صفحة الكاتب : د . محمد سعيد التركي

سلسلة المعرفة الحلقة التاسعة العلم
د . محمد سعيد التركي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

العلم هو الشيء الأعظم في الدنيا والأسبق والأبقى، وحياة الإنسان في الدنيا وسعادته ونهضته فيها لا تكون إلا بالعلم، وهلاك الإنسان وشقاؤه وانحطاطه يكون بالجهل، نقيض العلم .
فترى الأفراد والشعوب والأمم تسود الدنيا بتطور العلم فيها، وتنحدر وتخضع للعبودية بتأخر العلم فيها، وتظل السيادة فيها للأقوى، أي لأصحاب العلم، والأوضاع الحالية في العالم خير دليل على ما نقول كما هو الحال بين أمريكا وأوروبا من جهة (أصحاب العلم)، والعالم الثالث من جهة أخرى(أصحاب الجهل).


ولكن أي علم هذا الذي يحط بالدول والمجتمعات والأفراد، وأي علم هذا الذي يرتقي ويرفع الدول والمجتمعات والأفراد؟ هل هو العلم التكنولوجي؟ أم العلم الاجتماعي؟ أم العلم الرياضي؟ أم علم بناء المدن والبنية الأساسية فيها؟ أم أن هناك علم تُبنى فوقه كل علوم الدنيا وهو الأصل في هذه العلوم كلها، وهو الذي يوظف هذه العلوم أجمع ويسخرها بالكيفية التي تتفق مع أفكاره وقيمه وقواعد التربية، ومقاييس الأعمال فيه ؟


بالتأكيد أن هناك العلم الأساسي الأكبر والأعظم والأشمل والمهيمن على كل علوم الدنيا، وهو الذي يسخرها ويوظفها كيف يشاء، وإلى أي اتجاه يشاء، هذا العلم هو علم الأصول العقائدية، وليس كما يظن المسلمون (المحبطون من نهضة أوروبا ومن تخلف بلادهم)، أن النهضة والرقي والتطور إنما هو تكنولوجي أو عمراني أو فيزيائي أو تقني.


التكنولوجيا والعمران الهائل والعلوم الطبيعية والتقنية بدأت عجلة تطورها منذ أيام سيدنا آدم حتى يومنا هذا، وهي معلومة لمن يأخذ بها، مسلماً كان أم كافراً، وهي في يد أصحاب العلوم أنفسهم، وليست هذه العلوم هي الأصل في النهضة والتطور والعمران والسيادة.


إنما العلم الأساسي، علم الأصول العقائدية، هو الذي يصنع شخصية الفرد والمجتمع والدولة، ويصنع سعادته وسعادة الأمم التي حوله، أو يصنع شقاءهم وبؤسهم وعذابهم، وهو الذي  يسخر هذه العلوم كيف يشاء،  إما للخير أو للشر.


ولنأخذ علم الأصول العقائدية هذا ونطلع من خلاله على ما يحصل في العالم اليوم، بين عالم متطور كما يُقال ومنتصر، وعالم متخلف ومهزوم:

كما نرى أن أمريكا وأوروبا واليابان والصين هم أصحاب التطور والسيطرة على العالم المنخفض، وهم أصحاب النصر، ونرى من جانب آخر العالم الإسلامي أجمع، وأفريقيا السوداء، ودول أمريكا الجنوبية، نراهم هم أصحاب التخلف والعبودية والمهزومين، فلمَ يا ترى هذا الوضع القائم، والمسلمون يحملون في أيديهم جميع أدوات النهضة الفكرية والتعليمية والاقتصادية والسياسية والصناعية والزراعية والعسكرية وغيرها وغيرها؟


لقد جاء الإسلام لا يحمل إلا رسالة الخير والرحمة، ولا يتحدث إلا بها، ولا يأمر إلا بالخير والرحمة، ويفتح للشعوب المقهورة بلدانهم، ويعزز سلطانهم عليها، ويفتح لهم كل أبواب الخير التي أغلقها وأوصدها في وجوههم حكامهم، فكان الخير هو السائد في حياتهم، وبقي على ذلك القرون الثلاثة عشر الماضية، لم يتغير فيها عن منهجه ولم يتحول، واستخدم هذا الخير المستند إلى الفكر العقائدي، وهو الإيمان بالله وبرسالة نبيه محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم في تطبيق الأحكام الشرعية الإسلامية لنهضة البلدان الإسلامية والمفتوحة على حد السواء، بالكيفية التي أمر الله بها، وجاءت في رسالة الإسلام، فعم الخير في الأرض، وانتشر، وساد عرف الخير والرحمة في أصقاع الأرض، بين الناس أجمعين، مسلمهم وكافرهم.


