صفحة الكاتب : د . عباس هاشم

الحيدري وأهم مقولات الحداثيين..هدم أم تقويم؟
د . عباس هاشم

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يتبنى بعض الحداثيين العرب فكرة تكرار تجربة الغرب بوجوب إحداث قطيعة مع الوحي والتراث، أي هدم المنظومة المعرفية الدينية القائمة كخطوة أولى للحاق بالغرب في تقدمه العلمي والاقتصادي وقيم عصر الحداثة هناك؛ ولأن المواجهة من الخارج أي الدعوة لخلاف الإسلام كالليبرالية أو الشيوعية صعبة جدا ولم تحرز أي نتيجة يعتد بها طيلة أكثر من قرن، ولهذا فإن هدم المنظومة المعرفية الدينية القائمة يجب أن يتم من داخل المؤسسة الدينية (الحوزة العلمية مثلا) وذلك بتقديم قواعد جديدة لقراءة النص الديني (أي تفسيره وفهمه) بدلا من علم الأصول القائم. بكلمة أخرى، السعي لهدم المنظومة المعرفية الدينية والقطعية مع التراث ولكن بإسم التجديد وبدعوى جعل الإسلام ينسجم مع العصر وتحدياته وذلك بدلا من المواجهة الفاقعة التي لم تجدِ. وباختصار: ما يقوم به الحداثيون وباسم الإسلام ليس سوى تفجير الحصن من الداخل بدلا من محاولات دكه من الخارج كما كان سابقا، حيث لم تحرز تلك المحاولات سوى الريح.

وعندما يستعرض الحيدري آراء أدونيس الذي يتبنى الفكرة السابقة، أي هدم منظومة المعرفة الدينية القائمة وهدم التراث الروائي بأدوات المؤسسة الدينية نفسها، يباعد نفسه عن الهدم ويرى أنه يقوم بالنقد من الداخل أي أنه يقوم بوظيفة المعارضة الداخلية وفق تعبيره، ويبرر ذلك بأنه لو قام أحد آخر من خارج الحوزة بهذا الدور سيوصم بأنه غير متخصص ولا يفهم وغيرها من الأوصاف، ومن ثم سيفشل. وسواء أسميناها هدما أم أطلقنا عليها ترميما ونقدا، فالمناط هو النتيجة، فمن يتبنى أدوات الحداثيين العرب نفسها فإن النتيجة هي الهدم حتى لو أطلق عليه نقدا..فهل السيد الحيدري يقوم بالنقد أم بالهدم؟

لنأت لأهم مقولات الحداثيين لهدم منظومة المعرفة الدينية، وهي التشبث بدعوى تاريخية النص. وتاريخية النص تعني أن النص الديني (قرآنا أو سنة) نزل في واقعٍ له لغة وثقافة وتوقعات معينة من القارئ، فإذا نزعنا النص من ذلك الواقع أي من واقع عصر النبوة، وأحضرناه في واقعنا المعاصر، فيجب علينا قراءته اليوم في واقع مختلف وتوقعات من القارئ مختلفة بسبب التغيرات الثقافية والفكرية، فسينتج عن ذلك فهما جديدا للنص..وهذا يعني أن النص الديني صالح لذلك العصر فقط ونزل من أجل علاج ذلك الواقع، فإذا أردنا أن يكون صالحا لهذا العصر فيجب قراءته وفق واقع ولغة وثقافة هذا العصر، فالهيمنة للواقع على النص. وهذا يعني هدم النص وتفكيكه، لأنه في كل مرة يحدث تغيير على اللغة ويتم فرض واقع جديد وثقافة جديدة وتوقعات للقارئ جديدة، يكون للنص هوية جديدة مختلفة.

والان لنرى، هل السيد الحيدري يتبنى نقد المنظومة المعرفية الدينية أو هدمها؟

لقد أجمع العلماء المسلمين قاطبة على وجوب فهم النص وفق لغة وثقافة عصر النزول، فذلك ما يعني الكشف عن مراد الله جل وعلا منزل النص على نبيه، فإذا حدث تغيير في اللغة وتغيرت بعض المفاهيم في الزمان الحاضر وصارت مختلفة عنها في عصر نزول النص، وجب الرجوع للغة عصر نزول النص أي زمان المعصوم، وتحكيم المفاهيم السائدة عندهم حول مثلا الزنا والربا...الخ حتى يمكن فهم النص والكشف عن مراد الله جل وعلا.

