صفحة الكاتب : جمعة عبد الله

قراءة في رواية ( ما بعد الجحيم ) صرخة مدوية ضد الحروب ومشعليها
جمعة عبد الله

يقتحم الاستاذ ( حسين سرمك ) الموسوعي في خبرته الواسعة في الجوانب التالية ( طبيب . ناقد . أديب . مفكر ) عالم الرواية من اوسع ابوابها الابداعية . في تقديم رواية نوعية في انجازها الابداعي المدهش . رواية غير تقليدية , بل اعتقد انها افضل نتاج روائي من أدب الحرب . رواية صادمة تصدم القارئ من أول وهلة , ويدخل في مناخها المرعب في السريالية المدمرة , يعيش اعماق كوابيسها السوداء , المفزعة والمروعة , ويستفز بالسؤال الصادم . ماذا بعد الجحيم ؟ أنها روية مختلفة في الطرح وتحليل وتشخيص , آثار الحرب المدمرة , بالجرأة والشجاعة التي عرف بها الاستاذ ( حسين سرمك ) . بالرؤية الفكرية الموضوعية , التي تسلط الضوء الكاشف , في بانوراما الحرب المدمرة بالموت والهلاك , والاحباط النفسي , الذي يقود الى الجنون , في تدمير الانسان من الداخل , ان يجعله فريسة الكوابيس السوداء , ان يخرج من طور عقله السوي الى طور الجنون والعدوانية , الى المعاناة التي تحطم وتفتت الحديد والصخر . لذلك يسلط الضوء برؤية طبيب نفسي , سايكولوجية دمار الانسان , ان يكون مثالب الصراع الاحباط والانكسار في الانهزام والتقوقع في شرنقة الذات المضغوطة من اثار الحرب , التي هي هلاك للانسان والحياة والمجتمع معاً , ان يدخلهما في سريالية مدمرة , تنسفه نحو الدمار والمعاناة , في السلوك والتصرف , والتعامل في جزئيات الحياة وتفاصيلها . لاشك ان الاستاذ الموسوعي ( حسين سرمك ) استثمر واستغل بذكاء وفطنة فذة, معاناة الحرب من افواه التي عانت الجحيم , لكي يجسيد هذه الاهوال البشعة في المتن السردي ,ان قصص الحرب المدمرة تخلق اضطرابات وصراعات نفسية قلقة وعدوانية وانطوائية كابوسية , تجعل الفرد يفقد بوصلة العقل . لاشك ان وظيفته كطبيب نفسي , لابد وان مروا على عيادته الطبية , مئات من الحالات المماثلة , بالاحباطات النفسية المدمرة , يشكون فيها من الصراع والخناق النفسي المهلك . يجعلهم يتصرفون بغرابة , تجاه محيطهم , وتعاملهم القاسي حتى مع عوائلهم, ان يدخلوا في نزق الجنون والتعامل القاسي بالخشونة في تصرفاتهم , حتى مع اقرب الناس اليهم , او الى احب الناس اليهم . مثل تصرفات الجندي ( شامل) الذي عانى الاهوال والويلات من سنوات الحرب الطويلة في جبهات الحرب , ان يفقد عاطفته وحنانه وحبه الابوي و مع عائلته وزوجته ( صديقة ) رغم ما يملك من الحب والحرص الكبير كامن في داخله , ولكن نوازع القسوة والخشونة , تفتت حبه الكبير الى أبنه ( احمد ) والى زوجته ( صديقة ) التي يعتبرها قديسة ( هذه اليد المقدسة , أضعها على رأس . أنتِ البركة يا صديقة المقدسة ) وبدواعي الحرص الشديد على مستقبل أبنه ( احمد ) يتفجر بسلوك فظ وخشن تجاهه , ويفقد صفاء العقل والتعامل الحسن . لكنه حين يعود الى رشده , وتختفي صور الحرب الماساوية من ذهنه , تلعب في ذهنه الرقة الانسانية والصفاء الروحي تجاه عائلته . ويحاول ان يكيف نفسه , لا شك الغياب الطويل عن عائلته , الذي يفيض بالشوق الحارق اليهم , وكذلك يلعب دور حرمانه الجنسي , بتواجده الطويل في خنادق الموت , وتلعب به الشهوة الجنسية الحادة الى زوجته , فيكون لقاء الحب والمعاشرة الزوجية , لتفريغ شهوته الجنسية الملتهبة , فيحتضن زوجته ( صديقة ) بلهفة مرهفة , ويقول لها بدلال ( - سأمزقك اليوم ) ( - أرجوك , اجل الموضوع الى الليل ) ( - جئت من الموت وأنتِ تطلبين التأجيل .... مستحيل ) ( - اذن , انهي الامر بسرعة ... فدو ... الاطفال يحسون ) ( - أي أطفال ؟ سبعة واربعون يوماً في المعركة ولا رفيقة لي سوى البطانية العسكرية ) يقول هو يفح بشهوته الغريزية ( - كيلو حليب صافي ) ( - نزول عليك . كنت أظن ان الحرب سوف تعقلك ) ( - من الذي سلب عقلي غيرك ؟ تعالي ) . ولكن حين يفرغ شهوته الجنسية , ينزوي ويجهش في البكاء , بفعل الصدمات المفجعة , من اهوال وبشاعة الحرب المهلكة والمأساوية , تجعله يتقوقع في اليأس والاحباط والانكسار النفسي والروحي المهزوم . من المشاهد المروعة التي لا يحتملها العقل . من الجثث المتفحمة المتناثرة حول خنادق الموت , لتكون في نهاية المطاف طعما للكلاب السائبة , كأنه يعيش في عالم من الكوابيس المرعبة , لقد صدمت روحه من المشاهد المرعبة (لقد صدأت روحه من مناظر الجثث المتفحمة من الموت والدمار , الذي عصف بحياته في الجبهة . كأن جنوناً ويوم قيامة , وليس معركة سبعة واربعون يوماً من الجنون الدامي . منْ يقول ان الانسان لديه عقل ؟ ) , تصرعه هذه الكوابيس وتخرجه عن طوره السوي , الى الجنون السريالي في عدوانيته ( أنا مجنون واحارب في ( مجنون ) واتعامل مع مع مجنونة , ولي ولد مجنون . أعيش في عالم الجنون ) لذلك يطرحه هذا الارهاق النفسي الصادم , ويعجز في التعامل والتكيف الحياتي مع الواقع , ومع عائلته , ويحاول الهروب من هذا العالم المرهق والمؤلم بالضغط النفسي الهائل من الصدمات النفسية التي تنهكه وترهقه بعذابها , كأنها ترافقه كظله , بان يتخذ معاشرة الخمرة وسيلة للخلاص والهروب , لكنها توقعه في ازمة متوترة جداً مع عائلته , يتفتت في اعماقه , ولا يعرف كيف يتصرف , بل يعاني الاحتقار الروحي ( أريد ان اسكر , اريد اهين هذا الجسد المتجبر . احتقر هذا الجسد ) هذه تأثيرات الحرب المدمرة , ان تجعل الحياة تافهة وحقيرة ورخيصة . حياة لا تطاق يتفتت بها الصخر والحديد , لانها تنتهي في طوافات بالعذاب والموت المجاني , تصبح الحياة عديمة لا ضمان لها , بل ان الكلاب السائبة حياتها , هي افضل من حياة الجنود في خنادق الموت والدمار . ان الجندي ( شامل ) يعاني الصدمة المروعة والهائلة في تصدع روحه وفتتها , بفعل موت صديقه الجندي الشاعر ( سلام ) قرين روحه يواسيه في خنادق الموت , في مداولات بالشعر والادب. لكن فجأة تخطفه قذيفة طائشة , تحوله الى اشلاء متفحمة , وتتفسخ جثته حول الخندق , وتصبح طعماً للكلاب السائبة . ولم تفارق ذهنه الصورة المروعة والبشعة , صورة الكلب الاسود , الذي نهش الجثة , ويسحب مصران ( سلام ) لعدة امتار , هذا الفزع المرعب , يتصور بأنه لا محالة ينتظر ابنه ( احمد ) الذي فشل في دراسته , واذا رسب سيساق حتماً , الى الخدمة العسكرية , ويذهب الى جبهات الموت , ليكون بعد ذلك طعماً للكلاب السائبة , انه لا يتحمل هذا المصير المرعب والاسود الذي ينتظر أبنه ( احمد ) , لذلك يشدد في قسوة معاملته الخشنة الى العدوانية المفرطة , رغم ما يحمل من حب وحنان ابوي له , فكان في خلوته في خندق الموت , يخرج صوة ابنه ( احمد ) ويجهش في البكاء المر , لانه يدرك بأن أبنه , سيفشل في الامتحان ويرسب في سنته الدراسية الاخيرة , فيساق الى جبهات الموت , وهو