بهذه الكيفية سخر الإسلام العلوم الطبيعية الموجودة منها والمبتكرة، والعلوم التقنية والعمرانية والصناعية والزراعية والعسكرية وجميع أنواع العلوم، سخرها في نهضة العالم أجمع، وليس في بلاد المسلمين فقط، وسخرها في إسعاد البشرية أجمع ورحمتهم في جميع جوانب الحياة.


هذا الوضع بقي قائماً حتى بدأت تضعف الدولة الإسلامية منذ ثلاثة قرون، فبرز المارد الأوربي وظهر بقوة، وظهرت معه كل شياطين الأرض، إنسُهم وجنهم، وتفلتوا في العالم أجمع بعقيدة شيطانية جديدة، أي بعلم أصولي عقائدي جديد، أي بعلم أساسي عقيدته هي المخالفة تماماً والمناقضة لعقيدة الإسلام، وهي عقيدة المصلحة أو ما يسمونها بالعقيدة الرأسمالية، التي يكون فيه رأس المال هو الإله، وهو السيد، وهو الرب الأول والآخر والظاهر والباطن.


لقد تفلّت هؤلاء الشياطين بقضهم وقضيضهم في الأرض بهذه العقيدة، على العالم أجمع، يقتلون أقواماً كثر، ويستعبدون أحراراً كثر، استعباداً جائراً مهيناً قذراً، (بعد أن استفادوا من اختراع السلاح الناري الجديد الذي لم يكن يعرفه أكثر العالم، أو لم يبدأوا في استخدامه، أو قد تعفف كثير منهم عن استخدامه لعدم عدالته)، فنهب هؤلاء الشياطين بالعقيدة الشيطانية التي يحملونها (وما زالوا) ثروات البلدان التي أتوها، ووضع هؤلاء بلدان غيرهم تحت الاستنزاف والنهب المستمر (وما زالوا)، بعد أن أبادوا أهل هذه البلاد وتلك وتلك إبادة جماعية متوحشة، ليصلوا إلى إلههم الذي يعبدوه، وهو الذهب والمال والثروات.


هذا العلم الأساسي الأصولي العقائدي الشيطاني هو الذي بُني فوقه باقي العلوم الغربية، الاقتصادية والزراعية والعمرانية والتقنية والسياسية والعسكرية والتجارية المحلية والعالمية، وهو العلم الذي كان وراء نهضة العالم الأوربي والأمريكي واليابان والصين وغيرهم، وهو العلم الأساسي الذي اُستند إليه لصناعة أسلحة الدمار الشامل، وتدمير الإنسانية والبيئة، وهو العلم الأساسي العقائدي للحربين العالميتين وغيرهما وقتل ملايين الأبرياء، وتدمير هيروشيما وناجازاكي، وهو العلم الأساسي العقائدي الذي كان وراء تفتيت العالم الإسلامي، وتدمير الحضارة الإسلامية وتجميد نهضتها، وهو العلم الذي تسيطر اليوم من خلاله أمريكا على العالم، وتتقاسم الجرائم من خلاله مع الأوربيين واليابانيين والصينيين، وهو العلم الذي تستند إليه أمريكا وأحلافها اليوم في الهجوم على أي بلد من البلدان، في العراق وأفغانستان وغيرهم من العالم الإسلامي أو غير الإسلامي، وتدميرها وقتل شعوبها، وهو العلم الأساسي العقائدي الذي تحاول أمريكا وأوروبا أن تفرضه على العالم باستخدام الشياطين الإعلامية، وهو العلم العقائدي الأساسي الذي زرعت به أمريكا وأوروبا إسرائيل في قلب العالم الإسلامي، للوقوف دون عودته ونهضته من جديد، وهو العلم العقائدي الأساسي الذي تُستنزف به أموال الشعوب في كل العالم، عن طريق الصناعات الزائفة الغير ضرورية، وهو العلم الذي استندت إليه في نشر الرذيلة والدعارة والمخدرات في العالم، وهو العلم الأساسي الذي استخدمته أمريكا وأوروبا في إنشاء نهضة عمرانية رائعة في بلدانها فقط، على حساب دماء غيرهم من الشعوب والبلدان، وعلى حساب ثروات هؤلاء المادية وعقول أبنائهم وعلمائهم، وهو العلم الذي استند إليه الشياطين في جعل أموال العالم كله تصب عندهم من خلال فكرة النظام البنكي، فتُضخ كل الأموال المتحركة وتسيل فتصب في بنوكهم هم، وتكون تحت إمرتهم وسيطرتهم وفي سبيل استثماراتهم هم فقط، دون الشعوب المتخلفة، وهو العلم الذي يستند إليه الأوروبيون والأمريكان في جعل بلداننا سجون لشعوبها، وجعل سجون بلداننا مليئة بأصحاب الفكر والرأي، وجعل بلداننا ترزح تحت إرهاب وإجرام الحكام وزبانيتهم، ليحُولوا دون نهضة أي شعب من شعوب المسلمين.


