صفحة الكاتب : د . عبد الهادي الطهمازي

الغزو الثقافي، وأهم أدواته
د . عبد الهادي الطهمازي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

يعدُّ الغزو الثقافي أو الاستتباع الحضاري الذي يشهده عالمنا المعاصر لونا من ألوان الاستضعاف الفكري والثقافي، والمراد بالثقافة معناها العام: الأفكار والمعتقدات والسنن والآداب العامة والأخلاق والذخائر الفكرية والعقلية، بالإضافة الى العادات والتقاليد التي درج المجتمع على التقيُّد بها.
والثقافة بهذا المعنى تعطي حاملها هويته الاجتماعية، وتحدد أفقه الوجودي وتوجهه، ومرجعياته العامة، كما أنها تقوم بالعديد من الوظائف التي تؤدي الى تماسك المجتمع وفاعليته.
ومصادر الثقافة بالنسبة للأمة الإسلامية هي القرآن، وسنة النبي ص وسيرته العطرة، وسيرة أئمة آل البيت ع، وتاريخ الإسلام وأمجاد رجاله الميامين، والعادات والتقاليد العربية الأصيلة التي ورثها العرب والمسلمون عن أجدادهم من قبيل إكرام الضيف، وحماية الجار، وصون الأعراض، والصدق، والأمانة.... الى غير ذلك من مفردات ما يعبر عنه بالقيم الأخلاقية.
أما الغزو الفكري أو الثقافي: فهو ((أن تقوم مجموعة سياسية أو اقتصادية بالهجوم على الأسس والمقومات الثقافية لأمة من الأمم، بقصد تحقيق مآربها، ووضع تلك الأمة -أو المجتمع- في إسار تبعيتها، وفي سياق هذا الغزو تعمد المجموعة الغازية الى أن تحلَّ في ذلك البلد وبالقسر، معتقدات وثقافة جديدة مكان الثقافة والمعتقدات الوطنية لتلك الأمة))، وتزرع قيم أخلاقية وعادات وتقاليد غير عادات وقيم ذلك المجتمع، وهو نوع من الاستضعاف والاستتباع هبَّ على بلداننا الإسلامية في عصرنا هذا أكثر من أي وقت مضى مع انتشار رياح العولمة، وتطور أجهزة الاتصال ووسائله، واستبدلت صيغة الاستعمار بهذه الوسائل من الغزو العسكري الى الغزو الفكري والثقافي.
وتتنوع أدوات الغزو الثقافي والفكري وتتكاثر يوما بعد آخر مع الطفرة الكبيرة في تقنيات وسائل الاتصال، حتى غدت تأخذ الإنسان عموما من بين يديه ومن خلفه، وعلى السواء حتى في دول المصدرة لثقافة التخدير والاستهلاك كأمريكا مثلا، طالما كان الهدف الأساس من وسائل الاتصال وتقنياته بشقيها التقني والعلمي هو استعباد الإنسان وإخضاعه لمنهج السلطة السياسية من جانب، وللشركات العملاقة العابرة للقارات من جانب آخر، لكن من أهم أدوات هذا الغزو هو:
أولا: التلفزيون.
أصبح التلفزيون جزءا من حياة الناس اليومية، ومن ضرورات المعيشة التي لا يخلو منها بيت، حيث يجتمع حوله الصغار والكبار ويقضون أمامه الكثير من وقتهم مع الكثير من التفاعل والتأثر ببرامجه المنوعة الى حد الاندماج كليا، واتخاذ سلوك هذا البطل أو ذاك منهجا أو طريقة حياة، والذي يجعل الأمر في غاية الخطورة إن معظم القيمين على أجهزة التلفزيون وإعداد برامجه ليس لهم رسالة سوى توخي الربح المادي والكسب السريع، ولو كان على حساب ثقافة الجمهور وأخلاقه وقيمه ومبادئه التي ينتمي إليها.
وهذه الثقافة الجديدة التي تطل برأسها من شاشات التلفزيون بما يصاحبها من قدرات تكنولوجية متعاظمة في سرعة تطورها، إضافة الى تقنيات الإخراج من مؤثرات الصوت المجسم والألوان المبهرة، وتقنيات التكثيف والتركيز والتكبير والتصغير..... مرشحة لأن تهيمن كليا على صناعة الموافقة للكبار -أي الموافقة على الوضع السياسي والاقتصادي السائد- والتنميط الكوني للأجيال الطالعة.
ولا نقصد أن كل قنوات التلفزيون تهدف الى ذلك ففيها العديد من القنوات الجادة والحريصة على السلامة الفكرية والذهنية للمتلقي، إلا إن هذه القنوات قليلة مقايسة بمئات القنوات التي تبثُّ سمومها ليل نهار؛ لتعكير ذهنية المتلقي والتشويش على قيمه ومعتقداته وعاداته وتقاليده.
