صفحة الكاتب : محمد غازي الأخرس

الناجون من «معجم أدباء أم المعارك»
محمد غازي الأخرس

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

لست من الباحثين عن السفاسف، لكنَّ حديثاً تجاذبنا أطرافه أنا وصديقي الشاعر زعيم النصّار مؤخراً كاد أن يمزّق نقاباً ما فيفضح كل شيء. ابتدأ الأمر حين دعاني النصار إلى منزله ليُريني أشياء تعجبني. ثم تبيّن أنها ملفّات عار ارتكبها كثرٌ من زملائنا ممن امتدحوا صدام حسين وتغنّوا بحروبه. قال النصار إن لديه من هذه «التحف» ما لو نشره على الملأ لطلعت الشمس على وجوه اللصوص!

وتسمية «ملفات العار» ليست من عندياتي، بل إنني استعرتها من صديق شاعر وصحافي مرموق كان يحتفظ في عمّان بعشرات المجلدات التي صنعها بنفسه حيث كان يقتطع القصائد والمقالات والقصص المادحة لصدام من الجرائد والمجلات ويلصقها في تلك المجلدات، معتقداً - عن حق - أن زمنها لا بدّ أن يحين بعد سقوط الدكتاتورية. كان الرجل يفخر بمجلداته تلك، ويضعها في صدر مكتبته، كونها حصيلة شغف شخصي في توثيق ما قيل في نظام «البعث».

حين حدّثني زعيم النصّار عن الأمر تذكّرت صديقي في الأردن، استدرت وسألتُ عن أصحاب تلك الملفات؟ فأجاب: فلان وفلان، علان وعلتان... ثم لكأنني عدت لأتساءل بحيرة طفل: أهؤلاء الذين يتصدّرون مشهدنا هذه الأيام كتبوا تلك الكلمات عن «القائد»؟

فضحك «النبَّاش» وقصّ عليَّ شيئاً طريفاً، مفاده أن بعض الأصدقاء حصلوا - بعد سقوط النظام السابق – على نسخة مما يُسمَّى «معجم أدباء أم المعارك» (جمعه: عدنان رشيد الجبوري، وطُبع في وزارة الثقافة والإعلام سنة 2000) وصاروا يتداولونه لفضح مرتزقة الأدب. وقد أُشيع حينها أن كريم حنش، صاحب المكتبة المعروفة في شارع المتنبّي، هيأ لأحدهم نسخة من المعجم فكان بعدها ما كان. إذ ظهر البعبع المسمَّى ساهر الهاشمي، وهو اسم مستعار سارع إلى إنشاء موقع الكتروني تحريضي يُذكِّر بما كتبه مئات الأدباء العراقيين في مديح صدام. والنتيجة أن المادحين ارتعبوا وبلغت القلوب منهم الحناجر! ويقال إن أحدهم أصيب بمرض السكري، خصوصاً بعد إصدار إحدى الجماعات المسلحة بياناً تتهدّد فيه مَن ذُكرت أسماؤهم بالويل والثبور.

يقول زعيم النصّار إن هذه المجموعة مؤلفة من عشرين مجلداً فيها أسماء جميع من كتبوا تمجيداً للقائد، كلّ «لشة» معلّقة أمام نصّها، حيث أُثبِتَ مكان النشر وعدد الجريدة أو المجلة وتاريخ الصدور.

سألته إن كان قد رآها بنفسه فابتسم وقال: نعم. فقلت له بطريقة عادل أمام الشهيرة: «أنا اسمي مكتوب»؟ فقهقه وقال: «لا. لا أنت ولا فلان ولا فلان ولا فلان»، ثم راح يستحضر أسماء الناجين من ذلك الجرف الهاري، وما أقلّهم.

بالطبع من حقّ أيّ إنسان أن يعبّر عن رأيه، فيمتدح من يشاء ويهجو من يريد، يلعلع بصوته أو يصمت. لكن المزعج أن يركب بعضنا الموجة كلما علت، وأن يبقى منطق «خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام» سائداً. من كان ينتظر الأعطيات عند بوابات القصر الجمهوري يعود لينتظرها عند بوابات المنطقة الخضراء. بينما الذين هُمِّشوا وغُيِّبوا و«راحت عليهم» أيام المحنة، يُهمَّشون ويُغيَّبون و«تروح عليهم» في أيام «الفرج».

