّرك عَنه وبرسالة النبيّ محمد صلى الله عليه وآله وسلم. إنّ في الشهادتين تَجَلٍ لأوضح مداليل التَوَلّي والتَبَرّي، أنّها عَهد بالتّولي والإرتباط بالله وحده فقط والبراءة مِن كُلّ ما سوى الله؛ فالشطر الأول "لا إله " تَجسيد حَقيقي لِمَفهوم البَراءة من اي شريك لله، وأما الشطر الثاني "إلاّ الله" فهو تَجسيد لِمَفهوم التولّي المُطلق لله تعالى، وعليه فالدين الإسلامي بَل وَجميع أديان السّماء إنّما بُنِيَت على هذين الرُكنين: البراءة من أعداء الله والإخلاص في الوحدانية وأن تَكون ولياً وناصراً لله ولأولياءه، فبالتبرّي تجسيد لأعلى مراتب الإعراض والرَفض والتَّصَدّي، أما التولّي ففيه تتجسد لوحدة المؤمنين من أجل البناء والسير نحو مراتب القرب الإلهي.

أمّا النُبوّة فَهي الأصل الثالث مِن أصول الدّين وَتَعني التَوَلّي والتَصديق والإقرار بِنُبُوّة النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم وَبكل ما جاء به الوَحي، والتبرّأ مِمّن أنكر نُبُوّتَه وَنَصَبَ لَه العداء. وكذلك أصل الإمامة فَهو لا يَستَقيم إلّا بالثّبات والتّصديق بإمامة الأئمة الإثني عشر مِن خلال مُوالاتِهم والبَراءة من أعدائهم. إذن فالتولّي للمصطفى وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين والتَبَرّي مِن أعدائهم وَممّن ظَلَمَهم وسارَ على نَهجِ ظالميهم هما رُكنين أساسيَّين من أركان دين الاسلام، بَل هما قُطبَ الرّحى وَحولهما تَدور باقي الأركان والأعمال، قال الله تعالى ﴿ إنَّما وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسولُهُ وَالَّذينَ آمَنوا الَّذينَ يُقيمونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتونَ الزَّكاةَ وَهُمْ راكِعونَ وَمَنْ يَتَوَلَّ اللهَ وَرَسولَهُ وَالَّذينَ آمَنوا فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبونَ ﴾ [المائدة: 55-56]، وفي آية أخرى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ﴾ [النساء: 59].

والآية الكريمة من سورة المائدة جاءت بصيغة الإخبار وفيها توجيه صريح من الله جل جلاله بلزوم طاعته وإتباع أوامره واجتناب معاصيه، والولاء لرسوله والتصديق به والسّير على نهجة والإيمان بما أنزل اليه، ثم الطلب بتقديم الولاء والطاعة والتأييد والمؤازرة لأولئك الذين وصفهم الباري بصفات ثلاث: مؤمنون بالله ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة – وهم أهل بيت النبي صلوات الله عليهم أجمعين– كما ذهب الى ذلك أغلب جمهور المفسرين.