هذا هو العلم الأساسي العقائدي، علم العلوم، الذي تستند إليه كل العلوم الأخرى والحضارات، فإما علم أساسي كعقيدة الإيمان بالله وبرسوله وبالقرآن الكريم، كما في الحضارة الإسلامية التي أثمرت خيراً عظيماً واسعاً، وسعادة للبشرية ورحمة، وإما علم أساسي عقائدي شيطاني كالعقيدة الرأسمالية والشيوعية وغيرهما، التي إلهها هو المال والسلطان كما هو ظاهر لنا اليوم في الحضارة الغربية النتنة، التي أثمرت شراً مستطيراً وبؤساً وشقاءً وإجراماً عظيماً للعالم أجمع.


أما الدول الكرتونية في العالم الإسلامي اليوم، فهي دول لا تقوم، ولم تقم على أساس العقيدة الإسلامية، ولذلك فإنها بطبيعة نظامها ومنهجها العدو الأول لمنهج الإسلام وطريقته، وفاقدة القدرة على بناء الشخصية العلمية الإسلامية في الأفراد وفي المجتمع والدولة، وبالتالي فإنها فاقدة القدرة على النهضة الصناعية أو الزراعية أو التقنية، وغير مؤهلة للحفاظ على مقدّراتها أو ثرواتها المادية أو الفكرية، أو مؤهلة للقيام بالبحوث أو الابتكارات كما يريد الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولا كما يريده الشيطان الرجيم، وهي بحالها هذا  وشعوبها مستعبدة لأمريكا وأوربا.


وبالتالي فإن ما يتلقاه المسلمون اليوم، من علوم في المدارس والجامعات والمعاهد، فليس منه ما يصلح للنهضة الإسلامية أو يعين عليها، إنما هي علوم للخدمة الاستهلاكية لمنتجات العدو، ولتعزيز الولاء للحاكم، وهي لبناء شباب جاهزين للتصدير، لخدمة أوروبا وأمريكا، أو تصدير نتاج عقولهم في صورة رسائل البكالوريوس والماجستير والدكتوراه، ليستخدمها الغرب لنهضتهم .


ولذا فإنه لن تتم نهضة المسلمين ورقيهم بكيفية صحيحة إلا بالاستناد إلى هذا العلم الأساسي العقائدي المستند إلى عقيدة الإسلام، أي بجعل كافة العلوم الطبيعية والتقنية والعمرانية وغيرها تستند في قيامها وأحكامها وتطبيقها على ما أمر الله به، وأمر به رسوله محمد صلى الله عليه وسلم، ولن تتم النهضة ما لم يكن العلم وطلب العلم لا ينفك عن الإدراك الإيماني، أي يتم بالكيفية التي أمر الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بها، و لن تتم النهضة ما لم يصب  العلم في خدمة الإسلام والمسلمين، ولا يراد به إلا وجه الله الكريم.


قال الله سبحانه وتعالى في سورة سبأ الآية 6:

وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ

عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :

من تعلم العلم ليباهي به العلماء أو يماري به السفهاء أو يصرف به وجوه الناس إليه أدخله الله جهنم‏.‏‏

 

http://dralturki.blogspot.com/2009/04/blog-post_3214.html


 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . محمد سعيد التركي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/01/15



كتابة تعليق لموضوع : سلسلة المعرفة الحلقة التاسعة العلم
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net