صفحة الكاتب : الشيخ محمد قانصو

الكهرباء مقطوعة !
الشيخ محمد قانصو
 قبل أيام دعاني أحد الأصدقاء للسهرة عنده, ولم أجد بدّا من تلبية دعوته خوفاً على نفسي من تهمة الاعتزال, وخوفاً على صديقي من زعل قريب.
وما إن استقرّ بيّ المجلس واستفتحت بالسلام, حتى توافد على صاحبي جمع من الأصحاب, عرفت لاحقاً أنهم معتادون على السهر عنده. وما هي إلا هنيهات حتى تمزّق السكون وتبدّد الهدوء, وعلت الأصوات وتجاذب الرفاق أطراف الكلام, ونلت حظّاً  من المشاركة المقتضبة, لكنني فضّلت ليلتها السكوت والاستماع أكثر, فأنا أفضل الإنصات هذه الأيام..
.. واحتدم الجدال, ودارت الأرض دورتها في تلك الغرفة الصغيرة المتواضعة , وخيّل إليّ كأني أسير في قافلة مكتوف اليدين, معصب العينين بغير وجهة, والقافلة تجول أصقاع العالم العربيّ المشغول بالثورات, الباحث عن الذات..
وتحطّ القافلة رحالها في قطر عربيّ, ويبدأ الرفاق التحليل والتنظير, وإسقاط الأحكام, ومحاكمة الشعب, ومحاسبة النظام. وتسير القافلة إلى قطر آخر, ويستأنف الساهرون التعليل والتبيّين ليخلصوا إلى آراء متابينة متماثلة, ووجهات نظر متقاربة متباعدة.
ولكم استوقفني وأعجبني هذا الوعيّ السياسيّ, وتلك الإحاطة العفويّة غير المتخصّصة لدى هؤلاء الشّبان, رغم اختلافهم وتنوّع آرائهم, و أدركت معها قدرة اللبنانيّ المثقل بالهموم والمتاعب على المتابعة والتحليل, ورغبته بإبداء الرأي, واعتبار أنّ كلّ ما يجري في هذا العالم يخصّه ويعنيه.
لكنّي شعرت بالخيبة أيضا, إذ إنَّ القافلة التي صالت وجالت في بلاد العرب لم تدخل لبنان!, ولم يعلُ صياح ساسة السهرة لشأن هذا البلد الذي يقيمون فيه, ولا أعرف السبب, وأخاف أن أعرفه حقّا!..
لكنّ حديث النفس قهريّ, ولم ينثني عن إطلاق تحليلاته هو الآخر في جمجمتي التي ضجّت صخباً سياسيا, وامتلأت دخاناً كثيفاً من نراجيل القوم المحلّلين .
وتراءى لي أنّ في لبنان من يفكّر عن الشّعب بالوكالة, ويحلّل عنه, ويقرّر له, فلماذا يتعب نفسه في جدال فضوليّ, ولماذا يعنّي النفس بما يحضّر لها في مطابخ ولاة الأمر القائمين.
وبينما يستمرّ الجدال و يتصاعد الدخان, وعيناي المسكينتان تتكلّفان توزيع نظرات الإعجاب على الخطباء الحاضرين, ورأسيّ يومىء قبولاً وتسليماً لكلّ المتحدثين, وإذ بضوء يشّع في الغرفة وينطفئ سريعا, ليطفئ معه الجدال العقيم, ويطلق بعض الألسن بالسبّ واللّعن للكهرباء وساعتها, وللمسؤولين عنها ..
هذه اللمعة الخاطفة كانت أشبه بنذير للقوم الذين امتدّت بهم السهرة على ضوء شمعة, وقد انطلقوا يحلّلون وينظّرون للعالم وهم غارقون بالعتمة لولا هذه النحيلة الجميلة المضحيّة ..
لقد ذكّرتنا اللمعة أننا قوم ما زلنا نستجدي كهيرباء, ونستمطر الماء, ذكّرتنا أننا في دويلات لا نحسد عليها, تحكمها المكاسب والمصالح الطائفيّة والمذهبيّة الضيقة, ويتمترس فيها اللبنانيّ خلف كتابه السماويّ ليحقد بالله على أخيه, وربما ليقتله باسم الله أيضا, متناسياً جوعه وفقره وذلّه, متجاهلاً فراغ يديه أمام باب المدرسة والمستشفى, متنكّراً لصمته القاتل أمام عينيّ طفله وهو يطالبه بأكثر من الخبز, وأبعد من حديقة الدار,  ذكّرتنا أننا في بلد أولى بالتغيّير الجذريّ لأنّ إنسانه يفتقد الشعور بالكيان والوجود ..
نعم ذكّرتنا أنّ الكهرباء مقطوعة وأنها سوف تبقى مقطوعة حتى إشعار آخر .. أو ينتبه الشّعب !..
وحتى تجيء الكهرباء ونبصر النّور .. تصبحون على وطن !..
 
Cheikh_kanso@hotmail.com

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ محمد قانصو
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2011/12/26



كتابة تعليق لموضوع : الكهرباء مقطوعة !
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net