فـ( وَلِيُّكُمُ ) في الآيةِ 55 من سورة المائدة تُشير الى ولاية الله عزّ وجلّ ، ثمّ رسوله (صلى الله عليه وآله) ، ثمّ الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)، فَمَن تَوَلاّهم وسارَ على نَهجهم وَأحَبّهُم وأحبّ مُحبيهم وَتَبرأ مِن أعدائهم وَمِمّن سارَ على بُغضهن وَنَصَبَ لَهم العَداوة ، فإنّه وَبِنَصّ الآية يَكون مِن حزبهم وأنّ حزبَهم هُمُ الغالبون، وأنّ هذا التَولّي لا يَقْبَل التَّجزئة، فلا يُمكن للمُؤمن أنْ يَتَوَلّ الله وَيَسعى لِنَيل مَرضاته وهو مُبغض وَمُقَصّر في تقديم الوَلاء لرسولِ الله وَلأهلِ بَيته الأطهار فإنّه بذلك يُعَدّ غَير مُكتَمل الإيمان وأنّه قَد أخطأ الطريق الى الله، فالآية تُشير الى أنّ الوُلاية لله ولرسوله وللأئمة هي ولاية شمولية ومجتمعة لهم دون تمييز أو تَجزئة وذلك بِدَليل أنّ الآية بَدَأت بأداة الحَصر (إنما)  ثم تَلَتها كلمة ( وَلِيُّكُمُ ) ولم يقل الله (أولياؤكم)، وأن ولاية الرسول وأهل بيته الأطهار هي من سنخية ولاية الله جل جلاله ، وأن الله قد ضَمِنَ لِمَن قَدّم الوَلاء والطاعة المُطلقة والمَحَبة الكاملة لهم جميعاً أنّ عاقبته النصر والغلبة (فَإنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الغالِبونَ).

وفي الآية 59 من سورة النساء نُلاحظ أنّ الأمرَ الإلهي جاءَ واضحاً لا لَبس فيه وهو الطاعة (المطلقة) لأُولي الأمر (وهم علي عليه السلام وأهل بيته صلوات الله عليهم أجمعين) والآية الكريمة بَيّنت أنّ هذه الطاعة هي كطاعة الله وطاعة رسوله، وهذا من أوضَح الدلائل والبراهين على عصمة أُولي الأمر، وإن لم يكن كذلك فكيف يَقرُنُ اللهُ طاعَتَه بطاعَةِ غَير المَعصوم - أي الذي قد يأتي بمعصية - فعندها تحرم طاعته، فكيف يجتمع النقيضين في آية واحدة.

عن محمد بن خالد البرقي، عن القاسم بن محمد الجوهري، عن الحسين بن أبي العلاء قال: (قلت لابي عبدالله عليه السلام: الاوصياء طاعتهم مفترضة؟ فقال: هم الذين قال الله: " أطيعوا الله وأطيعوا الرسول واولي الامر منكم " وهم الذين قال الله: " إنما وليكم الله ورسوله والذين آمنو الذين يقيمون الصلوة ويؤتون الزكوة وهم راكعون "8).

وَبالتّالي فَعَلى المؤمن الرسالي إنّ يَتَّخذ من التولّي والتبرّي مُنطلقاً وركيزة لِفَهم وَتَطبيق جَميع ما أنزل الله من أحكام وشَرائع، فإن العامل لَن يَبلُغ عَظيم الدرجات ومنتهى المقامات الا بهما، وبهما تُقبل الأعمال ويَثبت الصادقين صدقهم وَيَتَجَلّى الإخلاص، وبهما تَنكَشف حَقيقة النفوس. والناسُ في التَوَلّي والتَبَرّي على أربعةِ أصناف:

  1. صِنفٌ يوالي وَلا يَتَبرّأ ويدّعي المَحَبّة والطّاعة ولكنّه لا يَبرأ ممّن نَصَب العَداء لله وَرَسوله وأهل بيته الأطهار وَهؤلاء هم المنافقون ﴿ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 76]، بذلك يَظنّ أنّه قد أحسَنَ صُنعاً.
  2. وَصنف يُظهر البَراءة في الخفاء لكنّه لايُقدّم الوَلاء ويتخاذل عن نصرة الله ورسوله وأولي الأمر خصوصاً في ساعة العسرة ﴿وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ ۖ فَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ ۙ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ ۖ فَأَوْلَىٰ لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ۚ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ [البقرة: 76].
  3. والصنف الثالث لايوالي ولايتبرأ فهؤلاء ينعقون مع كل ناعق، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ﴾ [الممتحنة: 1].