شاب غض وصغير وغرير , لهذا فأنه يعامله من دافع الحرص الابوي , لكي يحاول ن يجنبه المصير الاسود الذي ينتظره , لكن في معاملة عدوانية قاسية , تفشل وتخفق في مرامها , ويعترف ان بفشل محاولاته في تجنب ابنه المصير الاسود . فيبتعد عن عائلته ولا يزورها في الاجازات , حتى يرسل الراتب بيد الجنود , فقد اتخذ قراراً ان يبتعد عن عائلته , لان معاملته القاسية , اصبحت لاتطاق له ولهم , رغم انه يؤنب نفسه , بأنه يقترف اسلوب المعاملة العدوانية , تجاه عائلته وابنه , وانه يحملهم عبء وذنوب فوق طاقتهم , دون وجه حق . و ( شامل ) لم يعرف بأن زوجته مصابة بالسرطان وتعالج بالكيمياوي ,انه في الفترة الاخيرة اخذ ينتشر في جسمها رغم العلاج الكيمياوي , فقد اخفت عنه خبر مرضها بالسرطان , حتى لا تزيد احمالاً اخرى في همومه ومعاناته في خنادق الموت . وزوجته ( صديقة ) تدرك حجم الحب الكبير الذي يكنه لها والى ابنه ( احمد ) , وتعرف انها وحيدة ويتيمة , ليس لها في الدنيا معين ونصير , سوى زوجها , وابنها ( احمد ) وأبنتها الصغيرة ( سناء ) . لذلك تدعو يومياً في صلاتها الله ان يحفظه ويعيده سالماً من جبهات الموت . ويحاول ( احمد ) اصلاح علاقته مع ابيه , بعد سيق الى جبهة الحرب في ( بنجوين ) وتكتب ( صديقة ) الى زوجها , بأن ( احمد ) اصبح رجلاً شهماً ذو ادب واخلاق عالية , وانه قرأ كتبه , واصبح اديب مرموق ينشر قصصه في الجرايد , ويتمتع باحترام الناس , في سلوكه الطيب وانه يسعى الى مواصلة دراسته . وان لابد للعائلة ن تجتمع سوية, وان يعيد أليها الوئام والصفاء العائلي , بفتح صفحة جديدة من التفاهم , وتمتلك رغبة اللقاء الحميم والحار , بين الاب والابن , فيسافر الابن الى ابيه في الجبهة الجنوبية الى ( مجنون ) ويسافر الاب في نفس الوقت , الى ( بنجوين ) لملاقاة ابنه الحبيب , لكن القدر الاسود كان لهما بالمرصاد في الاستهتار بالجنون السريالي , في قذيفة طائشة تحول الاب الى اشلاء متفحمة , ونفس القذيفة الطائشة كانت بالمرصاد الى ابنه لتحوله ايضاً الى اشلاء متفحمة , في الموت العبثي والمجاني , ان يمزق حياتهما الى الابد , والنهاية بعد الجحيم , لايتوقف مسلسله المرعب والسريالي , بأن ( صديقة ) , تستعد لمواجهة الموت المحتوم , بعد تغلب عليها مرض السرطان . في نهاية تراجيدية للجحيم ( صديقة القديسة أكملت صلاة الشكر مع بزوغ شمس الصباح الجميلة , وضعت المصحف الذي بللته دموعها تحت وسادة صغيرتها , ونزعت ثوب الصلاة الابيض الواسع الطهور , ولبست دشداشة ملونة بزهور حمراء كبيرة , واشعلت البخور وفتحت الشبابيك والابواب , استعداداً للقاء الحاسم , الذي صممته الحرب ) .

هذه فاجعة الاحزن في ملحمة ما بعد الجحيم , في سريالتها الجنونية , التي تتطابق في التشابه والتطابق , مع ملحمة الجحيم العراقي , الذي نعيشه اليوم , بأن العراق مصاب بمرض السرطان في جميع انحاء جسمه , ولا يفيده العلاج الكيمياوي , بل انه يسير الى الموت المحتوم , ولكن يستفز السؤال الكبير . ماذا بعد الجحيم ؟؟!!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


جمعة عبد الله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2019/01/28



كتابة تعليق لموضوع : قراءة في رواية ( ما بعد الجحيم ) صرخة مدوية ضد الحروب ومشعليها
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net