ويحارب القائمون على إدارة التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى الجمهور على جبهتين:
الأولى: تكريس قوة السلطات الحاكمة.
أما الثانية: وهي تزييف وعي الجمهور
وتقوم بعملية الاختراق والغزو للفكر والإدراك جملة من البرامج التلفزيونية نذكرها بإيجاز:
1-مواد الترفيه.
تحتل مواد الترفيه من أفلام ومسلسلات مساحة واسعة من ساعات البث التلفزيوني، وتشكل الدراما رافدا أساسيا من روافد البرامج المتدفق عبر الشاشة، ومع انتشار تقنية الأقمار الصناعية وأجهزة الاتصال الرقمي (Satellite) ازداد عدد القنوات الفضائية التلفزيونية بشكل مطَّرد، وغدت تُعدُّ القنوات الفضائية المتخصصة في بث الأفلام والدراما والأغاني وغيرها من برامج الترويح والتسلية بالمئات.
وتشكل المسلسلات مركز الثقل في الدراما التلفزيونية، ولهذه المسلسلات قدرة عالية على استقطاب المشاهدين والاستحواذ على الاهتمام الجماعي، والملاحظ اشتداد الحملة على فكر المشاهد وروحه في أشهر الطاعات كشهر رمضان الكريم أكثر من أي وقت آخر، فصار منتجو الأعمال الدرامية العربية ينتجون المسلسلات خصيصا لهذا الشهر، وقد بلغ عدد المسلسلات المنتجة والمرشحة للعرض خلال شهر رمضان من عام (1431هـ) أكثر من ثمانين مسلسلا عربيا، وبلغت تكاليف إنتاج بعض هذه الأعمال ما يقارب أحد عشر مليون دولار أمريكي.
كما تصاعدت حمَّى المسلسلات الأجنبية خصوصا التركية منها، بعد أن دبلجت الى اللهجة العامية اللبنانية، فغرق المشاهد العربي والمسلم في بحر التسلية التلفزيونية حتى شحمة أذنيه.
ويتم تمرير مضامين وأفكار سقيمة من خلال هذه المسلسلات، تسهم في تخريب القيم أو إفساد الذوق، أو الإساءة الى التاريخ عن طريق قلب الحقائق أو تشويهها، أو تسهم في تخدير الجمهور وإغفاله عن قضايا وطنه وأمته ودينه، وتبعده أشواطا عن الثقافة الجادة والرصينة.
ولعل من أخطر المفاهيم التي تبثها تلك المسلسلات خصوصا المدبلجة منها ما يلي:
1-تشجيع العلاقات المحرَّمة القائمة على الصداقات والزنا واختلاط الأنساب، وقبول ذلك في الأسرة الواحدة!
2-ممارسة الإجهاض الذي تحرمه كل شرائع الدنيا، وكل اتجاهاتها الدينية والعلمانية في تلك المسلسلات على أنه حل لمشكلة الزنا والعلاقات غير المشروعة، بل لا نجد فيها ما يحرم ذلك من طب أو قانون أو عقيدة!
3-نشر ثقافة العري والأزياء الغربية الفاضحة، وتعاطي الخمور والمسكرات.
4-عرض مشاهد القبلات واللقاءات خارج نطاق الشريعة دون حياء.
5-تشجيع النساء للتمرد على أزواجهن، وجعل القوامة في أيديهن.
الثاني: العنف
ظاهرة العنف التي تركز عليها مواد الترفيه في التلفزيون كانت ولا زالت محط اهتمام الباحثين، حيث ركزت الدراسات على مخاطر مشاهد العنف على المتلقين عموما وعلى الأطفال بشكل خاص، وقد خلصت بعض الدراسات الى النتائج التالية:
1-تنمية الروح العدوانية
حيث ترسخ الأفلام حالة الغضب والتهييج العصبي والاعتماد على القوة في أغلب الأحيان، وتنمي حالة التسلط والقسوة عند الأطفال، فتتحول حياة الناس الى عراك مستمر تقليدا لما تطرحه الأفلام والمسلسلات من مشاهد.
2-إشاعة التفكير الأسطوري
فالملاحظ أن مواد الترفيه تستخدم في مشاهد العنف السرد الأسطوري الخرافي، وقد اتسع نطاق استخدام الأساطير بفضل التطور التقني، فسعى شياطين الأرض لنشر وترويج الأساطير فغدا الملايين من الناس يتسمرون لساعات أمام الشاشات ليروا الدمى وهي تقتل وتتحرك، وتخلط الحقيقة بالخيال لتشويه فكر المشاهد، وإبعاده عن واقعه.
الثالث: إشاعة الفحشاء والرذيلة في المجتمع
إن مواد العنف والجنس من أكثر المواد جاذبية من بين مواد الترفيه، وهي من أكثر الدوافع لاقتناء تكنلوجيا متطورة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المشاهدة. ويهدف مروجو الرذيلة في المجتمعات الى أهداف كثيرة
منها: أضعاف الغيرة والحمية، بدعوى التطور والتحرر وحرية المرأة وما شابه ذلك من عناوين رنانة.