إنّ في تلك الأصناف الثلاثة خَسارة لامَحال، فَحينَما يَستَخفّ المؤمن في تَطبيق أحد هذين الرُكنين أو كلاهما ويتهاون في العمل بهما فإنّه لامَحالة سَيَنزَلِق في وَحل التَرَدّي والتَسافل خصوصاً عندما يَتَحوّل سلوكه الإنساني مع أعداء الله الى سلوكاً وُدِّيا، فالتّغاضي عَن مَنهج الباطل وإبداء المَوَدّة لأهل الشّر والعدوان سَيُفضي ولو بَعد حين الى التأثّر بِسلوكهم والقَبول بأفعالهم والسّير على نَهجهم ثم لا يَجد نَفسَه إلاّ وَقَد تَخَلّى عَن دينه وَعَقيدته وأخلاقه وَمبادئه.

روي عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) أنّه قَالَ: (قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله) لِأَصْحَابِهِ: "أَيُّ عُرَى الْإِيمَانِ أَوْثَقُ" ؟ فَقَالُوا: اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَعْلَمُ، وَ قَالَ بَعْضُهُمُ الصَّلَاةُ، وَ قَالَ بَعْضُهُمُ الزَّكَاةُ، وَ قَالَ بَعْضُهُمُ الصَّوْمُ، وَ قَالَ بَعْضُهُمُ الْحَجُّ وَ الْعُمْرَةُ، وَ قَالَ بَعْضُهُمُ الْجِهَادُ،

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وآله): "لِكُلِّ مَا قُلْتُمْ فَضْلٌ وَ لَيْسَ بِهِ وَ لَكِنْ أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ الْحُبُّ فِي اللَّهِ وَ الْبُغْضُ فِي اللَّهِ، وَ تَوَالِي أَوْلِيَاءِ اللَّهِ وَ التبرّي مِنْ أَعْدَاءِ اللَّهِ عَزَّ وَ جَلَّ  9).

  1. أمّا الصنف الرابع فَهم الذين يُوالون الله ورسوله وأهل بيته وَمَن تَبِعَهم وَسارَ على نَهجهم ويتبرؤن من أعداءهم، يَحمِلون تِلك العَقيدة بإيمان راسخ وثبات ويقين وَيَتبَعونَها بسلوك وعمل، لا يَخشَون في الله لَومَة لائم، إنّهم أبصَروا فَأدركوا ثمّ حَمَلوا تلك العَقيدة مَنَهَجاً وشعاراً فَعَملوا بِمُقتَضى إيمانِهم، لَزِموا صَفّ الصادقين والأبرار واتّخَذوا مَوقفاً واضحاً شجاعاً رافضاً لمنهج الشيطان وحزبه فنالوا بذلك منَ الله مَنَعَة وَحَصانَة تَقيهِم مَكرَ الماكرين وَتوفيقاً يأخذ بأيديهم نَحوَ مَراتب الكَمال وإدراك أعلى مَقامات القُرب من الله جل جلاله ، قال الله تعالى ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

 

 

  1. مفردات ألفاظ القرآن - الراغب الأصفهاني (502 هـ).
  2. مقاييس اللغة ، ابن فارس (395 هـ).
  3. عمدة الحفاظ ، السمين الحلبي (756 هـ).
  4. الراغب الأصفهاني، المفردات في غريب القرآن، ص 50 ؛ ابن منظور، لسان العرب، ج 1، ص 32.
  5. المجلسي، بحار الأنوار، ج 27، ص 58.
  6. الطبرسي، مشكاة الأنوار في غرر الأخبار، ص 125.
  7. نهج البلاغة - خطب الإمام علي (ع) - ج 2 - الصفحة 32.
  8. المجلسي، بحار الأنوار، ج 7، ص 62.
  9. المحاسن، الشيخ البرقي ، ج1 ، ص264 ، باب 34 باب الحب و البغض في الله.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اكرم جلال
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/04/14



كتابة تعليق لموضوع : التَوَلّي والتَبَرّي .. أَوْثَقُ عُرَى الْإِيمَانِ
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net