لأقصّ عليكم هذه الذكرى: بعد منتصف التسعينيات حاصرني الجوع إلى درجة أنني عملت «صبياً» في المسطر عند أبي فراس، بائع الكبّة، ثم تنقلت من هذا العمل المزري إلى ذاك... إلى أن انتهى بي المطاف واقفاً خلف عربة حقيرة أبيع حبّ عبّاد الشمس في سوق الـ40000 بمنطقة الشعب في بغداد. كنت يومها أباً لطفلَين ومتخرّجاً للتو من كلية اللغات، أتشدّق بإجادتي الفرنسية وأحلم بكتابة الشعر والغرق في عالم النقد. كنت أقفُ خلف العربة ذليلاً أنظر إلى المارة علهم يشتهون «الحَبّ» ثم يمدّون الأكف إلى جيوبهم. وذات يوم لمحتُ أحد أصدقائي يمرّ في الشارع، إنه الشاعر «هههه»، المحرر في جريدة «ططط»، البارع في «النثر الوطني» (مصطلح شاع بعد منتصف التسعينيات كتخريج «شرعي» لمديح من نوع جديد أبطاله عشرات الكتّاب الذين يخجلون من مدح صدام حسين باسمه فيستبدلون ذلك بمديح الوطن والتغزل بأنهاره وجباله، وكانت المكافآت مقابل نشر نص من «النثر الوطني» أقل من مكافآت النصوص الصريحة، لكنها لا تختلف عنها في شيء فهي مدعومة من السلطة وأُريد بها توريط من لم يتورّط حتى شيوعها). كان يحمل حقيبته بيمناه، بدلته مكويّة وشعره الأسود يلمع. إنه ذاهب ليسكر في مبنى الاتحاد ربما، أو لعله في طريقه إلى العمل. وبما أني أعرَفُ الناس بخبثه، فقد اختبأتُ خلف العربة، كي لا يراني فيشمت بي. وبعد تكرار مروره الرشيق في الأيام التالية عرفت أن داره تقع قبالة السوق. وكنت في كل مرة أُداري نفسي عنه وأتوسّل بها قائلاً: «لا يشوفك يا معوَّده»! وتكرّ سبحة الأيام، فيسافر الشاعر «هههه» إلى عمّان هرباً من «قمع» النظام! وبعد أشهر ألحق به. أصادفه مقابل «مقهى السنترال»: إنه هو، التسريحة ذاتها والحقيبة ذاتها. يبتسم ابتسامة عريضة ما إن يراني ثم «يحنّ» عليّ فيعرض أن يتوسط لي لأعمل معه في المعارضة! كان يتحدّث وكأنه غيفارا، وكنت أستمع وكأنني تراره، هل تتذكرون تراره؟ إنه شخصية مسرحية يتذكرها العراقيون جيداً، أدَّاها الممثل خليل عبد القادر في «البستوكه»، وهو عمل «عُرِّق» في السبعينيات عن مسرحية «الجرّة» للويجي برونديلو، وأخرجه سامي عبد الحميد الذي أخرج لاحقاً «زبيبة والملك». في المسرحية المذكورة، يتورّط تراره المسكين فيجد نفسه داخل بستوكه (جرّة كبيرة تستخدم لتخمير المخللات) يتوسّل الآخرين أن ينقذوه دون جدوى. ويكتشف في النهاية أن الحل الوحيد هو كسر الجرّة ليتحرّر من سجنها.

نعم، في تلك اللحظة، لحظة عرض عليّ «هههه» العمل معه في المعارضة، شعرتُ بالأسى، فالرجل الذي اختبأتُ منه في جرّتي في العراق لئلا يشمت بمذلتي، أمسك بي متلبساً في الأردن فعرض عليَّ المساعدة بعدما غيَّر جلده!

نعم يا صديقي زعيم النصار؛ خيبتنا مضاعفة إذ لم نغنم من المرحلتَين سوى احتفاظنا بجلودنا، نجونا من دخول «معجم أدباء أم المعارك» لندخل في جرّة جديدة لا تختلف كثيراً عن بستوكة تراره. ونحن اليوم أحوج ما نكون إلى من يكسر جرّة ما بعد صدام لنتحرّر من هذا الزيف المطبق في الثقافة العراقية.

هذا هو مجدنا:

-       أنا أسمي مكتوب؟

-       لا، لا تخف... لا أنت ولا فلان ولا فلان.

-       تييييييي... ربحنا(*).

(*) عبارة تهكم مشهورة في العراق. كان جدّي لا يتوقف عن ترديدها مع إطالة الـ تيييييييييييي وبصوت عالٍ جداً.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد غازي الأخرس
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/31



كتابة تعليق لموضوع : الناجون من «معجم أدباء أم المعارك»
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net