ومنها: دفع المرأة الى الابتذال بارتداء ملابس مشابهة لتلك اللاتي يظهرن على شاشات التلفزيون.
ومنها: إشاعة الفواحش خارج نطاق الأسرة، وتكثيف قضية الحب والعشق واتخاذها قضية محورية في مواد الترفيه.
ومن أدوات الغزو الثقافي الأخرى غير التلفزيون
1-الرياضة
تحتل الرياضة مساحة واسعة من اهتمام الشباب وبعض الفئآت العمرية الأخرى، والرياضة لم تعد بريئة كما كانت سابقا، بل هي بشكلها الحالي تأخذ أولا وفوق كل الشيء الربح المادي والتجاري، فبيع تذاكر المباريات، وحقوق البث تبلغ المليارات وأسواق بيع اللاعبين خير شاهد على ذلك.
في حين يعيش الكثير من الناس في كل أرجاء العالم حياة البؤس الفقر والموت جوعا.
والأمر الآخر هي أن الرياضة أصبحت شغلا شاغلا للكثير من الشباب وهوسا لهم، مما أضعف مستواهم الدراسي والعلمي والثقافي، ولم نعد نرى شابا يطمح أن يصبح طبيبا أو عالما بل أغلب أماني الشباب هي أن يصبح لاعب كرة فهي توفر له الشهرة والكسب السريع.
كما غيَّبت الرياضة الاهتمام لدى شريحة كبيرة من الشباب في العالم الإسلامي بقضايا دينهم وأوطانهم ومجتمعهم.
2-الانترنت
لا يقل الانترنت خطورة عن التلفزيون، بل لعله أخطر بكثير منه، لأن استعمال الانترنت غالبا يكون بدون رقابة الأسرة، كما أنه بلا رقابة في العراق، لذا يسيء الكثير استخدامه، وخصوصا فئة الشباب.
كما أنه أضعف القدرة على البحث والتحقيق، فأدى عكس وظيفته، حيث يعتمد الكثيرون على المعلومات السطحية التي تنشر فيه، والخالية من الدقة العلمية غالبا.
وأبعد الانترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أفراد المجتمع عن مجتمعاتهم، وجعلهم يعيشون غرباء فيه، منغمسين في عالم افتراضي، فضعفت العلاقات الاجتماعية والاهتمامات الأخوية، فالفرد المدمن على الانترنت يعيش في عالم غير العالم المحيط به ومعزول عن أفراد مجتمعه.
3-الهواتف الذكية
وزاد الطينة بلة الهواتف الذكية التي أصبحت في متناول كل الأيدي حتى الأطفال.
وهذه إضافة الى استخدامها للتواصل عن طريق الأنترنت، إلا أن خطورتها لا تقف عند هذا الحد بل بالمجموعات الكبيرة من برامج الألعاب التي تشغل الشباب والأطفال عن الدراسة والقراءة والمطالعة الثقافية، وقد أصبحت هذه الألعاب سببا في الإدمان على هذه الأجهزة.
عقد قبل 25 سنة تقريبا مؤتمر في فندق سان فيرمونت عند الحدود المكسيكية حضره كبار أصحاب الشركات العملاقة العابرة للقارات، كما حضره كبار الساسة والمخططين الستراتيجيين، وقد طرح في المؤتمر أهمية الاعتماد على الآلات الصناعية وتسريح العمال من أعمالهم.
ولما طرح إشكال إن هذه الإجراءات ستجعل الكثير من الشباب بلا عمل، اقترح بريجنسكي مستشار الأمن القومي الأمريكي السابق مشروعا اسماه رضاعة التسلية.
يضاف الى ذلك المخاطر الصحية التي يتعرض لها مسخدمو هذه الأجهزة بدءا بضعف النظر، وآلام الرأس والرقبة وغير ذلك.
إن استخدام هذه الأجهزة أصبح أمرا لا مفر منه، ولكن يجب تقنين هذا الاستخدام وتضييق مساحته الى أكبر قدر ممكن كأن يكون ساعة أو ساعتين في اليوم فقط، ولا يترك بيد الأطفال وفي متناولهم بشكل دائم، فإنه سوف يؤثر على مستواهم الدراسي والصحي بكل تأكيد.
فهذه أيها الأخوة هي أهم الوسائل والأدوات التي يستخدمها الغرب في الهجوم على هوية المجتمعات لسلخها عن واقعها، واستتباعها ثقافيا وحضاريا، وتمييع هويتها الوطنية والدينية.

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . عبد الهادي الطهمازي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2018/12/09



كتابة تعليق لموضوع : الغزو الثقافي، وأهم أدواته
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net