ولكن الذي يدعو له الحيدري يقود لنفس النتيجة التي تقود لها تاريخية النص عند بعض الحداثيين العرب، فهو يقول بوجوب قراءة النص وفق لغة هذا العصر، أي عصر وصول النص لنا، ويجب اعتماد معطيات واقعنا التي حدث عليها تغيير في الثقافة والمفاهيم، ويبرر ذلك بأننا مخاطبون بالقرآن كما كان عرب عصر نزول النص مخاطبون بالقرآن، وكما كانوا مخاطبين بلغتهم وواقعهم وثقافتهم، فنحن أيضا مخاطبون بلغتنا وثقافتنا وواقعنا وما يتوقعه القارئ من النص. ولأن اللغة كائن حي فهي تتغير، والثقافة والفكر والواقع الاجتماعي يتبدل، ويجب اعتماد هذه اللغة وهذا الواقع الثقافي والفكري لفهم النص، فالواقع إذن هو المهين على النص، وهنا نتساءل: ما الفرق في النتائج بين ما يدعو له الحداثيون العرب وما يدعو له الحيدري؟

لا فرق؛ لأن نزع النص من واقعه، وتحكيم الواقع الجديد في فهمه، سيغير من هويته، وسيفككه ويعطيه معنى مختلفا. وفي فكر عصر الحداثة، المهم هو قارئ النص وليس كاتبه، فالمهم هو ما يفهمه القارئ لا ما يريده المؤلف، ولتتعدد الأفهام للنص، وكل فهم يهدم الفهم السابق، وهذا ما يطلق عليه في الأدب بموت المؤلف، فمراد المؤلف ليس مهماً، ونلاحظ أن الحيدري يتبنى الأمر نفسه ويدعو طلابه لعدم الاهتمام بمراد الله (الذي يعتبر مؤلف ومنزل النص) ويبرر ذلك بان مراد الله لا يمكنه معرفته ولو بعد خمسة آلاف عام.

فلا فرق بين الحداثيين والحيدري في النتيجة سوى أنهم يسعون لدك الحصن من الداخل كما يدعو أدونيس والحيدري يدعي أنه يسعى لترميم الحصن من الداخل (النقد والتصحيح)؛ ولكن النتيجة واحدة وهي هدم الحصن، إذ أن من يريد تقوية أساسات الدار يقوم بترميم الأعمدة بالتدريج، أما إذا ضربت كل الأعمدة دفعة واحدة فقد هدمت سقف الدار على قاطنيها..

والحيدري اليوم اعتبر كل التصديقات "الأحكام الشرعية" التي وردت في القرآن وسنة أهل البيت، كلها تاريخية قابلة للتغيير والزيادة والنقصان، بل اعتبر أن بعض المفاهيم القرآنية تاريخية. وقام بفتح باب نفي ضرورة الإيمان بعصمة الأئمة عليهم السلام وهم الذين وردت عنهم ٥٩ الف رواية في الأحكام الشرعية فقط، فكما أنه لو نفينا عصمة النبي لنسفت السنة بل وحتى القرآن إذ لا معنى للقول بضرورة الإيمان بعصمة القرآن وعدم ضرورة القول بعصمة من بلّغه وهو النبي (ص) ، كذلك فإن نفي عصمة الأئمة ينسف هذه الروايات، ولهذا مع اختلاف المسلمين الشيعة مع غيرهم في سعة عصمة النبي، ولكن حرص المسلمون قاطبة وأجمعوا على اثبات عصمة النبي في تبليغ الأحكام، وأجمع الشيعة على عصمتهم عليهم السلام المطلقة في تبليغ الأحكام وتطبيقها. وكذلك فتح الحيدري باب نفي الاعتقاد بأن النبي صلى الله عليه وآله قد عيٌن عليا عليه السلام إماما للمسلمين أي خليفة وحاكما، وقد يكون ذلك تناغما مع معطيات فكره الحداثي الذي يفترض أن الأمة هي من تختار النظام الحاكم، وقال بجواز التعبد على كل الأديان والمذاهب كما هو الحال في النظم الليبرالية في الغرب، وشكك في اعتماد قواعد اللغة التي جاء بها سيبويه والفراهيدي وابن جني، وهنا قد يلتقي مع التفكيكية التي تدعو لفصل الدال عن المدلول في اللغة والقضاء على أي احالة مرجعية تجعل من القراء يتفقون على مرجعية لفهم للنص، فالنص الجيد هو القابل للهدم مرات ومرات..بعد ذلك نتساءل: هل الحيدري في إطار النقد والتقويم فعلا؟!! 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عباس هاشم
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/02/07



كتابة تعليق لموضوع : الحيدري وأهم مقولات الحداثيين..هدم أم تقويم؟
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 

أحدث التعليقات إضافة (عدد : 1)


• (1) - كتب : عبد الله ، في 2020/08/08 .

لا حول ولا قوة الا بالله العلي العظيم




حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net